من أعمال التشكيلي نذير نبعة

رساماً في مجلة الطليعة


كان عام 1968 عاماً مفصلياً في المسيرة الإبداعية لنذير نبعة، فإضافة لما سبق، انتقل في ذلك العام من التدريس إلى مديرية الكتب المدرسية، حيث كلف بإنجاز رسوم عدد من الكتب، فكان عمله هذا مناسبة للكشف عن موهبته كغرافيكي، وفرصة للمساهمة في بناء الذائقة البصرية للتلاميذ الصغار. وفي ذلك العام أيضاً عمل رساماً في مجلة “الطليعة”، المجلة السورية الوحيدة التي كانت تصدر حينذاك عن “دار البعث”، وتستقطب نخبة من الأسماء الثقافية السورية، فكانت فرصة لمنح الذاكرة البصرية السورية مجموعة هامة من الرسوم الصحفية و«الموتيفات» التي وجدت، بحفاوة استثنائية، طريقها إلى الصحافة، لتصبح مرشداً ودليلاً لكثير من الفنانين الشباب الذين عملوا في مجال الرسم الصحفي. كان نذير نبعة يقوم بإنجاز الرسوم الداخلية، وصفحة خاصة به كرسام للمجلة، إضافة لتصميم الغلاف. وقد استعاد الروائي والشاعر «عادل محمود» تلك الأيام في نص رثى به نذير نبعة فقال: “سافر رئيس التحرير. وكلفني بإدارة المجلة في غيابه. كانت المجلة الأسبوعية الوحيدة في سورية، واسمها مجلة “الطليعة”. وكنت أنا أصغر أنواع الكوادر وأصغر محرر. كان رئيس التحرير من النوع الذي يجرّب كل ما يخطر في باله، صارفاً النظر أحياناً عن أصول المهنة. ولكن ظلت المجلة تتقدم وتصبح منبراً مهماً للمثقفين والمبدعين السوريين في تلك الأيام 1967، 1975. قلت لهذا الرئيس: ولكنني لا أعرف كيف سأتصرف، كلّف سواي. نبر وقال: “أنت رئيس التحرير لمدة أسبوع. نقطة… انتهى”. مضى الأسبوع، ووصلنا إلى أصعب العمليات، وهي اختيار الغلاف وعناوين الغلاف الرئيسية، وفيما كنت أجرب العنوان الرئيسي والفرعي، المهم والأهم. الأبرز والمختبئ بين الكلمات… دخل الفنان التشكيلي نذير نبعة، بقبعته السوداء الأليفة، وابتسامته الودودة، سلّم وجلس. سألني باحترام إن كنت اخترت العناوين، فهو مصمم أغلفة المجلة أسبوعياً، قال: “أنا أريد منك أن تقول لي ما هو توجه الغلاف؟ قلت في هدوء وخجل: أستاذ نذير أنا لن أقول لك ماذا تفعل. الغلاف لك. وهذه عناوينه. بصراحة أنا لا أسمح لنفسي بالطلب إليك وتوجيه الأفكار تصميماً وتنفيذاً”. صمت ثم قال: “أنت تعرف أن الأستاذ محي الدين «رئيس التحرير الغائب» يتدخل في التصميم والتنفيذ”. قلت متشجعاً ومازحاً: “أنا الآن رئيس التحرير، وسيتبدل رؤساء تحرير كثر، وتبقى أنت… نذير نبعة”. أتذكر فرحه الطفولي، في اليوم التالي، وهو يعرض الغلاف، ونتأمل ألوانه التي لم تجف بعد. لقد تعلمت من تلك الحادثة، التي مضى عليها 45 سنة، كيف أحرر نفسي. وكيف يلون الفنان حريته”.


من أعمال الفنان التشكيلي نذير نبعة

بعثة دراسية إلى باريس

لم تنقطع علاقة نذير نبعة مع مجلة “الطليعة” حتى بعد سفره في بعثة دراسية إلى “باريس” عام 1971، فمن هناك صار يرسل للمجلة مقالات عن الحياة التشكيلية في العاصمة الفرنسية، كشفت عن جانب آخر من الجوانب المعرفية لشخصيته، وبعد توقف مجلة “الطليعة” عام 1975، وكان قد أنجز دراسته في “باريس”، استقطبت مجلة “الموقف الأدبي” موهبة نذير نبعة، ورسومه التي صارت أكثر ثراء. وعن هذه الرسوم كتب الفنان «أحمد معلا» في مقالة نشرها في مجلة “الموقف العربي” ببيروت نهاية السبعينيات:

في مجلة “الموقف الأدبي”، ببعض الأعداد التي نشرت بين عامي 1975-1976 ظهرت أعمال نذير نبعة المرسومة بالحبر الصيني إلى جانب قصائد أو قصص قصيرة فحملت المجلة في طياتها أدباً متميزاً هو رسوم نذير. قد يتساءل البعض، إلى أي حد تصح هذه المقولة “أشعار نذير نبعة المرسومة”، فإنهم يرون أن الرسوم كانت من أجل تقريب القصيدة للقارئ. ورغم أن انتقاء هذه الرسوم كان يتم من خلال قراءة القصيدة ومن ثم العودة إلى مصنف نذير المليء بالرسوم، وانتقاء واحدة قريبة من طقس القصيدة أو همها وتطلعها – لكن أي قرب هذا…؟ إن القرب الذي نسجته نراه من خلال التأثير الذي مارسته القصيدة أو العمل الأدبي على نذير، أية صورة تطابقت مع الصورة التي يحملها في مخليته؟ أي هم أو هاجس هذا الذي جمع العمل الأدبي بالعمل التشكيلي حتى اختار نذير هذا الرسم أو ذاك.”

وعن تلك الرسوم أيضاً كتب الشاعر والناقد العراقي «فاروق يوسف»:
“صحيح أن نشر رسومه في المجلات الأدبية السورية وبالأخص مجلة «الموقف الأدبي» قد أكسبه شهرة على المستوى العربي بسبب رقي المجلات التي كان ينشر فيها، غير أن تلك الرسوم قدمت إلى القراء متعة بصرية تكاد تنافس المتعة التي كانت النصوص الرائعة تقدمها، بل وتتفوق عليها أحياناً. كان بعض من القراء يحتفظ بالمجلة من أجل أن يعود إلى تأمل رسوم نبعة، وهي رسوم تنطوي على الكثير من عناصر الشد الخيالي. كانت تلك الرسوم تضفي على النصوص الشيء الكثير من الخيال. في حقيقته لم يكن نبعة رساماً توضيحياً. كان يقيم معرضاً في كل عدد من المجلة التي يرسم فيها. أتذكّر حمائمه في أحد أعداد مجلة «الموقف الأدبي» وكنت يومها أفكر بحمامة بيكاسو. لقد اجتاحت حمامة نذير نبعة خيالي بما يشبه النداء الشرقي الغامض القادم من الليالي العربية. كل خط يرسمه لا يخلو من زفرة الأمير الأندلسي الأخير وهو يلتفت إلى غرناطة. شيء عميق من دمشق بأزقتها الضيقة المشبعة بالظل يفلت من حيزه الجغرافي ليجد له مكانا في النزهة اللونية التي يقوم بها نبعة كلما رسم لوحة جديدة”.


من أعمال التشكيلي نذير نبعة

رساماً في مجلة أسامة للأطفال

وكان لنذير نبعة في العام التالي تجربة هامة مع الرسوم الصحفية، حين صدرت مجلة “أسامة” كأول مجلة للأطفال في سورية، فعمل رساماً فيها لعدة سنوات إلى جانب «ممتاز بحره» و«لجينة الأصيل» و«طه الخالدي»، ونفذ غلاف العدد الأول منها، وكان لهذه التجربة دور كبير في تعرف الأطفال الصغار على نذير نبعة. وقد سئلت أثناء لقاء تلفزيوني حديث عن السر في أن عدد الذين يعرفون نذير نبعة من رسومه في مجلة “أسامة” هو أكبر من عدد الذين يعرفونه من خلال لوحاته، فأجبت أن ذلك يكمن في التباين بين العدد المحدود لحضور المعارض، والعدد الكبير لقراء مجلة الأطفال. ولعل هذا ما شجع نبعة على العمل في أكثر من مجلة للأطفال، خاصة وأنه قال يوماً: “كنت أحلم بلوحة تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض”.


من أعمال نذير نبعة

مدرسا في كلية الفنون الجميلة بدمشق

وفي عام 1968 أيضاً تقدم نذير نبعة إلى مسابقة للمعيدين في كلية الفنون الجميلة، ليصبح بعد نجاحه فيها واحداً من أهم أساتذتها، وأكثرهم تأثيراً في الطلاب، وقام بالتدريس في أقسام الكلية جميعاً، وكان أحد مؤسسي قسم الدراسات العليا في الكلية عام 1980 مع «الياس زيات» و«محمود حماد» و«فاتح المدرس». وقد استمر في التدريس حتى وقت قريب جداً باستثناء الفترة الممتدة ما بين عام 1971 و1974 حين سافر في بعثة للدراسة في المدرسة الوطنية العليا للفنون في “باريس” «البوزار»، فساهمت سنوات الدراسة تلك في تطوير خبراته التقنية ومعارفه النظرية وثقافته التشكيلية، دون أن تخرجه عن المسار الأساسي لتوجهه الفني. وختم فترة الدراسة الفرنسية بمشروع تخرج عن النباتات نال جائزة المدرسة. وكان بشكل ما امتداداً لتجاربه الأولى في بستان جدته «أم محمود»، ولرسوم أشجار «الغَرب» على ضفاف “الفرات”.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.