أول من التقطت صوراً للقمر

ثلاثة ابتكارات ثورية في التصوير الفوتوغرافي الحديث

 

لقد قرأت بتقدير كبير تفاعل القراء مع ما كتبته من تقرير عن بدايات التصوير الفوتوغرافي وتقنياته كيف كانت.

مما دفعني إلى المزيد من البحث عن بعض الجوانب المهمة في تقنيات عالم التصوير المختلفة فكان هذا التقرير عن تقنيات عدسات انجينيو التي ساهمت في خدمة تقنية التصوير العالمية وبصورة مدهشة وعلى الأخص استخدامها من قبل أشهر الوكالات العالمية والتي من أهمها وكالة “ناسا”، حيث زودت الكاميرات التي استخدمتها هذه الوكالة في رحلتها التاريخية للقمر، علما أن الوكالة اعتمدت كثيرا على العديد من الكاميرات الشهيرة والتي من أهمها كاميرات “نيكون” العالمية.

في 12يوليو 1961م شاهد ملايين الناس الحدث التاريخي حين مشى أول رجلين على سطح القمر وهما رائدا الفضاء الامريكيان نيل ارمسترونغ وادوين الدرين، وشوهد انفصال المركبة القمرية عن مركبة القيادة وتوجهها نحو سطح القمر بواسطة عدسة تصوير اعتمدتها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا وهذه العدسة هي من صنع فرنسي مغمور وهو رائد تكنولوجيا البصريات العالمية ويدعى بيار انجينيو.

تعتبر شركة انجينيو من أوائل الشركات المجددة في علم البصريات،

فإذا كانت آلة التصوير التي تقتنيها مزودة بعدسة زوم فيمكنك أن تشكر انجينيو الذي أتقن صنعها، وإذا ركبت مرة طائرة ايرباص، حيث جهز حاجب الريح الزجاجي في غرفة القيادة بنظام سهل القراءة لتعليمات القيادة فلك أيضا أن تشكر انجينيو على التكنولوجيا البصرية التي أتاحت ذلك وإذا شاهدت مغامرات جاك كوستو تحت الماء أو أفلام بريمنغز أو كلود لولوش فمن المحتمل أن تكون المشاهد التقطت بعدسات انجينيو.

يقول جان فيرا رئيس شركة بوليو لآلات التصوير السينمائية والفيديو: (عدسات انجينيو هي رولز رويس عدسات التصوير لذلك نستخدمها في أجهزتنا لان كل عدسة تحفة فنية رائعة)، ولكن كيف تطور هذا العمل العائلي الفرنسي إلى قوة عالمية في علم البصريات؟

الأجوبة هناك في بناية بيضاء ذات واجهة مستديرة جاثمة على رأس تلة في بلدة سانتيان التي تبعد 54كيلومترا الى الجنوب الغربي من مدينة ليون، داخل هذه البناية تكمن جميع أسرار عائلة انجينيو، انه البيت الذي بناه بيار انجينيو الذي ولا يزال المرشد الملهم وأنشط المخترعين في هذا المكان.

في المدرسة التي لا تزال قائمة هناك أظهر بيار الصغير استقلالية في التفكير وحبا للاستطلاع وذات يوم حل عملية حسابية ودهش عندما اعتبر معلمه الحل خطأ، فواجهه بجرأة (أظن أن جوابك أنت هو الخطأ يا استاذ) ولدى المراجعة وجد المعلم أن الكتاب الدليل كان هو المخطئ.

اما ابن بيار جاك الذي يعمل على تصميم عدسات الكترونية فيقول عن ابيه (انه تعلم الا يثق بمعرفة الناس لمجرد كونهم خبراء).

التحق بيار بمعهد الهندسة (الفنون والصنائع) في بورغندي ومن ثم بمعهد علم البصريات في باريس وبعد عمل قصير في شركة باتيه للسينما ثم مع صانعي آلات تصوير سينمائية خارج باريس عزم عام 5391على الاستقلال بعمل خاص وبعد ثلاث سنوات اخذ يبحث عن بناء ملائم في بلدة سانتيان وسره أن يجد بناء المدرسة القديمة لا يزال قائما فنقل عمله الى هناك ليساعده اثنا عشر موظفا.

خفت اعمال انجينيو خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن بعد ذلك استعاد نشاطه وفي الخمسينات حقق ثلاثة ابتكارات ثورية في التصوير الفوتوغرافي الحديث: عدسة ذات زاوية واسعة للكاميرات ذوات الصور المنعكسة والعدسة الواحدة وعدسة للتصوير السينمائي في الضوء الخافت وعدسة زوم، هذه الابتكارات المتطورة كانت أساس نمو شركته، لدى مشاهدي التلفزيون اليوم معرفة احدث العدسات، صورها دقيقة وواضحة عن قرب وعن مسافات بعيدة جدا بعدسات زوم اما في الخمسينات فلم يكن في وسع المصور ان يأخذ لقطة عن قرب دون ان يوقف التصوير ويغير عدساته او يجر الكاميرا الى الامام والجهود الرامية الى جمع كل الامكانيات في عدسة واحدة بائت بالفشل لانها اعطت صورا مشوهة حتى ان بعض العلماء في المانيا الغربية توصلوا إلى استحالة تطوير مثل هذه العدسات الكاملة.

لكن انجينيو تجاهل استنتاجاتهم وأجرى آلاف المعادلات وتمكن عام 6591من صنع اول عدسة زوم دقيقة في العالم وكانت من الروعة والكمال بحيث ان انجينيو سيطر خلال سنوات قليلة على 09% من سوق التلفزيون والسينما ولا تزال شركته تحتفظ بهذه النسبة في سوق العدسات السينمائية.

عقد انجينيو اتفاقا مع شركة “بل وهويل” الجبارة في الولايات المتحدة لصنع عدسات عالمية الاتقان لآلات التصوير السينمائية المعدة للهواة من عيار 61ملم التي كانت مبيعاتها آخذة في النمو وبذلك بلغ الذروة في اعماله وفي اوائل الستينات على رغم ارتفاع الاجور وضغوط المنافسة اليابانية، تحولت الشركة الى صنع معدات عالية التقنية للمحترفين، فحققت ارباحا طائلة. بدأ ذلك عام 46عندما اتصلت ناسا بانجينيو لاعلامه ان عدساته اثبتت انها الاكثر اتقانا بين العدسات التي اختبرتها الوكالة، فهل يرغب انجينيو في صنع عدسات لمسير الفضاء “راينجر” غير المأهول المقرر ان يلتقط صورا قريبة للقمر؟

يذكر المهندس اندريه ماسون رئيس دائرة البحث والتطوير في شركة انجينيو التحدي الذي واجه دائرته (كان على “راينجر7″ ان ينطلق نحو القمر ويتحطم على سطحه ونظرا لسرعته الفائقة وكي لا تأتي الصور مغشاة فعلى العدسة حين يفتح غطاؤها ان تجمع اكبر مقدار من الضوء ذلك بأن القمر جسم قاتم على نحو غير عادي بلون الاسفلت الجديد).

وعندما اكمل ” راينجر7″ مهمته وتحطم على سطح القمر كانت آلات التصوير الثلاث المجهزة بالعدسات الفرنسية الصنع التقطت 0002صورة ارسلت الى الارض وفي مهمتين لاحقتين ارسلت عدسات انجينيو 0006صورة اخرى لتخطيط سطح القمر. تلت ذلك رحلة “ابولو” 9691وبعد النزول التاريخي على سطح القمر رجع ارمسترونغ و الدرين في المركبة القمرية الى مركبة القيادة وقد امكن الملايين في العالم مشاهدة هذه الرحلة بواسطة آلة تصوير من صنع “وستنغهاوس” ركزت في مركبة القيادة وكانت مجهزة بعدسة زوم من صنع انجينيو.

بعد ثلاث سنوات كلفت ناسا انجينيو ان يبتكر عدسة زوم لارسال صور تلفزيونية من المختبر الفضائي سكاي لاب، ولكن هذه المرة لم تجر الامور وفقا للخطط المرسومة اذ انه قبيل الانطلاق اجري فحص حراري للعدسة فانكسرت فيها قطعة زجاج، يقول ماسون (جندنا جميع موظفينا وعملنا خلال عطلة الاسبوع لصنع عدسة جديدة وطرنا الى نيويورك وسلمناها الى المسؤول في وستنغاهوس الذي أخذها الى فلوريدا ووصلت في الوقت المحدد وقد عملت العدسة بما يشبه السحر) تأثرت ناسا بهذا الانجاز الخارق فطلبت من انجينيو ان يصنع عدسات للمشروع الامريكي السوفييتي المشترك عام 5791حين التصقت المركبة الامريكية ابولو بالمركبة السوفييتية سويوز 91وفي وقت لاحق حمل المكوك الفضائي بانتظار اربع عدسات من صنع انجينيو لتسجيل نشاطات الملاحين داخل المكوك وخارجه ويقول روبرت ميلر رئيس قسم الهندسة في شركة “RCA Astro” ، لقد أدت لنا العدسات خدمة عظيمة إنها مجهزة بقزحية فريدة يمكنها التكيف لدى الانتقال من الضوء الخافت في عمق الفضاء إلى ضوء الشمس القوي والتقاط صور رائعة في منتهى الدقة والوضوح.

وهنا يجدر بنا أن نسأل عن ماهي العدسة بالضبط وكيف تصنع؟، فالعدسة تشتمل أساسا على عنصر او اكثر في كل منها مزيج من السطوح المحدبة او المقعرة او المسطحة يركز اشعاعات الضوء وللعدسة المكبرة العادية سطحان مصقولان اما عدسة زوم المعقدة التركيب فربما بلغ عدد سطوحها اربعين لذا فان تصميم عدسة جديدة هو عملية بالغة التعقيد ربما استغرقت اشهرا لاختبارها بالادمغة الالكترونية قبل تجربة اول نموذج لها في المختبر حالما يكتمل التصميم يطلب انجينيو من أفضل صانعي الزجاج في العالم ألواحا زجاجية ذات تقوس تقريبي بحسب مواصفاته تدخل الالواح آلة مزودة جفنا يطبق على العدسة فيشحنها ليصبح التقوس اقرب ما يمكن من المطلوب وفيما تستغرق عملية الشحذ الخشن نحو دقيقة باستخدام الروبوت فان صقل كل سطح من العدسة ربما استغرق ساعة كاملة ويقتضي لذلك مراقبة حرفي ماهر يتمتع بسنين كثيرة من الخبرة

تدخل العدسة بعد ذلك غرفة مقفلة خالية من الغبار فيها حجرات خالية من الهواء مضبوطة بدماغ الكتروني هنا تغلف وتعالج بأربعين طبقة مختلفة من الماغنيزيوم فلورايد ومواد كيميائية أخرى بعض الطبقات لا تتجاوز ثخانتها جزءا من الميكرون يشرح ذلك برنار انجينيو ابن برنار البكر المسئول عن التسويق (العدسة غير المغلفة تعكس اربعة في المئة من الضوء وتبددها وفي امكاننا خفض هذه الخسارة الى ما يراوح بين واحد و 0.1في المئة عبر التغليف الخاص).

هذا المزيج من الخبرة العلمية والتقنية يدفع انجينيو الى ابتكارات جديدة ففي العام 3891انجز للسوق الشعبية عدستي زوم سهلتي التعامل بطول بؤري هو 53- 07ملم و 07- 012ملم وفي يوليو 6891انجز عدسة تصوير مقربة من قياس 081ملم بطول بؤري ثابت وهي اخف من منافساتها وتلتقط صورا بالغة الدقة عن قرب او عن مسافة لا متناهية في البعد وحتى في ضوء باهت جدا وفي العدسة المقربة الجديدة ثمانية عناصر تعمل على نحو مبتكر لتحقيق تقدم في جودة الصور.

وطورت الشركة للطيران الحربي والمدني نظاما بصريا لعرض مميز فعندما يقترب قائد الطائرة من المدرج للهبوط ليلا او في رؤية سيئة يظهر ارتفاع الطائرة وسرعتها ووضع جناحيها على شاشة شفافة أمامه او على حاجب الريح الزجاجي وهكذا يمكنه قراءة المعلومات من دون ان يحول نظره عن المدرج.

ابتكر انجينو ايضا مجموعة مصابيح كهربائية عالية التقنية للجراحة مصممة لالقاء أقصى كمية من الضوء على طاولة العمليات وتخفيف الظلال الى الحد الادنى وبواسطة عدة مرايا متحركة يمكن الجراح ان يركز الضوء على نقطة صغيرة او ينشره على مساحة واسعة وان يعدل قوة الضوء لفحص الانسجة المكشوفة او الاعضاء الداخلية وتستعمل هذه المصابيح في ما يزيد على 002مستشفى بالولايات المتحدة.

بمثل هذه الانجازات يحفظ انجينيو مركزا بارزا في سوق الاداوت العالمية التقنية وفي شركته 005عامل ينتجون قرابة 08الف عدسة سنويا تستخدم في 07نوعا من الأدوات البصرية الدقيقة ويصدر 08% من الانتاج يذهب معظمه الى الولايات المتحدة لكن الشركة تؤمن عدسات لجميع الشركات اليابانية الرئيسية المنتجة لآلات التصوير.

يحتل انجينيو الصدارة في حقل الابتكار وهاهو اليوم يتخلى عن الإدارة لخلفائه لكنه لا يزال يحب اكثر من أي شيء ان يعمل على تصميم عدسة جديدة ومع كونه رائدا شبه اسطوري فإنه يتهرب من الأضواء وعندما منحته الاكاديمية الامريكية للعلوم والفنون السينمائية جائزة اوسكار في فن التصوير السينمائي لم يترك عمله بل ارسل ابنته مارتين نيابة عنه الى هوليوود لاستلام الجائزة وحين منحته الحكومة الفرنسية وسام جوقة الشرف قبله بشرط ان يقدم إليه في بيته.

وعدسات انجينيو القديمة في اليوم تحف يجمعها الهواة وقد ابدى انجينيو دهشة اذا علم ان الممثل الامريكي جيري لويس هو احد هؤلاء الهواة الكبار

ومع ذلك عندما سئل عن اهم لحظة في حياته اجاب من دون تردد (رحلة راينجز 7، انها تتحرك فيّ الى اليوم عواطف عميقة حين اتطلع الى صور فوهات البراكين على القمر انها اجمل لحظات حياتي وسأخبرك شيئا آخر عندما تحطم راينجز 7اعتقد ان عدسات التصوير الثلاث التي صممتها كانت أول ما يلامس سطح القمر، ربما سحقت وتفتت هي وست عدسات أخرى لكنها لا تزال هناك).