“وليد معماري”.. طقوس الكتابة بـ”الرسمي”

إدريس مراد

الخميس 04 حزيران 2015

دير عطية

تمتاز تجربته بالفكرة المبتكرة القائمة على المفارقة والسخرية المحببة، خارجاً بذلك من شخصيته الجدية، مهتماً بالتفاصيل الطريفة التي تزيد القصة جاذبية، ذلك الإبداع الذي اكتسبه من ملاحظته القوية في صغره لكل ما يدور حوله.

تكبير الصورة

مدونة وطن “eSyria” التقت بتاريخ 29 أيار 2015، الأديب الكبير “وليد معماري” في منزله بـ”مساكن برزة”، فحدثنا بطريقته الشيقة المعتادة عن طفولته قائلاً:

«تنقل أبي ومعه العائلة إلى عدة مدن وبعض الدول راكضاً وراء المعيشة ومنها مدينة “عمّان”؛ فاشتغل هناك كراصف بلاط رخامي في القصور الملكية، وقد أخذني معه ذات مرة وأذكر أنه كان يركب قطع “البورسلين” في حمام القصر، حين دخل الملك “عبدالله” متفقداً سير العمل، وحين رآني، رفعني بين ذراعيه هاتفاً لأبي: “ما شاء الله، أنت تعلمه الصنعة مبكراً!”، ثم أزاح طرف عباءته الملكية، ومد يده إلى جيب دشداشته وأخرج نصف “شلن”، ودسه في كفي اليمنى، وقد كورت كفي على نصف الشلن، ثم قذفت به بكل قوة نحو الجدار، وأعتقد أنني منذ البداية كان لدي “فيروس” رفض أعطيات الملوك.

أما أبي فكان يسكنه هاجس أنني لم أقبل في المدارس الرسمية للمملكة، فطلب من الملك ذلك، فكانت بداية موفقة لي مدّعمة بواسطة من ملك لدخولي أول مدرسة رسمية نظامية، واستطعت في الصف الأول من المدرسة الأولى فك الحرف من دون وساطة ملك».

وأضاف: «فيما بعد عاد بنا أبي إلى “دير عطية” مسقط رأسي، وأودعني قبل عودته إلى العمل في العاصمة في مدرسة يديرها أبونا “باسيليوس”، قبل أن يقرر نقلنا إلى العاصمة حيث يعمل، أسكننا غرفة ضمن بيوتات “دمشق” القديمة في دار عجيبة، يودي “زاروبها” المغلق إلى دار فسيحة تسكنها قبائل من بشر “فلسطينيين، أرمن، أكراد، شركس..”، ثم أصبحت تلميذاً في مدرسة أهلية راقية، قبلتني على أساس العشر المجاني، وبعدها صرت تلميذاً في مدرسة رسمية داخل السور الأثري لـ”دمشق القديمة” تدعى مدرسة “ابن الرومي”، ومن حسن الحظ فتحت لي مكتبة المدرسة آفاقاً واسعة للقراءة.

وفوق السور العتيد بدأت محاولاتي الأولى في الكتابة، وهي كتابات طفولية، وأكثر ما كان يزعجني هو تشكيك المعلمين بكتابتي لمواضيع الإنشاء، وكانوا يسألونني: “من

تكبير الصورة
وليد معماري

كتب لك هذا الموضوع؟”، ولم يكونوا معلمين في المدرسة فحسب، بل كانوا علماء يستزيدون من مدارج العلم، ويعكسون معارفهم علينا».

وقال أيضاً: «ما عمق تجربتي القصيصية وأغناها هي زياراتنا المتواترة إلى بيت جدي لأمي في بلدة “النبك”، وسماع حكايات من الحكواتي “أبو خليل السمكري” و”أبو جرجس الهبّا”، كنت أصغي إلى الحكاية التي تُحضر إلى قاعة جدي الواسعة ملوكاً وملكات، أميرات يخطفهن الجن، وأمراء، وصعاليك، ومردة، وساحرات، ومصابيح سحرية، وغزالات يتكلمن، وطاقيات إخفاء..، وحين سرد الحكاية الخرافية كنت ألحظ تلك التحولات في وجوه من يستمعون، وقد سيطر الحكواتي على مشاعرهم، واكتشفت في تلك الليالي أن للحكاية تأثيراً يشبه السحر بمستمعيها، ثم قررت أن أمارس هذا النوع من السحر. كنت أشتري بكل مصروفي الأسبوعي البالغ ربع ليرة سورية مجلة للأطفال كانت تصدر وتصل من “القاهرة” إلى “دمشق”، وفي الصيف الفاصل ما بين نيلي للشهادة الابتدائية وبين دخولي الإعدادية، قرأت عملين للكاتب الروسي “دستويفسكي” هما: “الجريمة والعقاب”، “الإخوة كرامازوف”».

وأردف قائلاً: «كمساهمة لرفع بعض الضيم عن أبي ومتابعة دراستي الجامعية عملت معلماً وكيلاً في قرية منسية في الشرق الشمالي من البلاد، اسمها “سعلو”، منها انطلقت لأداء خدمة العلم ولم أتقن الفنون العسكرية كثيراً، لكنني أتقنت ميكانيك الأسلحة وميكانيك السيارات، ثم خضت حرب “تشرين” ولم أكن بطلاً في الحرب لكن الجنود الذين ربيتهم مذ كانوا أغراراً قاتلوا معي أو أمامي بضراوة، وكانوا شجعاناً إلى درجة لا تصدق وبفضلهم نلت وسام الشجاعة من الدرجة الأولى».

عن بدايته في الصحافة يقول: «بعد سلسلة من خيبات الروتين الوظيفي، أتاح لي الرجل الجليل الراحل “جلال فاروق الشريف”، مؤسس الصحف الثلاث التي تصدر في “سورية” حتى وقتنا الراهن، فرصة للعمل، ولم تكن تربطني به أي صلة بسبب الفارق الكبير بيني عمرينا وكان يوصلني إلى بيتي بسيارته عند خيوط الفجر، حين نتأكد من ولادة صحيحة للصحيفة. أتيت من الأدب

تكبير الصورة
من مؤلفاته

إلى الصحافة، وليس العكس ولم أكن صحفياً بالمعنى الشامل للكلمة وعلى الأغلب كنت أديباً يعمل في الصحافة».

وعن طقس الكتابة لديه ينهي “معماري” حديثه قائلاً: «أولى قصصي كتبتها قريباً من نهر “الفرات”، ولم أستطع الكتابة ولو لمرة واحدة إلا وأنا في كامل هندامي وجهوزيتي وكأنني في عرس أو زيارة رسمية، أغلب الأحيان كنت أكتب بعد حلول الظلام، فأنا كائن يستيقظ بجسد موهن، و”ماصل” يسكنها اليباس، وبعض الألم، مع ذهن مشوش، يبدأ الصفاء تدريجياً بعد العصر».

الإعلامي والشاعر “نضال الماغوط” قال: «”وليد معماري” واحد منا، فأنا ما شعرت يوماً بأنه غريب عني كقارئ، شأنه شأن أغلب المبدعين الذين انتموا إلى اتجاه “الواقعية الاشتراكية” والذين عبروا عنا، عن همومنا، ومشاعرنا وأمانينا، وأعدّ نفسي فيما كتبت وأكتب أنني متأثر به على نحو ما.

كنا أيام الجامعة ننتظر زاويته “قوس قزح” التي يكتبها في صحيفة “تشرين”، نقرؤها ونتداولها فيما بيننا، هذه الزاوية القليلة المفردات، التي تحمل قضايا وهموماً يومية للناس الكادحين والبسطاء بلغة ساخرة وساحرة، وكان لها شعبية ساحقة بين القراء، وتعرفت إليه فيما يكتب للأطفال، ثم في القصة القصيرة التي من نافل القول إن قلت إنه من علاماتها الفارقة في “سورية”، وأشعر بأنه وببساطة يمكن أن يحول بعض قصصه إلى سيناريو فيلم سينمائي، لأنها تدخل في خضم حياتنا اليومية».

“صادق اليبرودي” أحد متابعي كتابات “معماري” ومقرب منه قال: «يتمتع “أبو خالد” بوجه طفولي هادىء وكلام موزون وجدية في التعامل مع الآخرين تجعلهم لا يصدقون أنهم أمام صاحب كل تلك الكتابات الساخرة المضحكة المبكية، ولا يزال حتى اليوم يكتب زاوية أسبوعية في صحيفة “تشرين” التي كتب لها على مدى ثلاثين عاماً آلاف أقواس القزح، تلك الزاوية التي أطل من خلالها على جمهور واسع، فحظي بحب هذا الجمهور وأصبح معروفاً من خلالها ومن خلال الكتابات القصصية على مستوى الوطن العربي، حتى بات يعرفه

تكبير الصورة
من مؤلفاته

الناس العاديون من عمال وباعة وعمال مطاعم، وأينما ذهب فالزاوية كانت متابعة بطريقة واسعة في جميع أنحاء “سورية”، كما غزت قصصه قلوب الكبار والصغار داخل الوطن وخارجه».

يشار إلى أن الأديب “وليد معماري” من مواليد “دير عطية” عام 1941، يحمل إجازة في الفلسفة من جامعة “دمشق”، عمل في التدريس ومديراً لمركز إنعاش الريف، وصحفياً بجريدة “تشرين”، له ما يقارب خمس عشرة مجموعة قصصية، منها للأطفال نذكر منها: “شجرة السنديان”، “أحلام الصياد الكسول”، “العجوز والشاب”، “درس مفيد”، وغيرها. وللكبار نذكر بعضها: “أحزان صغيرة”، “زهرة الصخور البرية”، “دوائر الدم”، “حكاية الرجل الذي رفسه البغل”، “تحت خط المطر”، “أختي فوق الشجرة”، وغيرها. وله مساهمات في الكتابة للسينما والمسرح والتلفزيون.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.