الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة: الإنسان يواجه انقراض الذات

الشاعر المصري يرى أن تجربة أدونيس استنفدت أغراضها لأنها قادت موجة جديدة من موجات التجديد اصطدمت بحائط الشكل الزائف.

ميدل ايست أونلاين

بقلم: أحمد فضل شبلول

أنتَ لا تستطيع الدخول إلى النارِ في لحظة الحلمِ

“البحر موعدنا” واحد من أهم دواوين الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبوسنة، قسمه إلى ستة أقسام، القسم الأول: قصائد عامة، والقسم الثاني: ثلاث قصائد من وحي زيارته للولايات المتحدة الأميركية خريف 1980، والقسم الثالث: قصيدة رثاء في الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور. القسم الرابع: قصائد من وحي الأحداث الوطنية العربية قبل ظهور الديوان. القسم الخامس: قصائد من دفتر السنوات القديمة أو من أوراق الصبا في حدائق الشعر. أما القسم السادس والأخير فهو قصيدة “الرماد” المترجمة عن الشعر الأميركي المعاصر للشاعر فيليب ليفين.

وفي حديث خاص مع الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة عقب ندوة أقيمت له في الإسكندرية حول ديوان “البحر موعدنا”، وحول الحركة الشعرية في الوطن العربي في الآونة الأخيرة، علق أبوسنة على ما ذهبنا إليه بشأن التقسيمات السابقة لديوانه، فقال:

إن ديوان “البحر موعدنا” في الواقع يشكل – كما أشار بعض النقاد ومنهم د. عبدالقادر القط – مرحلة متطورة في تجربتي الشعرية، وفي الواقع فإنني في هذا الديوان الذي كتب على مدار سنوات تقترب من الخمس، لم أكن واعيا بدقة بعناصر هذا التطور إلا بعد أن اكتملت ملامحها في شكل ديوان، ذلك لأنني وأنا أكتب هذه القصائد إنما كنت أكتب عن إحساس متجدد بالتجربة الشعرية من حيث المضمون ومن حيث الشكل أيضا.

إنني أتصور أنه لا يوجد مفهوم جامد للشعر. وكما قلت من قبل إنني لا أومن بالتعريف وإنما أومن بالتعرف، فالقصيدة، كل قصيدة تعبير عن مفهوم جديد وعن موقف جديد، وعن دهشة جديدة أمام الوجود.

وهذا الديوان “البحر موعدنا” في الواقع، ربما انصهرت فيه العناصر الأساسية التي تناثرت في الدواوين السابقة، فحدث اقتراب شديد من القصيدة الدرامية، من البنية التركيبية في القصيدة الحديثة، محاولة البعد عن تصميم محكم بقدر ما هو نوع من الاستجابة التلقائية لطبيعة التجربة وأعماقها بالإضافة إلى أن هذه القصائد جاءت بعد فترة من التجربة الشعرية تعد طويلة إلى حد ما.

أما فيما يتعلق بتقسيم الديوان إلى أقسام – كما أشرت من قبل – فإنني لا أتصور أن هذا كان واردا، لأنني لا أؤلف كتابا في موضوع معين، وإنما الذي يحدث هو أن الإنسان إنما يصدر في هذا الديوان عن تجارب ومواقف متعددة. وهذه القصائد جمعتها كما يجمع كل شاعر مرحلة زمنية معينة دون أن يعني أساسا بوحدة الموضوع، وإنما هناك هذا الحرص على أن تكون قصائد هذا الديوان في ديوان معين، خاصة وأنني أتصور أن هذه القصائد في مجموعها تشكل منهجا فنيا متجانسا إلى حد كبير.

وعن قصيدة رثاء صلاح عبدالصبور فإنه – من وجهة نظري – لا يمكن اعتبارها أنها تعد قسما وحدها، لأن هذه قصيدة من القصائد، وإلا فإننا نستطيع أن نقول إن كل قصيدة هي قسم بمفرده، ما دامت مختلفة من ناحية التجربة ومن ناحية المضمون.

ويرى الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة أن ديوانه “البحر موعدنا” رغم منهجه الفني الواحد، ورغم وحدة الموقف ووحدة الرؤيا التي يصدر عنها في معظم القصائد فإن القصائد متنوعة بشكل حقيقي من حيث التجربة، فلا توجد تجربة قريبة حتى من الأخرى، والذي ألح علي في هذا الديوان بشكل رئيسي هو هموم هذا الوطن بكل ما تحمله هذه الهموم من معاناة وأحزان وأحلام. الوطن أو صورة الوطن بتنوعاتها المختلفة تنعكس في تجارب هذا الديوان أو في معظمه. وإطلال الذات في هذا الديوان يعد إطلالا خافتا من خلال قصيدة أو قصيدتين، وإن كانت الذات في هذا الديوان قد اندمجت بالموضوع، بحيث إننا أصبحنا أمام نوع من وحدة الذات والموضوع في كل قصيدة.

ويضيف أبوسنة قائلا: في الواقع يغلب على الديوان منهج الحوار مع النفس، هذا الحوار إنما يعبر عن مرحلة من مراحل التطور النفسي والفكري، ذلك لأن ديواني السابق “تأملات في المدن الحجرية” كان خروجا واضحا إلى الرؤية الموضوعية وإلى تصوير الحدث الخارجي تصويرا يشوبه الكثير من الإحساس بالغضب، والكثير من الإحساس بالمرارة.

أما هذا الديوان “البحر موعدنا” فهو محاولة للوصول إلى صيغة شعرية البعض سماها البحث عن الحل الشعري لهذه الحياة اليومية.

إن الإنسان وهو يرى أمامه اضطراب المعايير الفكرية والاجتماعية والسياسية في هذا الزمان المضطرب في طبعه، فإنه يلجأ في حالات كثيرة إلى نفسه يعرض عليها مشاهد من هذا الواقع الذي يرفضه ويشتهي أن يتغير وأن يتطور، أن يرى فيه شيئا أفضل مما هو واقع بالفعل، فالحوار هنا ليس بين الذات والذات، وإنما هو حوار مفعم بعناصر كثيرة، فربما صوت القلب والذي يظهر بوضوح هنا أقرب إلى صوت الضمير منه إلى صوت العاطفة الفردية أو العاطفة الصافية، إنه صوت الضمير الذي يحاكم الشاعر أحيانا ويحاكم العالم أحيانا أخرى.

أما من حيث إدراح عدد من قصائد قديمة نسبيا في هذا الديوان فهو نوع من المحافظة على الذات، ذلك أنني كنت قد فقدت هذه القصائد، ووجودها في هذا الديوان إنما هو نوع من التسجيل الفني لجزء مما كتبته بالفعل.

• وماذا عن قصيدة “الرماد” المترجمة من الشعر الأميركي؟ إنك ذكرت من قبل في ص 127 من كتابك “أصوات وأصداء” وفي الفصل الخاص بقضية الترجمة في الثقافة العربية، إنه أقدم بعض الشعراء على تقديم ترجمة من الأدب الغربي مثل خليل مطران الذي ترجم مسرحيات لشكسبير، ولكن هذه الاتجاه كان محدودا، حتى أحمد شوقي الذي عاش في باريس لم يقدم على تجربة واحدة للترجمة رغم اتساع ثقافته العربية والأجنبية، وآثر أن يكون تأثير الأدب الغربي على أعماله من خلال إبداعه هو لعدد من المسرحيات الشعرية.

فهل نستطيع أن نقول إن الشاعر محمد إبراهيم ابوسنة عمد إلى الترجمة من الشعر الأميركي المعاصر في ديوانه “البحر موعدنا” حتى لا يضع نفسه في موضوع اتهام كالذي وجّهه هو لأحمد شوقي؟

– في الواقع أن هذا ليس اتهاما على الإطلاق لأن الترجمة عمل اختياري، وهو عمل لا ينقص من قدر الشاعر إن لم يقم به ولا يزيده إن قام به أيضا. وهناك ترجمات كثيرة ولا أعتقد أنها أضافت شيئا لأصحابها مثل ترجمة إبراهيم ناجي لأشعار بودلير. وفي الواقع أحب أن أضيف أن أحمد شوقي قد تأثر بالأدب الفرنسي تأثرا واضحا خصوصا في كتاباته للأطفال، فقد تأثر بحكايات لافونتين.
أما هذه القصيدة المترجمة “الرماد” والتي ترى أن وجودها في هذا الديوان يشكل أهمية ما، فإنني ومن خلال زيارتي للولايات المتحدة الأميركية قد أردت أن أعطي انطباعا عن هذه الرحلة تبين في قصائدي الثلاث عن الزيارة وهي القصائد “امرأة اسمها السعادة، أسافر في القلب، ورؤية نيويورك” وقد التقيت بالشاعر الأميركي فيليب ليفين، واستمتعت وقرأت شيئا من شعره في ديوانه “الرماد” وهو قد أصدر عددا من الدواوين الشعرية، ولكن أردت أن أعطى انطباعا شعريا عن الولايات المتحدة من خلال نماذج شعرائها المعاصرين والذي يعد في الواقع من الجيل المعاصر الحالي، فهو يمثل جيل فترة ما بين الأربعينيات والخمسينيات، وهو الجيل الذي شاهد حرب فيتنام، والذي تأثر بهذا الإحساس الخطير والذي كان له أثر كبير على الضمير الأميركي، فهذه القصيدة هي محاولة متواضعة للترجمة.

وأنا أقول متواضعة لأنني لست متخصصا في الأدب الإنجليزي وإنما لا أتصور أنني قمت بشيء بالغ الأهمية في هذا الموضوع.

• من خلال القصائد الثلاث السابقة التي كتبت من وحي الزيارة، وعلى وجه التحديد قصيدة “امرأة اسمها السعادة” قمت بعمل دراسة شعرية أثارت بعض الجدل والنقاش، حيث قلت إن المرأة التي اسمها السعادة ما هي إلا رمز للولايات المتحدة، وأن الشاعر في هذه القصيدة ما هو إلا رمز أيضا لبلد أو إقليم من أقاليم العالم الثالث، إلا أن الشاعر عبدالمنعم كامل رأى أن الشاعر يقصد بامرأة اسمها السعادة، الرؤية الشعرية بصفة عامة .. فما رأيك وأنت صاحب القصيدة في هذا الجدل الشعري أو النقدي الذي أثارته قصيدتك؟

– في الواقع أنني لا أميل إلى تبسيط الرموز الفنية وترجمتها مباشرة إلى حقائق أو أفكار ذلك أن العمل يشيع فيه أوصال وعناصر التجربة الشعرية ككل بحيث يصعب فصله أو ترجمته.

وفي الواقع أن هذه القصيدة “امرأة اسمها السعادة” كتبت في الولايات المتحدة، ومن وحي الرحلة، ولكن كما نقول ما هي العلاقة بين التجربة الشعرية وبين التجربة الواقعية؛ التجربة الواقعية تشبه البذرة، أما التجربة الفنية أو الشعرية فهي تشبه الشجرة. ومن حيث الشكل والحجم والتكوين فرق كبير بين البذرة والشجرة.

هذه القصيدة “امرأة اسمها السعادة” تعبر عن رؤيتي فعلا لفكرة السعادة في الحياة، هذه الفكرة مؤداها أنه بدون الشجاعة، وبدون خوض الحياة اقتحاما وجرأة واقتناصا فإنك لن تظفر بشيء على الإطلاق. وهذا موجود في بعض قصائدي الأخرى، مثلا قصيدة “أصوات” الموجودة في الديوان نفسه ص 27 والتي يحاور فيها الشاعر نفسه بإنه قادر على أن يأخذ موقفا، أو يقدر على المجازفة:

قال لي:

إن روحك ضائعة .. أنتَ

لا تستطيع الدخول إلى النارِ

في لحظة الحلمِ

لا تستطيع الحوارَ مع الرعدِ

لا تستطيع السكوت ولا النطق

تبقى هنالك في جنة الوهم

تسقى الأساطيرَ ماءَ الغمام الذي لا يجئ

قلتُ: بادر بقتلي

فإني رأيت النبؤاتِ تسعى

بسيف المكيدة نحوي

رأيتُ المسافاتِ تحملني

من نهار الربيع إلى الليل

تحت جناح الشتاء الطويل

ومات زماني الجميل

وما عاد لي أن أقول

الذي لم أقله

وكانت أمامي النجومُ مزغردة

وكانت أمامي الفصول

أيضا في قصيدة “تحولات قلب” ص 31 والتي يحدث فيها الشاعر نفسه، فيقول:

إيها القبر الذي ضم المطر

وبقايا الأنجم الأولى من العمر القصير

وحطاما من أغانٍ ونسور

صرت قبرا مثل آلاف القبور

تزحف الآن إلى باطن أرض لا تدور

لست قلبا أيها اليأس الصغير

صرت قبرا مثل آلاف القبور

هذه القصيدة “امرأة اسمها السعادة” في الواقع تعبير عن السعادة التي تنال بالاقتحام وبالشجاعة، وليست ترجمة مباشرة لرموز معينة، وإنما هي تطور لفكرة قديمة في شعري خرجت في ظروف هذه الرحلة بمعنى أن هذه الرحلة أنضجت هذه الفكرة، أما عن أن الولايات المتحدة هي هذه المرأة فهذا لا أوافقك عليه.

• ذكرتَ ضمن حديثك في الندوة عن الشعر العربي المعاصر أن الأدونيسية قد انحسرت، فهل من مزيد حول هذه القضية؟

– الواقع أن حركة التجديد برمتها تعاني مأزقا حقيقيا، ذلك أن حركات التجديد في أي مرحلة من المراحل، إنما تعبر عن فيضان هذه المرحلة بالحيوية واستشرافها إلى التعبير عن واقع جديد، وكما ترى على صعيد الوطن العربي فإننا نعاني من تراجع هائل، تراجع على كل المستويات السياسية والاجتماعية والنفسية، فالعزلة طاحنة على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، وحركات التجديد الآن هي محاولة للإبقاء على صورة التقدم دون أن تحرز تقدما حقيقيا. إن الشعر العربي موقفه، هو موقف الإنسان العربي الآن، محاصر، وما كانت مهمته الأساسية هي البحث عن أفضل الوسائل للمحافظة على الذات قبل التقدم للأمام. إننا نعاني من التراجع، وحركات التجديد لا تنفصل عن حركة الإنسان على الإطلاق.

وفيما يتعلق بانحسار الحركة الأدونيسية، فليس ما أعنيه أن أدونيس قد كف عن الكتابة، وإنما ما أعنيه أن تأثير أدونيس الواسع بدأ يأخذ في الانحسار لسببين:

السبب الأول: أن هذه العزلة الإقليمية والتمزق في الوطن العربي قد ضرب وحدة التجرية الشعرية في صميمها، وأصبح شعراء كل إقليم معتكفين على خصائصهم المحلية أكثر من طموحهم إلى التعبير عن وحدة الحركة الشعرية في العالم العربي، فإذا قرأنا القصائد القادمة من العراق – على سبيل المثال – والتي تنشرها مجلة “الأقلام” مثلا، نجد أن هذه القصائد في الواقع تعبر عن مرارة الحرب وعن قسوة الصراع في أسلوب لا يطمح إلى التجديد بقدر ما يطمح إلى التعبير عن جوهر التجربة.

الذي يعني الشاعر في المقام الأول الآن هو الإمساك بجوهر التجربة الإنسانية في الوطن العربي، وليس الاهتمام بجوهر التقدم من الناحية الفنية، لأن هذا التقدم من الناحية الفنية يتطلب مدا ثقافيا هائلا واتصالا وثيقا بالآداب الأجنبية وفيضانا في الروح القومية ونوعا من النصر القومي، ولكن – وكما أقول – نحن الآن في مرحلة مريرة إلى أقصى الحدود، وهذه المرحلة تلقي على الشاعر مسئولية أيضا، ولكن لها آثارها السلبية على تجربية الفنية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تجربة أدونيس ربما كانت قد استنفدت أغراضها، لأنها تجربة فيما وصفته أنا “محاولة تجريبية لدمج عناصر التجربة الشعرية العربية بعناصر التجربة الشعرية العالمية”، وهذه المحاولة قد تجاوزت آفاقها بحيث ظهر لدينا نوع من المحاكاة العمياء لنماذج من الأدب الغربي دون أن يكون هناك في الواقع الذي نعبر عنه من الدواعي ما يتطلب هذه المغامرات الشكلية.

أقول إن تجربة أدونيس استنفدت أغراضها لأنها قادت موجة جديدة من موجات التجديد اصطدمت بحائط الشكل الزائف، أي وصلت في نهاية الأمر عند عدد كبير من الشعراء الجدد إلى ما أسميه بالشكل الزائف للتجربة الشعرية، وهو الشكل الهلامي الذي لا يعبر عن نضج موضوعي ولا يعبر عن تمكن من الأدوات الشعرية تمكنا حقيقيا، بالإضافة إلى أن الواقع العربي الآن يفرض على الشاعر الالتفات إلى المشاكل الكثيرة التي تحاصره وعلى رأسها مشكلة الأمية الثقافية وانصراف الجمهور عن القراءة وأزمة الحصار النفسي التي نعانيها بشكل حاد أمام ضراوة الحرب، وما أحدثه ذلك من تصدع نفسي حقيقي في الوجدان العربي خلال هذه المرحلة.

إن هذه الأشياء لا تمر مرورا عابرا في وجدان الأمة ولا تمر مرورا سطحيا في أعماق الشاعر وروحه. إننا يا سيدي نحاول التماسك، وهذه بطولة أن نحاول التماسك لأن أبعاد الخطر الذي يحيط بنا هائل ورهيب وقد لا نكون على وعي كامل بأبعاده.

إننا في مواجهة واقع يحمل كل عناصر المكيدة، لا بالنسبة لتطورنا القومي والاجتماعي والسياسي فقط، وإنما لتكويننا الحضاري أيضا. إننا في الواقع مشغولون بقضايا الآن فيما يتعلق بالشعر والأدب، تتعلق بجوهر بقاء الروح العربية حية وقائمة، أما حركات التجديد فربما لها سيكون لها مستقبل إذا تجاوزنا هذه المحنة التي نحن فيها.

• هذا يقودنا إلى الحديث عن مستقبل الشعر، فهناك بعض المبدعين وبعض النقاد يقولون إن المستقبل ليس للشعر وليس حتى للقصة أو الرواية، وإنما المستقبل للأعمال الدرامية الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية، فما وجهة نظرك في هذه المقولة المطروحة؟

– الواقع أن الحكم على المستقبل ببساطة شديدة نوع يمكن أن يكون صحيحا في مجال اكشافات البترول أو في التنمية الاقتصادية أو التنمية الاجتماعية، وفي تصورٍ لإشكال الأنماط الاقتصادية في المجتمع طبقا لما تحدده العقول الإلكترونية وحسابات الكمبيوتر، أما في يتعلق بالإبداع فإن القضية أساسا ترتبط بحاجة الإنسان إلى هذا الفن أو ذاك، ونحن لا نعرف احتياجات الإنسان في المستقبل، فربما انقرضت هذه الأشكال الدرامية، وعاد الشعر هو المعبر الوحيد عن وجدان الإنسان، ذلك لأننا كما نرى حتى في الأمم المتقدمة فإنه لم يعد هناك الوقت الكافي لمتابعة حتى برامج الإذاعة والتلفزيون بشكل حقيقي.

وفي رأيي، وفي تصوري، أن الشعر هو جزء من كل نفس مرهفة، وهذا حقيقي بمعنى أن كل نفس تحمل قدرا من الشعر في أعماقها، وهذا القدر يؤكد إنسانية الإنسان أو ينفيها.

أقول إذا كان الشعر جزءا من كل نفس إنسانية، فقد عرفت الإنسانية الشعر حيث لم يكن لها أبجدية وحيث لم تكن تعرف القراءة أو الكتابة، ومع ذلك كانت تغني أغاني العمل وأغاني الحرب وأغاني الحب، فهل يرجى لهذا الإنسان الذي يدعي أنه يتقدم أن يتخلص من إنسانيته بالتخلص من الشعر. هذا شيء مستحيل.

الشعر من حيث الشكل هو أقرب الأشكال العصرية لطبيعة الزمن العصري، لأن الزمن العصري، زمن ضيق ومحدود رغم كثافة هذه الاكتشافات الهائلة التي قيل عنها إنها توفر الوقت، ولكنها في الوقت نفسه ابتلعته ابتلاعا شديدا لأن وسائل الاتصال تخلق كثافة من الحركة وليست توفر هذه الحركة، فحينما يكون لديك هاتف أو سيارة، فأنت تتحرك أسرع مما لو يكن لديك هذا الهاتف أو تلك السيارة، وأنت تتصور أن الهاتف سيوفر لك وقتا أو السيارة، ولكن الحقيقة هي العكس لأن الهاتف والسيارة سيجلبان لك مزيدا من الحركة في العالم وبهذا سيأكلان الوقت المتبقي.

أنا أقول إن الإنسان يواجه انقراض هذه الذات في زحمة العمل، وفي زحمة الطموح والتنافس ودوامة الحياة العصرية، ولا شاطئ ولا منجاة له إلا بالخلو أحيانا إلى نفسه فيراها في قصيدة شعر. وطالما ظل الإنسان يحمل هذا اللقب أو هذا الاسم فسيظل الشعر كامنا في أعماقه ينتظر لحظة الظهور يشبع فيها حقيقته الأساسية.

 

أحمد فضل شبلول

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.