سنان باشا … أبو العمارة التركية

     عاشت الإمبراطورية العثمانية عصراً ذهبياً تاريخياً، أسدل عظمته على أرجائها الشاسعة، فغدت دولة قوية ذات نفوذ وسلطان، وشهدت ميادينها كافة نهضة كبيرة، وعلى وجه الخصوص فن العمارة، الذي سطر بتصاميمه المتقنة وهندسته الفريدة المشغولة بأيدي كبار المعماريين العثمانيين أروع الإنجازات في تاريخ فن العمارة التركية والعالمية، ولعل المعماري سنان، الذي عرف بلقب أبي العمارة التركية، أحد أبرز هؤلاء المعماريين الذين تميزت أعمالهم الفنية بالدقة والحرفية والإبداع الخالص.

المعماري سنان عاصر خمسة سلاطين عثمانيين أثنوا على إنجازاته الإبداعية.

ولد سنان باشا عام 1489م في قرية أغير ناص التابعة لولاية قيصري في هضبة الأناضول، وعرف منذ صغره بحبه لشق قنوات المياه وبناء الأكواخ، ولصقل موهبته الفنية، التحق بمدرسة الأوجاق المعمارية، المدرسة التي تلقى فيها كبار المعماريين علومهم العمرانية، وفي عهد السلطان بايزيد الثاني انضم إلى صفوف الجيش العثماني، وشارك معه في غزوات عدة، وبعد انتقال الحكم إلى السلطان سليم الأول تبوأ سنان مكانة هامة في الجيش، تقديراً لجهوده في وضع تصميمات البناء لمراكز وتجمعات الجيش العثماني وإنشاء الجسور والقلاع والحصون الحربية، غير أن تفوقه العمراني برز أكثر خلال فترة حكم السلطان سليمان القانوني الذي عينه كبيراً لمهندسي الدولة العثمانية، وذلك لسرعة إنجازه جسراً فوق نهر بروت وأخر على نهر الدانوب وغيرها من الأبنية المشادة لخدمة الدولة العثمانية.

واستمر عمل المعماري العبقري سنان في إشادة الصروح العمرانية الفريدة إلى أن وافته المنية عن عمر ناهز المائة عام، فكان بذلك قد عاصر خمسة سلاطين هم، بايزيد الثاني، سليم الأول، سليمان القانوني، سليم الثاني، مراد الثالث.

  

      أربعمائة صرح معماري منتشرة في أرجاء تركيا والعالم

تمثـل أعمال سنان بتصاميمها المتقنة وبنائها المتين المتميز بنقوشه وزخارفه صفحة ناصعة في تاريخ فن العمارة الإسلامية، حيث شيد خلال مسيرته المهنية الطويلة عدداً كبيراً من المباني ذات الوظائف والمضامين المختلفة، على رقعة جغرافية شاسعة بامتداد الإمبراطورية العثمانية، من بلاد البلقان وحتى مدينة مكة المكرمة في شبه الجزيرة العربية. وماتزال العديد من الآثار العمرانية الهامة تشهد على عبقريته وإبداعه وتحمل توقيعه في العالم العربي، كمجمع الخسروية في مدينة حلب، والتكية السليمانية في مدينة دمشق، كما قام سنان بترميم قباب الحرم المكي الشريف في مكة المكرمة، إضافة إلى إنجازاته الأخرى في كل من المدينة المنورة والقدس والبصرة.

عبقرية سنان باشا في بناء القباب والفراغات العمرانية

ظهرت عبقرية سنان باشا العمرانية بشكل واضح في تعاطيه مع إشكالية الفراغات، وبناء القبب، وذلك بتوصله الى إنشاء منظومة هندسية عالية المستوى شغّلت جميع العناصر التركيبية للمبنى المشاد، محرزاً بذلك أوسع قدر من الفراغات المتاحة ومحققاً انسجاماً وتناسقاً بين هيئة الشكل الخارجي ونوعية الفضاء الداخلي.

   

               العوامل المؤثرة في فن سنان المعماري

يرجع تفوق سنان وتميز أعماله إلى فكره المعماري الناضج وخبرته الواسعة المستقاة من اطلاعه على الفنون العمرانية للبلدان المختلفة التي زارها أثناء تنقله بصحبة السلاطين العثمانيين، فمن خلال مزجه بين فنون معمارية مختلفة وفن العمارة التركية وأفكاره الخاصة أنتج أعمالاً عمرانية فنية متجددة لا تشبه غيرها.

وقد لعب فن العمارة السلجوقية دوره كأحد أبرز العوامل المؤثرة في فن سنان وبلوغه شهرة واسعة لم يحظَ بها أحد من قبله، فمنذ نعومة أظفاره تفتحت عينا سنان على رؤية الأبنية العمرانية السلجوقية المنتشرة في بقاع الأناضول كافة، ما أغنى حسه المعماري وصقل موهبته الإبداعية. إلا أن اطلاعه على فنون العمارة الأوروبية والتمعن في تصميمها ودراسة أشكالها الهندسية المتميزة، أضاف إلى حصيلته المعرفية أساليب عمرانية جديدة، مكنته من بناء روائع فنية بنمط وأسلوب مختلف.

تفوق جامع السليمية على تصميم كنيسة آية صوفيا البديع

يعد جامع السليمية، الشاهد الحي على عبقرية سنان وخبرته في الهندسة البنائية وتنظيم المدن، كما يعتبر أحد رموز فن العمارة العثمانية الكلاسيكية والإسلامية، يشهد على ذلك موقعه فوق تلة مرتفعة، ليستطيع زائر مدينة أدرنة مشاهدتها من أنحائها كافة، وكما تثبت هندسته الداخلية منها والخارجية، تفوقها على تصميم كنيسة آية صوفيا البيزنطية الطراز، فقد كان سنان شديد الإعجاب بتصميم الكنيسة الفريد، وفنونها العمرانية العريقة، وأراد بناء صرح عمراني يفوقها عظمة وجمالاً، ولتحقيق حلمه المنشود اطلع على أدق التفاصيل الهندسية للكنيسة، وخصص من وقته الكثير لتأمل ودراسة بنائها والتعمق في تخطيطها العمراني، متمكناً في النهاية من اكتشاف سر عظمتها ومعرفة خفايا هندستها البنائية المميزة، ما ساهم في توسيع مداركه المعمارية وإثرائها بفنون عمرانية أكثر تطوراً وإبداعاً، ليتجلى ذلك واضحاً في تحفته العمرانية، جامع السليمية، الذي يؤكد خبراء العمارة والباحثين تفوق بنائه الهندسي وفنونه على كنيسة آية صوفيا التحدي الأهم الذي أوصله إلى القمة في إنجازاته.

   

                     إنجازات المعمار سنان

تميز سنان باشا بغزارة الإنتاج التصميمي، حيث شيد 400 صرح معماري خلدت مسيرته المهنية في أكثر صفحات فن العمارة التركية إشراقاً. ومن أشهرها:

جامع شهرزاده:

بنى سنان جامع شهرزاده عام 1944 بأمر من السلطان سليمان القانوني في مدينة اسطنبول تخليداً لذكرى ولده شهرزاده محمد، وقد استغرق بناء هذا الجامع أربع سنوات، وكان قد بلغ من العمر أنذاك أربعة وخمسين عاماً.

يلحق بالجامع المبني على هيئة هرمية مدرجة مجمع مؤلف من مدرسة ودار ضيافة موزعة بتناسق بديع. وفيه نلاحظ محاولات سنان الأولى في إشادة القبة المركزية وأنصاف القباب، ويبلغ قطر قبة الجامع الرئيسية 19م، وارتفاعها 37م، وللتخفيف من جمود كتلة البناء من الخارج عمد إلى تغطية روؤس دعائم القباب الأربعة الخارجية بقباب مضلعة على هيئة أبراج عوضاً عن بناء أبراج صغيرة حول القبة.

جامع السليمانية:

يعد جامع السليمانية من أشهر أعمال سنان المعمارية المنجزة في عهد السلطان سليمان القانوني. ففيه قدم سنان تصميماً جديداً وجرئياً أحدث تحولاً هاماً في فن العمارة العثمانية والإسلامية.

بني عام 1557 على ربوة عالية مطلة على القرن الذهبي، وأُلحِقَ به دار لإطعام الفقراء ومشفى ومدرسة للطب وحمام ودار للكتاب وأربع مدارس عليا وعدد كبير من الحوانيت، وفي الجهة الخلفية للجامع يوجد مدفن يضم ضريحين، أحدهما للسلطان سليمان وأخر لزوجته، بينما تموضع ضريح سنان باشا الذي شيده بنفسه على مقربة من الجامع.

استخدم سنان في بناء الجامع نظام القبة المتوسطة ذات الارتفاع 53م، وقطرها 27م، وعلى جانبيها يوجد مجموعة من القبب الإضافية وسعت بقبب نصفية، وللجامع أربعة مآذن موزعة في زواياه، مئذنتان أماميتان قصيرتان نسبياً لكل منهما شرفتان، أما الاثنتان الأخريان فأكثر طولاً لكل منهما ثلاث شرفات، وترمز مآذن الجامع الأربع إلى أن السلطان سليمان القانوني هو رابع السلاطين العثمانيين منذ فتح القسطنطينية، بينما تشير الشرفات العشر إلى أن السلطان هو عاشر سلاطين آل عثمان منذ عهد مؤسس الدولة العثمانية، وبذلك يكون قد حقق سنان رغبة السلطان سليمان القانوني.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.