Image result for ‫أخبار الفوتوغرافيا‬‎

نظرة على الفوتوغرافيا بشمال إفريقيا
27 فبراير 2015 م

يشكل موضوع الفوتوغرافيا العربية[1]، بمختلف أجناسها وموضوعاتها وأساليبها الفنية، حالة استثنائية في مسارات الثقافات العربية. ذلك أن الاهتمام بقضايا هذا الوسيط وتطوراته وتأثيراته ظل، ولسنوات طويلة، منسيا وأحيانا أخرى مغيبا من اهتمامات المثقفين. ربما، يعود سبب ذلك إلى غياب ثقافة بصرية متينة في مجتمعاتنا؟ أو للجروح التي خلفها استعمال هذا الوسيط في الذاكرة الجمعية مع دخول الآلة الاستعمارية إلى الأرض العربية؟ أو نظرا للسلطة الرمزية التي تتميز بها الفوتوغرافيا في تمثيل الأشياء وتسجيل “الواقع”؟

– زمن الاكتشاف

إن أية محاولة لدراسة هذا المنتج الإيكونوغرافي الغني، إن على مستوى المحتوى أو على مستوى الشكل، يفرض على الدارس الوقوف على نوعين أو مستويين من الصور: الأول، التقطته عيون أجنبية / عين الآخر بنظر محكوم بنظرة إثنوغرافية للإنسان والأشياء والعالم. والثاني، أنتجته العين العربية / عين المحلي بمسافات حميمية وبجهات نظر متنوعة وبتأطيرات مختلفة.

تكاد تجمع كل الدراسات التي تناولت الفوتوغرافيا بهذه البلدان العربية، أن تاريخ دخولها إلى هذه الأمصار يعود إلىالمنتصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ أي الفترة نفسها التي صادفت زيارات البعثات الاستكشافية والعلمية الأجنبية لهذه الأوطان من أجل التعرف على طبائع ساكنتها وجغرافيتها وطبيعتها وعمرانها. بمعنى أوضح، للتعرف عما يميز ثقافات هذه الشعوب عن نظيرتها الغربية. إن الغرض من توظيف الآلة الفوتوغرافية هو إنتاج معرفة أيقونية موازية للنصوص المكتوبة، وحتى يتسنى للدارس التعرف بصريا عن خصوصية المجتمع العربي. وهذا ما يفسر أيضا سر الاهتمام الخاص لهذه الصور بالتفاصيل اليومية الدقيقة للحياة العربية: كالسكن والمعمار واللباس والفنون التقليدية…إلخ. لقد شكلت هذه الصور، بعدتصنيفها ومعالجتها وتحليلها ثم استخلاص النتائج منها، مصدرا أساسا ومهما في مد الآلة الاستعمارية بالمعلومات والأخبار الخاصة منها والعامة عن أحوال الأهالي وثقافتهم.

وتم توزيع هذه الفوتوغرافيات على أسناد متعددة؛ فهي تارة صور توضيحية تعضد مضامين الكتب السياحية والدراسات الميدانية والمقالات الصحفية بهدف تقديم شروحات إضافية للقارئ. وتارة أخرى، تأخذ صيغة بطاقات بريدية توثق وتخلد لحظات خاصة وحميمية لأسفار المستكشفين والمغامرين.

وعلى الرغم من الاختلاف الطفيف والنسبي على مستوى الأساليب المتبعة والمقاربات المستعملة، يمكن القول، إن الخاصية البارزة لفوتوغرافيي المرحلة هو انخراطهم جميعها في إنتاج صور قاسمها المشترك تمثيل الحياة العربية، باعتبارها متحفا يحتفظ بالمآثر البشرية والطبيعية ثم التاريخية. إنها تنهل جميعها من مرجعية جمالية واحدة في تأطير المواضيع وفي تأثيث المساحات المصوَّرة وتمثيل الحالات والوضعيات الإنسانية والعوالم والأكوان الثقافية.

إنها تقدم تمثيلات تبرز المجتمع العربي، باعتباره مجتمعا طريفا سواء من حيث ساكنته أو طبيعته أو عمرانه، أي مجتمع الافتتان بامتياز. لكن المضمر في خطاب هذه الصور أنها تروج لقيم ذات اتجاه واحد، يتبوأ فيها الغرائبي والعتيق والفولكلوري مكانة مهمة. أما حياة المتناقضات والنتوءات والتعدد، فهي مغيبة تماما.

تجمع كل الدراسات التي تناولت الفوتوغرافيا بالبلدان العربية، أن تاريخ دخولها إلى هذه الأمصار يعود إلى المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر.

لكن بغض النظر عن الخلفية الثقافية لهذا المنتج / المتن يمكننا، طبعا بعد تجزيء مكوناته وإعادة ترتيبه وفق منظورات واستراتيجيات جديدة، الاستعانة بهللتحققمن بعض المعلومات والأحوال المرتبطة بحياة مجتمعاتنا خلال هذه المرحلة وعن العلاقات والسلوكيات والقيم الاجتماعية التي سادت خلالها. وخاصة تزويدنا بمعطيات لقراءة تاريخ مجتمعاتنا وشعوبنا أو إعادة كتابته.

إن بتحيننا لهذا الموروث البصري وإثارة الأسئلة المرتبطة بالمنطلقات الفكرية والجمالية والفنية والتقنية التي اعتمدها فوتوغرافيوه، وكيفية اشتغالهم على المجال المصور ثم العلاقة التي تربط هذا المكون بخارج الحقل Le hors-champ. كلها قضايا، في نظرنا، من شأنها مساعدتنا على فهم إشكالات المنتج الفوتوغرافي الذي تعاقب على هذه المرحلة، وكذلك إدراك التصورات والتمثلات التي تحويها تأطيرات فوتوغرافيو ما بعد هذه الفترة التاريخية.

– محاولات التأسيس

يمكن التمييز إجرائيا ما بين أسلوبين فوتوغرافيين طبعا، مسير التجارب الفوتوغرافية العربية. الأول، تشبع بفلسفة الفوتوغرافيا الإنسانوية وجمالياتها. وقد هيمن هذا التوجه على الساحة الفنية لعقود طويلة كما عرف انتشارا واسعا من خلال وسيط الصحافة والمجلات الثقافية والملتقيات الفنية. وشكل موضوع الإنسان في علاقته بالتطورات والتحولات الحديثة التي تلحق المجتمع مادة دسمة لفوتوغرافيي هذا النموذج. أما التوجه الثاني، فقد ارتبط ظهوره مع نهاية القرن الماضي وبداية القرن الواحد والعشرين. تبنته في البداية أصوات وتجارب فردية، تلقت تشجيعا كبيرا من طرف المؤسسات الثقافية الأجنبية. لكن بعد فترة قصيرة، اتخذ إطار مجموعات شابة وصغيرة. ويعتمد هذا التوجه في إبداعاته على توظيف، إلى جانب سند الفوتوغرافيا، حوامل جديدة أملاها العصر الرقمي. كما تتميز مقارباته وفي أكثر من مناسبة بجرأة عالية في إثارة القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية، كل ذلك بأسلوب فني يجمع ما بين فوتوغرافيا المفهوم Conceptوفوتوغرافيا التشكيلية Plastique وفوتوغرافيا الإخراج La mise en scène.

تتلخص اهتمامات رواد النموذج الأول[2] في تسجيل اللحظات وتوثيق مختلف الأحداث التي يعيشها المجتمع. إن الاهتمام بتفاصيل المعيش اليومي في أدق جزئياته هي السمة البارزة التي طبعت هذه التجارب. ربما يعود هذا الميول إلى اشتغال جزء كبير من رواد هذا الصنف من الفوتوغرافيا بالمجال الصحفي. كما يمكن تفسيره أيضا بتأثر فوتوغرافييه بالفوتوغرافيا الاجتماعية Sociale وفوتوغرافيا الشارع Rue خلال فترة دراستهم الجامعية بالبلدان الغربية. وقد يكون ذلك، سبب انتمائهم للنوادي الفوتوغرافية المحلية التي أسسها الأجانب ببلدانهم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي…إلخ. وكلها عوامل تاريخية تسير في اتجاه إعطاء اعتبارٍ خاص لهذا النوع أو الجنس الفوتوغرافي. إن تمثيل “الواقع” La réalité في تعدده واختلافاته كان رهان جل فوتوغرافيي هذا الجيل، طبعا مع تفاوتات على مستوى المحتويات والأشكال من بلد إلى آخر. وحسب درجات الاهتمامات الفنية والفكرية للمبدع. وأيضا بحسب المناخ السياسي والديمقراطي السائد بهذه البلدان. لقد حاول مبدعو هذا الشكل التعبيري الفوتوغرافي بكل الإمكانات المتاحة خلق مسافات فنية وفكرية مع الموروث الكولونيالي ثم الانخراط في الأسئلة الثقافية الجديدة المطروحة على الفنان والمبدع العربي عموما. إن التأمل في متون هذا الاتجاه، يكشف لنا عن الرغبة الجامحة لهؤلاء المبدعين من أجل مواكبة المتغيرات والواقعات السوسيو- اجتماعية. إن هذه الاختيارات لا تنم، في تقديرنا، عن أفعال اعتباطية، وإنما عن قناعات فكرية يحاول من خلالها الفوتوغرافي الإسهام في كتابة التاريخ المعاصر للأوطان العربية وأحيانا أخرى إعادة كتابته. إن اشتغال الفوتوغرافي العربي على فكرة التدوين والتسجيل والتوثيق؛ أي كتابة الذاكرة المجتمعية بلغة مغايرة عن نظيرتها الشفهية والمكتوبة. نابع من وعي هذا الأخير، كون الأرشيف الفوتوغرافي قادر أن يمنح الباحث والدارس وخصوصا المؤرخ مادة تاريخية مكوناتها عناصر بصرية وفنية. ونابع أيضا أنه قادر أن يفتح آفاقا ورؤى جديدة، من خلال فعل المشاهدة والنظر، عن معنى “حقيقة” أو “واقعية” الأشياء. لقد كان لهذه الأسئلة وقع جلي وإيجابي على عدد مهم من الممارسين للفوتوغرافيا الإنسانوية وتحديدا في تمثيلهم “للواقع” وإعادة إنتاجه. وأيضا في اختياراتهم للموضوعات والتأطيرات وبناء المساحات المصوَّرة. لقد أمسى الفعل الفوتوغرافي مع هذا الجيل وقفة للتأمل والتفكير في إيقاعات المجتمع في لحظات حركته وسكونه. كما صارت مهمة الفوتوغرافي التقاط الأشياء في جوهرها أي تمثيلها تمثيلا مباشرا بدون مرشحات أو سُتُر. هذا دون إغفال مسألة الإنصات للذات وارتواء عطشها البصري والتنصيص على قبض كل ما يثير العين ويستفزها. إن رهانات الفوتوغرافي هي تجسيد حيوات المجتمعات في اختلافاتها الثقافية وتعددها الإثني والثقافي وخصوصياتها التاريخية وأبعادها الكونية.

إن مهمة المبدع هي صنع حدثه الفوتوغرافي كما يعيش أثره في دواخله ونظره.

ونشأ، إلى جانب هذا التيار الإنسانوي، تيار موازٍ بهموم ومفاهيم وقصديات جديدة. وتحمس لهذا الأسلوب الإبداعي جيل من الشباب جمع في تكوينه بين الثقافة العربية والغربية مع ميول أكبر لهذه الأخيرة. وباستثناء بعض الأعمال القليلة التي نحتت اسمها في المحافل العالمية[3]، ظلت المحاولات الأخرى حبيسة رقعتها الجغرافية الضيقة تكرر التقليعات والأساليب والنماذج التي ضاق منها الفن الغربي نفسه.

واستطاع هذا المَجْمَع الجديد من المبدعين، رغم قلة عدد أفراده، أن يؤسس ويرسخ لأشكال حساسية وأذواق فنية حديثة، وأن يثير قضايا معاصرة من قبيل الذاكرة والأوتوبيوغرافيا والتطرف والحدود…إلخ. كما تمكن بفضل مقاومة عناصره وإيمانهم بقضيتهم من تأكيد وجوده ونشر أفكاره وضمان استمراريته. لقد حبلت تجربتهم بنظر ثاقب يعيد لمفهوم الفضاء، العمومي والحميمي، بريقه ومكانته ومعناه الأصلي. وذلك من خلال تمثيله بوصفه أثرا لحياة خيالات أناس. إن عمل الفوتوغرافي عمل تسجيلي، لكن بحس حالم يسافر بمشاهديه في عوالم مجهولة. فمفهوم الفوتوغرافيا كما تصيغه هذه التجارب مفهوما شبيها بآلة خيالية تمزج في اللقطة / اللحظة الواحدة بين استرداد الزمن والزج به في ثنايا المستقبل. إن مهمة المبدع هي صنع حدثه الفوتوغرافي كما يعيش أثره في دواخله ونظره؛ أي التمتع بالقدرة والسلطة على تغيير المتخيل، لأن الشهادة التي تنقلها كاميرته ليست في حقيقة الأمر سوى شهادة ذات الفوتوغرافي عن نفسها، أي جروحها وذكرياتها وتاريخها في علاقاتها بالفضاءات. إن المنتج النهائي الذي يقترحه مبدعو هذا الاتجاه على المشاهد ليس في واقع الأمر سوى إعادة بناء وتشكيل ثم تخييل للمسافة التي يؤسس الجسد مع فضائه. وهنا تكمن قوة المبدع وصدقه ونباهته وتمرسه، حيث يرقى بتجربته أن تخلق في كل لحظة ضغطا على زر الآلة “واقعا جديدا”. ولعل فيما نقلته لنا نظرات هذا المجمع أثناء تسجيلها لأحداث “الربيع العربي” كان في جزء كبير منه كافيا لتأكيد ما قلناه سابقا في حقهم؛ أي، نقل للمشاهد بصدق عالٍ وحس رهيف ما تجري أحداثه خارج الحقل، وليس ذلك الذي ترصده شبحيات الآلات الفوتوغرافية.

* باحث مغربي متخصص في الفوتوغرافيا، ورئيس “الجمعية المغربية للفن الفوتوغرافي”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بيبليوغرافيا:

BOUDERBALA Meriem; Préface Meriem Bouderbala, texte Brahim Alaoui, catalogue d’exposition du 10 décembre 2009 au 10 mars 2010, éd. CMOOA Galerie, Rabat, 2009

– CHERIF Benyoucef; Algérie Une saison en enfer, présenté par Ghania Mouffok, éd. Parangon, Paris, 2003

Impressions d’Afrique du Nord ; texte de Nabil Naoum, éd. la Revue Noire et Institut du Monde Arabe, Coll. Monde Soleil Arabe, Paris, 1998.

– Ouvrage collectif,Miroirs d’orients: Dessins, photographies autochromes et video, catalogue d’exposition Miroirs d’orients du 15 mai au 31 août 2009, éd. Palais des Beaux Arts de Lille, Somogy éditions d’art Paris, France, 2009

Photographies anciennes de la Mecque et de Médine 1880 – 1947 ; Exposition organisée par l’Institut du Monde Arabe en collaboration avec la Bibliothèque du roi Abdulaziz – Arabie Saoudite, du 27 septembre au 30 octobre 2005, Paris, 2005.

Regards des photographes arabes contemporains; Préface Brahim Alaoui, textes Abdelkébir Khatibi et Nabil Naoum, éd. Institut du Monde Arabe, Paris, 2005

– ZENATI Halim; Chronique algéroise, texte de Waciny Laredj, traduction Zineb Laouedj et Ferhat Djellab, éd. Dalimen, Algérie, 2007

 

هوامش:

[1]ـ سنركز في دراستنا على فوتوغرافيا دول شمال إفريقيا التالية: المغرب والجزائر وتونس ومصر. لقد استقر رأينا على هذا الاختيار بناء على خلفيات تاريخية وثقافية محضة. ذلك أن المتتبع لنشأة الفوتوغرافيا بهذه الدول وتطورها ووثيرة إنتاجها، سيلمس بأن هناك قواسم مشتركة بين منتجات فوتوغرافيي هذه الدول سواء من حيث طبيعة الموضوعات أو المقاربات الفنية.

[2]ـ من بين هؤلاء الفوتوغرافيين؛ هناك محمد بنعيسى وداود أولاد السيد (المغرب)، حليم زيناتي وشريف بنيوسف (الجزائر)، كمال الدريدي (تونس)، مها معمون (مصر).

[3]ـ نحيل القارئ بخصوص هذا الموضوع على تجربة ياسمينة بوزيان وهشام بن أحود (المغرب)، برونو بوجلال وبرونو حادجي وفريدة حماق (الجزائر)، جلال قصطلي (تونس)، جيهان عمار ونبيل بطرس (مصر)

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.