هالة القوصي.. حكايات صغيرة “اللي يشوف يلقى جواها عالم كبير”

 محمد سعد
تعتني الفنانة المصرية هالة القوصي في أعمالها بأدق التفاصيل، حتى تلك التي تختبئ تحت طبقات من التفاصيل والتفاصيل الأخرى التي يصعب على العين ملاحظتها بسهولة، علَّ متلق ما يلتقطها في لحظة خاطفة، ففي تلك التفاصيل التي تسرد حكايات صغيرة وهامشية يكمن عالم كبير فقط لمن يري، “فالحكايات الكبيرة لها ناسها والحكايات الصغيرة للي يشوف يلقى جواها عالم كبير كما تقول هي.
وراء الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، بحث دقيق تقوم به القوصي كفنانة لديها ما تقوله، فما تريد قوله في أعمالها هو شخصي جدًا وبالغ التعقيد، ولإزالة ذلك التعقد واللبس كان من اللازم أن تقوم كفنانة ببحث يسعي وراء الفهم أولاً، ولكن نتائج الأبحاث حين تترجم إلى عمل فني غير مضمونة فهناك أشياء قد تزيد الوضوح، وأشياء أخرى تزيد اللبس والغموض.

تلك الخبرة البحثية في الفن المعاصر حاولت القوصي أن تنقلها في ورشة الفنون المعاصرة التي عقدت مؤخرًا مع الفنان السويسري أورييل أورلو لتدريب مجموعة من الفنانين الشباب علي إدخال الأبحاث في صناعة العمل الفني مؤخرًا.

بدأت القوصي خريجة إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، كمصورة شارع بعد أن تخلت عن دراستها الأصلية، لكن سرعان ما أقلعت عن كونها مصورة شارع بعد أن واجهتها أسئلة أخلاقية حول عملها كمصورة شارع، تتعلق بدور مصور الشارع كمتلصص يكشف المدينة وكأنه جزء من تلك الآلة التي الجهنمية لمراقبة المجتمع بتعبير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، حيث تصبح الكاميرا دليلاً علي الحضور المرئي أو الخفي أيضاً للنظرة المحدقة الفاحصة والتي تلاحقنا باستمرار.

هنا قررت القوصي التحول إلى فنانة بصرية، وبدأت في صناعة أفلام فيديو وفوتوغرافيا مركبة. لم يكن ذلك التحول نتاج إداركها للأسئلة الأخلاقية حول التصوير في الشارع فقط، ولكن لأن الصور التي كانت تلتقطها لم تكن تعكس الموقف كما كانت تدركه وقت التقاط الصورة، فما يدركه المصور لحظة التقاط الصورة بأبعادها كان يختلف عن المنتج النهائي لصورة ثابتة وجامدة، ولذلك جاءت النقلة، والتحول إلي الفيديو والأعمال المركبة والتجهيز في الفراغ، كنهاية لرحلتها مع التصوير الفوتوغرافي “الممل”، نحو فوتوغرافيا وتصوير أكثر قدرة على التعبير، لكن أعمالها اللاحقة تعد كلها تطورًا طبيعيًا لكونها شخصًا كان يحمل كاميرا ويتجول بها.

في ربيع 2003 عرضت القوصي 70 صورة مسلسلة، تدور كلها حول الإنتظار الذي يتخلله لحظات إثارة لكن لا يوجد ما يشير إلى ما سيأتي بعد هذا الانتظار الطويل.

تبدأ القوصي أعمالها من مكان شخصي وهامشي مستكشفة الحكايات الصغيرة للمهمشين، وهنا تتلاقي أفكارها مع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي تدور أعامله حول تواريخ المهمشين (المجانين والمساجين والمرضي)، وأعمال المؤرخ المصري خالد فهمي، الذي أرخ للجيش المصري من وجهة النظر التي طالما تم تهميشها وهي وجهة نظر الجنود أنفسهم لا القادة.

وكان أول أفلامها عن ذروة النشاط العقاري في مصر عام 2005 مع إنشاء المدن والتجمعات الجديدة (دريم لاند، بيفرلي هيلز، القطامية هايتس)، وعكس فيلمها الصورة المضادة للصورة المثالية التي تقدمها تلك المدن الجديدة، فكان اختيارها أن يدور فيلمها حول المهمشين حول تلك المدن الجديدة، وهو فيلم حكايات علي الهامش.

مبدئياً تتبني القوصي أصوات شخوص أغلب أفلامها، لأنها حكايتها هي، ومن وجهة نظرها هي، ففي أفلامها شخصيات عدة، لكن الراوي غالبًا ما يكون شخصًا واحدًا، يتحدث بالنيابة عن جميع الأشخاص، لتعزيز إظهار صورة المهمشين كمهمشين، فعلى الرغم من أن المهمشين يحتلون ولأول مرة في حكايتهم الجزء المركزي من القصة إلا أن صوتهم مبحوح، كتذكرة بأنهم ما زالوا مهمشين، في بعض الأفلام يأتي صوت الراوي، صوتًا نسائيًا ليبتعد عن سلطة الصوت الذكوري وليزيد تهمش الممثلين داخله.

إزالة هوية الممثلين الذين هم أنفسهم ممثلون غير محترفين ومهمشين، هو جزء من تحويل القصة الواقعية لعمل فني.

تندرج أعمال هالة القوصي التي تحمل في أغلبها شغفًا بالقاهرة، تحت الإطار الواسع لما يسمي بفنون ما بعد الحداثة والفنون المعاصرة، لكن أفلامها لا يمكن أن تصنف كأفلام وثائقية أو تسجيلية، ولا تريد القوصي لأفلامها أن تصنف، هي فقط أفلام. فالتعريفات والتصنيفات بالنسبة لها وسيلة للهرب من الفهم، نحن نضع أي علامة أو تصنيف علي الشيء الغريب الذي لا نفهمه لكي نستريح تجاهه ولا نستغرق في التجربة معه، وبدلاً من التعامل مع المعطيات التي يقدمها العمل نتعامل مع ما يمنحه التعريف من وصفات جاهزة.

لا تري القوصي أن فكرة الفن المعاصر لذي تختلف وسائطه بشكل كبير تتمثل في الوسيط ولكن في محتوي العمل الفني، فقد يحمل وسيطًا تقليديًا مضمونًا معاصرًا.

تحمل بعض أفلام هالة القوصي، تعقيدًا وغموضًا، كفيلمها عن القاهرة والنشاط العقاري. صنعت هالة الفيلم بكيفية معقدة ليس لأنها تريد تعقيد المتلقي، ولكن لأن القصة كما هي في الواقع معقدة وغير قابلة للفهم. فلا أجوبة لديها هي لديها أسئلة فقط، والقصة بالكامل غير مفهومة ولذلك وضعت هالة الأمور بأصليتها لتعكس ذلك التعقد والغموض.

الفنون المعاصرة التي هي تطور طبيعي للأفكار الغربية، تجد صعوبة في التلقي، ولكن ذلك لا يقتصر علي الجمهور المصري فحتي في أوروبا تنتمي الفنون المعاصرة لما يمكن تسميته بالمنطقة العليا في الفنون، إذا جاز أن نقسم الثقافة لمستويات كما تقول القوصي.

ترد الصعوبات في تلقي الفنون المعاصرة عادة إلي اختلاف مضمون الفنون المعاصرة ووسائطها ولكن هالة القوصي لا تري أن مرد الصعوبة إلى ذلك، لكن إلي أننا مجتمعات محافظة، ليس دينياً ولكن اجتماعياً. فتري أن تلقي الفنون المعاصرة التي هي مختلفة بالفعل، بشكل صحي يجب أن يحدث في مجتمع يقبل الآخر بسهولة ويتعامل مع التغيير بمرونة أكبر ولكن هذا ليس طابعاً مصرياًُ، فالتحفظ سمة أساسية حتي في التغيير، فحين تشيع موضة جديدة يسعي الجميع لأن يكونوا متشابهين في ارتدائها. هذه المحافظة الاجتماعية تعيق تطور الذوق الجمالي لدي المتلقين ولذلك ينفرون من الفنون المعاصرة.

تعتقد هالة بأن الفن يجب أن يصل للجميع إلا أن دور الفنان بالدرجة الأولي بالنسبة لها أن يقوم بعمل الفن، فهذه هي طريقته الوحيدة للتواصل مع البشر. الفعل الفني فعل أناني بالدرجة الأولي، وقد يكون لما يقوم به الفنان دور في المجتمع لكن لا يجب أن يكون ذلك هو محركه الأساسي.

ولا تري القوصي أنه من الخطأ تقديم فنون معاصرة في مجتمع يقع علي بعد فجوة كبيرة من تلك الفنون، فالمسألة تتعلق بصراع أفكار يجب أن يستمر.

تحاول التغلب علي تلك الفجوة بين المتلقين والفنون المعاصرة عبر المساحة الجمالية في أعمالها فالمتلقي العادي إذا لم يستطع أن يدرك التعقيد في مضمون أعمالها سيظل قادرًا علي أن يستمتع بشيء ويتعامل مع جماليات بصرية غير بعيدة عنه.

لا تعتقد القوصي أنه حين لا يفهم الناس عملاً فنيًا فالعيب في المتلقين، فحتي وإن كان العمل الفني معقدًا، يجب أن يترك فيهم أثرًا ما حتي وإن لم يفهموه بالكامل، وغياب هذا التأثير علي الجمهور مسئولية الفنان وحده.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.