لوحة تنتمي إلى التجريد المطلق
الفن التجريدي… ما هو… وكيف نفهمه؟

التطور العصري.. والوعي الزماني أساس التجريد

«ينتظر الجديد ولادته… في حين يمضي القديم بموته»
يقول شيطان «فاوست» (مفستوفيلس): «إن كل نظرية هي غبراء، أما الشجرة الذهبية للحياة فخضراء. وكل إنسان لا يتعلم الا ما يستطيع ان يتعلمه، وحين تعوزك الأفكار فقد تحل محلها الكلمات، في الوقت المنّاسب، فبالألفاظ يُمكن الجدل جدالاً بارعاً. ويمكن إقامة مذهب بالألفاظ.. ومن يرد أن يتعرف ويصف شيئاً حياً، يسع أولاً إلى استخلاص الروح، وبعد ذلك تصير الأجزاء في يده…».
في عملية الرسم، تتحوّل الحالة التشكيلية إلى لغة متكاملة. تنسجم كل الانسجام مع تطوّر العصر. ونمو الاكتشافات والاختراعات، حتى لكأننا يجب ان ندرك بالضرورة. ذلك التلازم العضوي بين الزمن الحضاري المتسارع. والتوق الإنساني إلى التماهي مع روح عصره.
لقد تأكد العالم بأن النظرية الفيزيائية التي تتحدث عن الانشطار الذري. ستصير على المستوى التطبيقي، طاقة جديدة بين البشرية، وان هذه الطاقة بقدر ما هي مدمرة بفعل تحريرها للحرارة الهائلة. والاشعاعات القاتلة. فإنها مفيدة إذا ما استغلت للأغراض السلمية. فهكذا حقاً يتحوّل التجريد في النظرية الذرية إلى حقيقة كونية معيوشة ومؤثرة. سيما وان زماناً جديداً ادخل على الزمان الإنساني المعيوش، وان هذا الزمان تمثل بعملية السعي لاكتشاف عوالم ما وراء الزمن السائد والملموس.
في الفن هناك الصورة… والتي هي تماثل لما في الخارج من موجودات. وبقدر ما كانت عملية التماثل تزداد براعة كانت الصورة تسجل أرقى درجات النجاح.
لكن السؤال الذي انبثق، حول حقيقة هذه الصورة الحقيقية! فهل الحقيقة هنا هي الموجود كلّه؟ أم هي الحالة (المرآتية) – من المرايا – للصورة؟ أي اننا نرى الجزء الذي تكشفه العين الرائية فقط… فماذا عن الأجزاء الأخرى التي تدركها بقية الحواس، وهي موجودة وقائمة في جوهر المرئي المصور؟.
يرسم (فان كوغ) الرسام الهولندي كومة من القش. تدرك من خلال تراكم اللون الأصفر، انك تعيش حضوراً متكدساً بالاصفر… ذلك لأن الرسام اعتاد ان يتبع الاسلوب «الوحشي» في التلوين. لكن الفنان الروسي «كاندينسكي» وكان آنذاك رسام أيقونات. أذهله تكرار اللون الأصفر، والتأليف التراكمي لأجزاء من الرسمة – لوحة الحصاد – لذلك شعر بان (الجزء) عبارة عن إفصاح لا يستغنى عنه حيال (الكل). وان هذه المفردة الجزئية من اللوحة هي الزمان الحقيقي للعمل الفني حتى وان كانت تجريداً استثنائياً.
لقد فكر (كاند ينسكي) كما فكر فيلسوف جماعة (الاسلوب) شويمكير بأن يغلب الصفة المضادة للتعبيرية المباشرة. ويبرز بدلاً عن ذلك كلّه الحالات التي تعبر عن الاحاسيس البشرية كالحزن والفرح والرضا، اما الهدف فهو إعطاء معنى للمدى الشعوري لمحيطنا الخارجي.
انه – أي كاندينسكي – اعتمد على مبدأ أثارة ردّ الفعل الانفعالي، فكان بذلك يمثل مبدأ الضرورة الداخلية، بغية خلق الفن غير المباشر، واللا تصويري، والذي يلبي حاجات وجودنا الفردي، انه فن لا شخصي، متحرر من المأساة، بل هو عالي النزعة إنتساباً للمأساة الكونية.
إن الفن، كما يقول (هربرت ريد) لا توجد فيه اكتشافات مفاجئة تأتي إلينا من المجهول، بل ان كل ظواهره هي نتاج عملية معقدة ومركبة، تتفاعل فيها عوامل وعناصر تقررها الظروف الملائمة للتطور. لذلك لا يُمكن اعتبار ظهور التجريدية في الفن نتيجة تأملات وتجارب فنان واحد، سواء اكان هذا الفنان كاندينسكي، أو ديلانوي، أوغرس. وحين نتابع نمو حركة التجريد في الفن، فاننا يجب ان نتابع اموراً عديدة منها:
اولاً: التمييز بين النضوج البطيء للشروط العامة والحاجات الروحية للعصر، وبين انقلاب مفاجيء هدفه التعبير عن تلك الحاجات في وعي الفنان، فالتراكم الكمي لا بدّ وان يخلق تحولاً نوعياً.
ثانياً: ليس التجريد جديداً على العديد من الفنون النقدية الدينية. واكبر دليل على ذلك هو الفن الإسلامي ذو البعدين، عندما ألغى الحالة التشخيصية، وذهب صوب الاشارية والحروفية.
ثالثاً: لقد اكتشف العالم الحديث فنون الشعوب الأفريقية، حيث تأكد لكبار الفنانين الاكاديميين بانهم يرسمون المباشر وبكل عمق روحي أو سري، كما يفعل مثلاً القناع الافريقي.
رابعاً: لقد تأكد لدى بعض مؤسسي (التكعيبية) بأنهم يشتغلون على تفسير (الموتيف) ومنحها استقلالية تتماهى مع (الموتيفات) الأخرى. والموتيف هو المفردة في الصورة. لكنهم لم يحققوا حالة الوصول إلى فن غير تشخيصي.
خامساً: ان تنوع وتعدد الخامات التي تستعمل في إنتاج المسطح التصويري قد اثر تأثيراً بالغاً على البناء التجريدي العام. وقد ساعد في ذلك الدراسات المعمقة لعدد من النقاد امثال (الالماني فيلهلم فورنجر) الذي كتب كتابه الشهير (التجريد والحلول).
سادساً: اتساع مهمة الفن في الزمن الذي تمّ فيه الاندماج التفجيري للذرة. وقد أصبحت مهمة الفنان المستقبلية الخروج من حدود الأفكار والمفاهيم التقليدية، والذهاب لتفحص الوسط المحيط بنا، فالفنان المستقبلي هو خالق اشكال جديدة. وتفجير الذرة خلق اشكالاً جديدة.
سابعاً: بروز ظاهرة الفن الوظائفي الذي يهدف إلى خلق اشياء ذات أهمية بنائية صرفة للمحيط النقي والكامل في جماله.
ثامناً: ان تطوّر ونمو الهندسة الفراغية، هو تطوّر لفكرة جماعة (الاسلوب) التي نشأت في هولندا. وهي حركة تتماشى مع التطور التكنولوجي والاجتماعي والاقتصادي. أي الخروج من الولاء الأحادي للهندسة وحدها. وتحويل الوحدة المعمارية إلى مفردة في الزمان والمكان، وليست مجرّد مكان مطلق.
تاسعاً: ان تطوّر وسائل الاتصال والكومبيوتر والبرمجة الفوق عادية. لا بدّ وان تكشف امامنا الدور الفعال للمفردة التجريدية في تكوين أية لغة تصويرية أو توضيحية. بحيث ان هذه الرموز الصغيرة حين يتم ترتيبها بواسطة الحاسوب، سوف تصير عوالم واشكالاً.
عاشراً: في زمن (النانو) وتطوره العلمي، لا بدّ من فن يتماشى مع روح هذا العصر. علماً ان (النانو) هو عبارة عن ذرات لها خصائص مختلفة كل الاختلاف عن وجودها القديم، لوناً وتفاعلاً كيميائياً. إضافة إلى درجة الانصهار التي تحول ذرات (النانو) إلى خصائص جديدة. فلو وضعنا 10 ذرات نانو ذهب ضمن حالة الانصهار لأعطتنا لوناً أحمر. ولو وضعنا100 لحصلنا على لون أزرق.
اذن كل عصر له زمانه الخاص وأفكاره الخاصة. ولا بدّ لهذا العصر من ان يخلق ثقافة بصرية جديدة.
ان التجريد يتطور اليوم ليصل إلى مستوى الفنون الوظائفية (Conceptual) (كونسبتويل آرت). وهو فن براغماتي مكاني وتحريضي يذهب مباشرة صوب الانفعالات.
من كل ذلك نستنتج جوهر العلاقة بين الفن التجريدي وزماننا الراهن، وانه ليس فناً خلقته المثابرة الفردية، بل  الضرورة الإنسانية. لذلك نتعامل معه كحقيقة موضوعية…
عمران القيسي
فنان وناقد

أخبار ذات صلة

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.