خصائص المذهب الواقعي (1)

– قحطان بيرقدار

خاص شبكة الألوكة

قبل الدخول في الحديث عن المذهب الواقعي في الغرب لا بد من أن نشير إلى أننا سنتناول في هذا المقال وفي المقالات التي ستليه الموضوعات التالية:

1- تعريف الواقعية.

2- جذور الواقعية.

3- نشأة الواقعية.

4- خصائص المذهب الواقعي:

أ- خصائص الواقعيّة الناقدة (الأوربية).

ب- خصائص الواقعية الطبيعية.

ج- خصائص الواقعية الاشتراكية (الجديدة).

5- الفنية الواقعية.

6- لمحة عن بعض أعلام المذهب الواقعي في الغرب.

7- وجهة النظر الإسلامية حول الواقعية.

 

تعريف الواقعية:

الواقعيّة نسبة إلى الواقع، والواقع هو الموجود حقيقةً في الطبيعة والإنسان، وله نوعان: واقع حقيقي، وواقع فني.

 

فالواقع الحقيقي ما إذا وُصِفَ كان الوصف صادقاً لموافقته ما هو موجود، وكأنه صورة فوتوغرافية عن الواقع، أما الواقع الفني وهو المقصود في الأدب فإنه يرتكز على رسم إبداعي لواقع ليس من الضروري أن يكون حقيقياً تماماً، صحيحٌ أنه يأخذ سماته من الواقع الحقيقي، لكنه يحوّر ويزيد وينقص ويعيد التشكيل ليجيء بواقعٍ ليس نسخة مطابقة للواقع الحقيقي، وإنما هو محاكٍ له، لأنه يجري في ميدانه ويخضعُ لشروطه.

 

يبدع الكاتب الواقعي شخوصه ويصف ملامحها ويصوّر بيئتها كما يرى، ولكنه يتقيد بالأطر المألوفة التي يفترض ألا تثير الغرابة والاستنكار، وبهذا يشبه اللَّوحة الفنيّة التي يرسمها الفنّان مستمداً عناصرها من الواقع الخارجي الحقيقي ومخيّلاً واقعاً آخر هو واقعه الخاصّ الذي يراه من زاويته الإبداعية الحرّة، فهو يتصرف بالألوان والظّلال والخطوط والأشكال كما يريد دون أن ينأى عن منطق الواقع وسماته في الإنسان ومحيطه.

 

إن الواقعية الأدبية هي تصوير فني للإنسان والطبيعة في صفاتهما وأحوالهما وتفاعلهما، مع العناية بالجزئيات والتفصيلات المشتركة للأشياء والأشخاص والحياة اليومية، ولو كانت تفصيلاتٍ مبتذلة، وكل ذلك ضمن الإطار الواقعيّ المألوف، وإن الواقع هنا لا تُشْتَرَطُ فيهِ الأمانةُ في النسخ بل يُشْتَرَطُ فيهِ ما يُسمَّى بالصِّدْقِ الفني، وبهذا يتحوّل الكاتب إلى فنان مبدع لا إلى مجرد ناسخ.

 

جذور الواقعية:

ليست الواقعية جديدةً كلّها، ولم تأتِ هكذا من فراغٍ دون جذور متأصّلة، فمعظم أفكارها ومبادئها كانت معروفة خلال العصور السابقة، فها هو (شكسبير) يقول في مسرحية (هاملت): ما هذا المخلوق الرفيع الصُّنع، الإنسان؟! ما أرجح عقله وما أوسع قُدراتِه!…

 

وها هو (سرفانتس) يقول في (دون كيشوت) واصفاً الحرية: (الحريّة يا سانشو إحدى أثمن هبات السماء للناس، لا شيء يوازيها، لا الكنوز المخبأة في الأرض، ولا الكنوز التي تنطوي عليها البحار…).

 

والمسرح الكلاسيكي عموماً ومسرح (شكسبير) خصوصاً كان يقوم على البحث في حقيقة النفس الإنسانية ودوافعها الخفيّة، وفضح الشّر وتعزيز الفضيلة، وقد اشتهر (روسّو) في مسايرة الطبيعة والعودة إليها. وها هو (غوته) يقول: إن المطلب الأساسي الذي يوضع أمام الفنان هو أن يبقى أميناً للطبيعة.

 

وفي البحث عن الحقيقة والموضوعية يقول (ديدْرو): “الحقيقة أساس الفلسفة”.

 

وها هو (لسنغ) يقول: “على الكاتب أن يسير وفق منطق الضرورة الموضوعية”.

 

وفي القرن الثامن عشر الذي مهدّ للثورة الفرنسية كانت قضايا المجتمع قد طرحت باستفاضة حين اهتم الأدباء بطبيعة المجتمع وحقوق الإنسان كإنسانٍ وكمواطن، وحين ركَّزُوا على العلاقات بين الأفراد وقضايا الحرية والمساواة، ومن الملاحظ أنَّ في الرومانسية التفاتاً إلى الناس واغترافاً من فنونهم وآدابهم ولغتهم وتراثهم، وكان من مهمات الأديب في عصري النهضة والكلاسيك خدمة مصالح الإنسان على الأرض والارتقاء بذاته، والعودة إلى المنابع التي كان بنو الإنسان يعيشون فيها بشراً حقيقيين، لهم رغائبهم وأخطاؤهم وصراعاتهم، وتوقهم إلى الحريّة وتعزيز الإرادة وإثبات الذات.

 

من ذلك كله نلاحظ أن الواقعية لم تنشأ في أرضٍ بكْر، بل وجدت أمامها تراثاً هادياً، وطرقاً معبّدة وأفكاراً متداولة، ولكن بشكلٍ متناثر لم يبلغ من التكثيف والوعي والمنهجيّة مرتبة التيار المذهبي، ولم يكن الكاتب قبل الواقعية ينظرُ إلى الإنسان في واقعه المعيش وضمن المسار التاريخي وطبيعة العصر ومنطق الضرورة العلميّة… هذه الأمور التي عززتها الواقعية وجعلت منها فلسفةً ومنهاجاً ومذهباً واضح المعالم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خصائص المذهب الواقعي (2)

خصائص المذهب الواقعي

(الواقعية الأصلية – الأم)

 

سنفرد هذا المقال للحديث عن خصائص الواقعية الناقدة (الأوربية)، وفي المقال اللاحق سنتناول خصائص ما تفرع منها أي خصائص كُلٍّ منَ الواقعيةِ الطبيعيةِ والواقعيةِ الاشتراكيَّة.

 

أولاً: الواقعيّة الناقدة (الأوربية):

يقصد بها المدرسة الواقعية الأصلية التي انتشرت في فرنسا ودول أوربا عند معظم الكُتَّاب بشكلها العام، مع التركيز على الاختلافات المحلية والفردية وتعدُّد الأطياف ضمن الاتجاه الواحد، وهي الواقعية الأم التي تتمتع بنهج أدبي ذي معالم خاصة، شملت الآداب الأوربية أكثر من نصف قرن، ولا تزال آثارها مستمرةً في القرن العشرين.

 

أما خصائصها فيمكن أن نجملها بما يلي:

1/ الانطلاق من الواقع الاجتماعي والطبيعي من خلال الارتباط بالإنسان وصراعه مع هذا الواقع، فالكاتب الواقعي ينزل إلى الواقع ويستمد منه موضوعاته وحوادثه وأشخاصه، ويصرف النظر عما سوى ذلك من المثاليات والخياليات، فما يعنيه هو الأمور الواقعة التي يعيشها الإنسان ويعانيها.. الإنسان المشخّص الحيّ الذي يضطرب في سبل الحياة والمعيشة، والذي هو المحور الأساس في الواقعية، وليس الإنسان المثاليّ المجرد الذي كان محور الكلاسيكية، ولا الإنسان المنعزل الهارب من المجتمع الذي كان محور الرومانسية.

 

إلا أن الفرد في المدرسة الواقعية قد يكون نموذجاً، لكنه نموذج نوعيٌّ يضم كل الأفراد الذين هم على شاكلته، والمجتمع الغربي يتألف من نماذج كثيرة، منها الإقطاعي والرأسمالي والعامل والفلاح والبورجوازي والتاجر والمرابي ورجل السلطة… وقد حرص الروائيون والمسرحيون الواقعيون على رسم هذه النماذج من الواقع.

 

وقد ابتعدت الواقعية عن التعامل مع عالم الأشباح والأساطير والأحلام والأوهام، فالذي يعنيها فقط هو الإنسان بلحمه ودمه ومشاعره وحاجاته ومطامحه وأفراحه وأتراحه.. الإنسان المرتبط بالأرض وما حوله من الناس وما يحيط به من الظروف، وهي تنطلق من جميع طبقات المجتمع، من أدنى الطبقات إلى أعلى الطبقات، لها كلها يكتب الكاتب لا لأجل فئة معيّنة يبتغي رضاها وعطاءها.

 

وقد أسهم في هذا الانقلاب التطورُ الذي نجم عن الدراسات الاجتماعية والآداب والثورات وما حمله من مبادئ الحرية والعدالة والمساواة وقيمة الفرد ودوره في المجتمع.

 

2/ العناية بالتفصيلات الدقيقة والثانويَّة مما يتعلَّق بوصف الملامح والأصوات والألبسة والألوان والحركات والأشياء إمعاناً في تصوير الواقع وكأنّه حاضر.

 

3/ التركيز على الجوانب السلبيَّة في المجتمع كالأخلاق الفاسدة والاستغلال والظلم والإجرام، حتى دُعيت الواقعية بالمتشائمة، رغم أن هذا التشاؤم ناشئ عن الرغبة في الرّصد والمعالجة، لا عن الرغبة في التشاؤم لذاته.

 

4/ حياديّة المؤلف التي تعني العَرْض والتحليل وَفْق واقع الشخصية بشكلٍ موضوعي لا وفق معتقدات الكاتب ومواقفه الخاصة، فالكاتب الواقعي مجرد شاهد يدلي بشهادته حسب منطق الحوادث، ولكن هذا لا يعني أن الكاتب غير مبالٍ بما يجري حوله، بل يعني أنه لا يريد أن يفرض آراءه وميولَهُ على القارئ. والأدب الواقعي ليس عابثاً بل له غاية نبيلة إذا تجرد منها سقط في الفراغ والعبث والخداع.

 

وبراعة الكاتب الواقعي تتجلى من خلال أنه يُؤَثِّرُ في القارئ ويقوده إلى أن يتخذ موقفاً أو رد فعل معيَّناً، فالقصة مؤثر يستثير عفوياً موقفاً من القارئ نفسياً أو سلوكياً، فهو يضع القارئ مثلاً في موقف رفض فيرفض من تلقاء ذاته، ويثير إعجابه بأمرٍ إيجابي فيُقْبِل عليه، ويُولِّدُ لديه نوعاً من التعاطف مع النموذج الإنساني فإذا به يحبه ويقدّر فيه فضائله أو يكرهه ويمقت مخازيه.

 

5/ تحريض الفكر وشحذ الإرادة وتقوية الشخصية وإشعار القارئ بأنه مسؤول عن مصيره ومصير مجتمعه ومشارك للكاتب في البحث عن الأسباب والدوافع وإيجاد الحلول.

 

6/ التحليل الذي يتجلى في البحث عن العلل والأسباب والدوافع والنتائج، فلكل ظاهرة اجتماعية سبب، والأديب الواقعي لا يعرض الظاهرة أو المشكلة مجردة، بل يبحث عن سببها ويوجه النظر إليه ليصل بالقارئ إلى القوانين المحركة للمجتمع، وبهذا يزداد وعي القارئ واستبصاره وقدرته على التحليل والتأمل والملاحظة والاستقراء ويصبح مؤهلاً لوعي الواقع وتفسيره وقادراً على تغييره.

 

كان هذا عرضاً مكثفاً لأهم خصائص الواقعية الأم استطعنا من خلاله أن نعمق فهمنا لهذا المذهب الأدبي حتى نستطيع تقييم الأعمال الأدبية التي تنضوي تحت مظلته، وبالتالي يمكننا أن نكون رؤية نقدية موضوعية حوله.

 

في المقال اللاحق سنتحدث عن خصائص الواقعية الطبيعية وخصائص الواقعية الاشتراكية، لنتعرف أكثر على أبعاد المذهب الواقعي في الأدب.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.