وسيم ابراهيم
(سوريا)

الحركة ... حياةفي خان «أسعد باشا» تغدو المفارقات أكبر من أن تحملها جملة تهكمية. السخرية سرت بيسرٍ وكثافة تشكك في كونها مجرد مصادفات. يستضيف هذا المعلم التراثي معارض فنية أحياناً. يساعده على ذلك بهوه الرحب والكبير. في جواره واحدة من أنشط الأسواق الشعبية في دمشق. إذ لا يمكن أثناء المرور بسوق «البزورية» تجاهل باب الخان الضخم، والمفتوح على مصراعيه، في شكل يحمل دعوة جاذبة الى دخوله. بين الحين والآخر تتسرب امرأة مع أطفالها إلى المعرض المقام في الخان، تجول فيه بفضول وهي تحمل أكياساً وأغراضاً تسوّقتها.

الفن هنا يغادر «الكاليري» التي عادة ما يشكل المثقفون ملمحه الأبرز، ليعيش قريباً جداً من يوميات الناس. عجوز يدخل ليأخذ قسطاً من الراحة بجانب «البحرة»، من دون أدنى اهتمام بالمعروضات. بعدها يدلف رجل خمسيني بوقار. يتجول بين الصور، يقف أمام إحداها ويمسك بإطارها ليقلبها وكأنه يبحث عن شيء ما خلفها! هي واحدة من بين صور أخرى يضمها معرض المصور السوري بسام البدر. يتململ المصور ويعلّق «أحياناً لا أفهم ما يدور في عقل الناس؟»، في إشارة الى الرجل الذي حاول قلب الصورة.
وللأمانة فالرجل العابث لم يبدُ عارفاً، بدوره، بما يجول في رأس من التقط الصورة! ولا مفر من القول إنها ليست أبداً تجربة تقليدية في فن التصوير الفوتوغرافي. بالكاد يمكن إدراك العناصر التي تجمعها الصورة، وأحياناً تبدو تلك العناصر «غامضة» في شكل تلتبس معه ماهيتها، لتغدو مجموعة من الأخيلة والإضاءات المتفاوتة واللطخات اللونية. يقول المصور أنه يريد من ذلك «الوصول إلى أعمق وأبعد مما نراه، ومحاولة تقديم شيء يقع خلف العين الطبيعية». وهكذا لا عتب على الرجل العابث، فلعلّ الرسالة الأخيرة وصلته وتجاوب معها حرفياً باحثاً عما يقبع وراء الصورة!
صاحب المعرض مصور محترف شارك في العشرات من المعارض الجماعية، وله معارض فردية في سورية وفرنسا. معرضه الحالي يحمل عنواناً، أو رؤيا، «الحركة… حياة»، ومحور شغله فيه يعتمد التصوير بسرعات بطيئة، إلى بطيئة جداً، مقترحاً قراءة جديدة لدور مغلاق العدسة، ولا مجازفة في القول إنها قراءة مغايرة. فالصورة عادة ما تثبّت الحركة. تحنّطها. تخطف روحها مدعية كثافتها انطلاقاً من لقطة تعبر بلمح البصر. لكن بسام يريد لصوره أن تحتفي بالحركة، فلا نجده يقيدها في جزء ضئيل منها. يريد للحركة أن تأخذ مداها، وأن يعبّر الضالعون فيها عن كيانهم بحرية، وكأن هذا الكيان يأخذ هيئة نجهلها في حواره غير المقيّد مع الضوء واللون. طبعاً يحدث ذلك على حساب كسر حال التلقي التقليدية للصورة. يقول بسام أن ما يعنيه كمصور هو «تقديم حال تشكيلية، وإعطاء بعد وعمق لا توفرها الحالة التوثيقية» التي تكون عليها الصور العادية، التي يختبرها كل يوم في عمله مصوراً صحافياً. ومن إفرازات هذه الحال «التشكيلية» أنها ذات بنية خدّاعة للعين. فلا ينفك الناس يسألون المصور إن كان ما يرونه صوراً أم رسوماً. إذ تبدو بعضها فعلاً وكأنها صور للوحات زيتية، بكل ما يعنيه ذلك من ضربات لون قوية وإضاءات موزعة وخطوط تكسر هيئة الشخصيات فيها. ويمكن الإحساس بفحوى هذه التجربة، عند مشاهدة بعض الصور التي تكثف حالات إنسانية وتجعلها أكثر جمالية وتعبيراً. نرى شخصاً مبهماً، يقف وحيداً في مواجهة شارع ممتد، وخلفه منعطف. يمتزج ظله فيه الى حد التماهي، فيما إضاءة قوية عليه، تجعل المتلقي مسكوناً بحال الوحدة والانتظار.
المعرض كان ثمرة رحلة بدأت بالتجريب، ولم تبرأ منه. فحتى الآن لا يستطيع المصوّر أن يضمن نتيجة اللقطة الطويلة التي «يرصدها». كل ما يمكنه تقديره هو أن هذا الكادر والمنظور سيوفران صورة جيدة. وسيبقى دائماً ما نسبته 50 في المئة متروكاً للمفاجأة، سلباً أم إيجاباً. وكما يحدث مع المتلقّي فإن المصور يفاجأ أحياناً بما التقطته عدسته المسترخية. إذ يبقى من الصعب تحديد الهيئة التي ستبدو عليها الأشياء، فيما لو ترك لها خيار التشبّع بالضوء واللون.
وتبدو في إحدى الصور، المأخوذة أثناء عرض مسرحي، امرأة وأمامها رجل، لا نرى بين كتفيه رأساً بل ألسنة لهب، ومبرر ذلك أن الرجل كان تحت بقعة ضوء (سبوت). هذه الطريقة في الشغل تحرضنا على السؤال، هل أن العين، الحريصة على سلامة البصر، توهمنا بما نراه، حين تضيق حدقتها وتتسع لهذا الغرض؟ وكيف أن نوراً ساطعاً، أو لوناً مشبعاً، لا يحدث تبدلاً كبيراً في هيئة الأشكال المحيطة بنا؟ هل هي فعلاً معزولة عن التفاعل والتبدّل أم هو نظرنا المبرمج كعدسة أتوماتيكية في آلة تصوير رقمية متطورة؟ ذلك بالطبع مع تأكيد المصور أنه لم يستخدم أي فلاتر «لونية» أو تجهيز آخر.
بالمقابل لا تعطي صور أخرى الانطباع ذاته. ولا تبدو خارجة من رحم «الرؤيا» ذاتها. إذ لا يسع المتلقي تحديد مركز الحركة، واتجاهها، وتالياً من يقوم بها، كي تعنيه، قبل أن تفتنه، حياةٌ تفرزها. ببساطة تبدو بعض الصور هالات وأخيلة شبحية، من النور والظل، لا تعطي أي هيئة محددة، وهو أمر يحرف التلقي نهائياً عن «الحياة.. حركة»، ليكون جل تركيزه تنقيبه في الإجابة عن سؤال واحد «ما هذا الذي أراه؟». لكن قد يبدو لافتاً بالفعل، أن نرى في صورة ظلٍ متلاشٍ، ونعرف أنه لشخص غادر الكادر. معرفة أنه يمكن صورة فوتوغرافية الاحتفاظ بأثر من أشخاص صاروا خارجها هو أمر مغرٍ للمخيلة.
الخوض في هذا الغموض و»الخداع» يروق للمصور، إذ يراه لعبة لا بأس في تجربتها مع المتلقي، كأن يتوهم لوحة تشكيلية، أو يحفزه على البحث عن مرجعية لصورة ضبابية وكأن ألوانها تحللت بمن فيها… لكنه بالطبع لم يقصد أن يدفع الحضور إلى قلب الصور بحثاً عما هو خلفها أو كما قال: «وراء العين»، كما يحصل مع الرجل العابث أو غيره.

الحياة
25/02/2007