أساطير تدور حول الحمام وقصة حب مع أهل الشام

حتى أكل الحمام لم ينسه الدمشقيون! تزخر مدينة دمشق بما هو جميل من صناعة وحرف وتجارة وغيرها من التفاصيل التي تغني سماء هذه المدينة بمكنونات جميلة إن دقق فيها أي إنسان قرر التجوال في المدينة والنظر يميناً وشمالاً إلى أسواقها الملأى بالأشياء الاعتيادية والأشياء الغريبة التي تبهرنا أحياناً. وخلال تجوال تشرين في الأسواق استوقفنا نزار جليلاتي في شارع فخري البارودي بنهاية القنوات، جليلاتي يبيع في محله طعام الطيور ولاسيما الحمام إضافة إلى سلل القش، ليعبر من خلال ذلك الشيء عن ارتباط سكان هذه المدينة بإنسانيتهم وبحثهم حتى عن قوت الحمام وبيعه لكيلا تبقى الطيور من دون طعام. حيث قال: أبيع في هذا المحل الذرة البيضاء والصفراء، التي تعتبر الغذاء الأول للطيور، هذه الحبوب موجودة بكثرة في سورية وهي تزرع في حوران والرقة وريفي حمص وحلب، ولكون التربة السورية خصبة والمياه متوافرة تنجح زراعة هذه الحبوب وتعتبر من الأساسيات بالنسبة للكثير من الفلاحين، وقال: الكثير ممن يأتون إلي يشترون طعام الطيور، وسلة صغيرة ويذهبون إلى الجامع الأموي من أجل إطعام حماماته، كما يوجد من الزبائن من يشتري هذه الحبوب لإطعام طيوره التي يربيها في منزله. وختم بقوله: أنا أعمل بهذه المهنة منذ زمن وأعتبر نفسي سعيداً بها لكون بيع سلة مع غذاء الطيور أمراً يسعدني. والجميل في الأمر أن هذه المدينة العظيمة (دمشق) وشارع فخري البارودي الذي افتتح عام 1973م يوجد فيه محل لبيع طعام الحمام والسلال اليدوية المصنوعة من القش، وهذا ما يجعل المرء يتأمل المدينة المأهولة الأقدم في تاريخ البشرية.

  أكدت دراسات علمية على أن “الحمام” موجود على كوكب الأرض منذ أكثر من 20 مليون سنة، أي قبل ظهور الإنسان، واستدل علماء “الأحافير” و”العظام” ببعض الصخور التي احتوت على آثار تدل على تواجدها منذ قديم الزمن، كما عُثر أيضاً على رسومات لطيور الحمام في الكثير من المخطوطات المصرية الأثرية، والتي ترجع لأكثر من 3000 سنة قبل الميلاد، إضافةً ل”نحوت” ورسوم من الحضارات الأوروبية والآسيوية القديمة، تؤكد “أُلفة” الإنسان لهذا الطير، والذي لا تزال الكثير من الحضارات والثقافات تتخذه رمزاً ل”الحب” و”السلام”.العجيب في الموضوع أن الحمام يعشق ويداعب ويغازل ويقبل، نظراً لما يتمتع به من حب وإخلاص بين أزواجه، والذين يبقون شريكين طوال حياتهما، ولا يحصل بينها الفراق!.

حكايات وأساطير تدور حولها وقصة حب مع أهل الشام

13 ألف حمامة تعيش في كنف الجامع «الأموي» في دمشق

 |
الزوار يستمتعون بمشاهدة حمام المسجد الأموي
عمّار أبو عابد
ما علاقة الحمام بالجامع الأموي الكبير بدمشق؟ وهل صحيح أن الحمائم تحج كل عام إلى مكة المكرمة، وتزور المدينة المنورة؟ ولماذا تصطف على سور الجامع عندما يرفع الأذان فيه؟ وما هي العلاقة التي تربط حمام الأموي بالجامع وساحة المسكية وبيوتات دمشق القديمة؟ وهل صحيح أن أي طائر من حمام الأموي ينفق عندما (يجبر) على مغادرة المسجد؟ تساؤلات تجيب عنها حكايات وروايات عديدة تكشف قصة حب بين أهل الشام والحمام، وبين الحمام وبيت الله في دمشق العتيقة. سلالة حمام الجامع الأموي تمتد إلى مئات السنين، وهي تنتمي إلى ما يسمى في دمشق بـ«الستيتيّات» ومفردها «ستيتيّة»، وقد بدأت حياتها ومجاورتها للمسجد الكبير بالعيش في تجاويف جدرانه والتواجد في ساحته الكبيرة (صحن الجامع)، ولم تنقطع سلالة هذا الحمام منذ أن بني الأموي، واستمرت بالتكاثر وسط رعاية المصلين وأهل الشام، حتى بلغ عددها اليوم أحد عشر ألف طائر، تعيش آمنة مطمئنة في كنف بيت الله وحب المصلين وأهل الشام، وقد أنست الناس، وهي تقترب منهم بوداعة، لا تنفر ولا تهرب. رمز الطهر في العشر الأواخر من شهر رمضان الكريم، تبدو أسراب الحمام الدمشقي الهائلة العدد وكأنها تصل المسجد بالسماء، وتربط ما بين المسجد وحرمه وصحنه وساحة المسكية وبين ضريح صلاح الدين الأيوبي وبيوتات دمشق القديمة المحيطة بالمكان. وينظر أهل الشام وزائرو الأموي إلى هذه الطيور باعتبارها مباركة، أو جزءاً من جو القداسة المحيط بالمسجد حتى أن محمد عبدالله أحد من يقومون برعايتها يعتبر أن هذه الطيور مباركة، وعندما تجبر أو يختطف أحدها خارج الجامع، فإنها تموت في اليوم التالي، وهو ما يعتبره سرا خفيا يربط هذا الحمام بالجامع والمصلين. وينظر أهل الشام إلى حمام المسجد الأموي الكبير باعتباره رمزاً من رموز البراءة والطهر، فهي مخلوقات توحد الله وتسبح بحمده، كما يقول موفق الصالحاني، وقد ذكر شاعر سوريا الكبير الراحل نزار قباني حمام الأموي في أكثر من قصيدة له. ويقول الحاج محمود الشاغوري إن نساء الشام يحضرن إلى الجامع وساحة المسكية لتقديم الحبوب إلى الحمام. ويضيف أن كثيرين من أهل سوريا يسافرون من مدنهم وقراهم لإطعام حمام الأموي وزيارة المسجد المبارك، ويعتبر المسلمون الحمام طيراً مباركاً منذ أن أرسله الله لحماية مدخل غار حراء الذي لجأ إليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع أبي بكر الصديق، بعد مغادرته مكة سراً متوجهاً إلى المدينة المنورة. وفي صباحات دمشق يمكن للمرء أن يشاهد أطفالاً كثيرين مع أمهاتهن أو أسرهن، وهم يشترون أكياس الحبوب ويقدمونها بفرح طفولي لحمائم الأموي التي تحط مسرعة لالتقاط الحبوب، ثم الطيران مجدداً. أما السياح الأجانب، فهم يسرون بالتقاط صور لهم مع أسراب الحمام الشامي الذي يحيط بالجامع الأموي، حتى أصبح عنواناً مميزاً له، حيث يمنح المكان جواً من النقاء الروحي والحركة العفوية الطبيعية. روايات أسطورية هناك من يزعم أن الحمام يستطيع أن يميز وجوه البشر، وأن يتعرف إلى الوجوه التي رآها سابقاً، ويقول الحاج سعيد المجركش إن الحمام يتمتع بذاكرة قوية جداً، وأنه تآلف مع البشر، واطمأن إليهم، وهو قادر على تمييز أشكال البشر، ويذهب أبو صياح إلى أبعد من ذلك، حين يذكر أن الحمام يمتلك إحساساً بالإنسان، فهو يشعر به ويتفاعل معه في حالات الحزن أو الفرح. ويقول المجركش إن هذا الحمام يقوم بالحج سنوياً إلى الحجاز، ويطير فوق المدن والقرى السورية متوجهاً إلى مكة المكرمة فيقوم بالطواف ثم ينتقل إلى المدينة المنورة ليزور مقام الرسول الكريم، وبعد ذلك يعود إلى مسقط رأسه في الجامع الأموي. ويضيف «رغم أننا لا نمتلك أي دليل ملموس على أن حمائم الأموي تقوم بهذه الرحلة العجيبة والأسطورية، إلا أن عدداً من المعنيين برعاية الحمام وعدداً آخر من المصلين يؤكدون ثقتهم وإيمانهم بهذه الرواية». ويقول الحاج أنور السخني إن «الله قادر على كل شيء، وهذا الحمام مبارك له ذاكرة قوية، وهو يسبح الله بهديله كل وقت، فلماذا لا يقوم بالطيران إلى مكة للحج؟ وإلى المدينة المنورة للتبرك بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» واللافت، أنه عندما يرفع الأذان في الجامع الأموي، تطير الحمائم دفعة واحدة، وتصطف على سور المسجد في منظر مدهش ومهيب. يقول الحاج أبو موفق، الذي يحرص على أداء جميع صلواته في «الأموي» إن هذا الحمام يبدو وكأنه نوع من الملائكة، يهب إلى التسبيح والصلاة عند كل أذان يدعو إلى الصلاة. ويحاول طارق الأحمد، مدرس، تفسير الأمور، فيقول «ربما كان صوت الأذان المدوي هو ما يدفع الحمام إلى الطيران، لكنني لا أستطيع الجزم بأسباب اصطفافه على سور الجامع، وربما كان البعض محقا باعتقادهم أنه يفعل ذلك كنوع من التسبيح وحمد الله، وربما كانت تلك حركة آلية اعتادها الحمام عند كل أذان». «إعاشة» الحمام تتكفل إدارة الجامع الأموي الكبير يومياً بتقديم خمسين كيلو جراماً من الحبوب للحمام، وكانت هذه الحبوب تنثر يومياً في صحن الأموي، إلا أنه وبعد نصائح من علماء الآثار، أصبحت تنثر في ساحة المسكية الملاصقة للباب الغربي للجامع، حيث تتجمع الحمائم لالتقاط غذائها، وهذه الكمية من الحبوب قد لا تكفي العدد الكبير من الطيور، لكن إدارة الجامع تضع في حسبانها أن كمية أخرى كبيرة يقدمها الزائرون للحمام، إذ إن هناك باعة يبيعون للزوار أكياساً صغيرة مملوءة بالحبوب، ويقوم هؤلاء بنثرها بالساحة لإطعام الطيور، بينما تؤمن (بحرة) في ساحة المسكية الماء لهذه الطيور. وتضاعف عدد طيور المسجد الأموي حتى وصل إلى ما يزيد عن أحد عشر ألف طائر، وهي تتزايد باستمرار، وعند حلول الليل، فإنها تتوزع على الأماكن والبيوتات الدمشقية المجاورة كقلعة دمشق أو بعض تجاويف جدران المسجد، أو ضريح صلاح الدين الأيوبي وبعض جدران البيوت القريبة، على أن بعضها يصر على المبيت في صحن الجامع أو في ظلال قبة النسر الشهيرة. واختار محمود تركماني أن يكون صديقاً دائماً وملازماً لحمائم الجامع الأموي، فهو اختار أن يبيع الذرة والقمح في أكياس ينثرها الزائرون للحمام، لكن اللافت أن الطيور ألفت الرجل، وهي تستجيب لندائه فبمجرد أن يناديها تهرع إليه مطمئنة، وهو سعيد ينثر الحبوب، وبإشارة منه تطير. والخلاصة أن حمام دمشق ينسج قصصاً وحكايات من التآلف والمحبة بين البشر، وفي ظلال مسجد يحمل تاريخاً عريقاً ويتردد فيه اسم الله يصبح الحمام الدمشقي جزءاً من فولكلور دمشق وتراثها العريق، لكن ما يميزه أنه تراث نقي وحي ومحبب.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.