التشكيلي السوري مجد كردية:الانتماء أكبر من الحدود والأسلاك الشائكة

لوحة للفنان السوري مجد كريدية

التشكيلي السوري مجد كردية:الانتماء أكبر من الحدود والأسلاك الشائكة

وفاء صبيح – 29 مارس 2018

حكاية بصرية تحاك بدهاء مبدع، يسردها الفنان ببساطة. مجد كردية. ذاك النسّاج يلتقط التفاصيل الحياتية، يعيد ترتيبها وخلقها بمفاهيم قد تبدو للوهلة الأول غرائبية “إعادة فهم للواقع”. رؤيته من منظور الفنان. التاجر يرى العالم زبائن. الجندي يراهم أعداء، والفنان يرى في كل كائن حي نسخة لا تتكرر، فيحاول أن يمتص قدر ما يستطيع من التفاصيل والمشاعر والأفكار؛ يعيد خلقها حتى تظهر بحلة جديدة تشبه الكائنات الحية، وبنسخة لا تتكرر “عندي حياة على القماش، رشيقة خفيفة، ومتقشفة صوفية”.

قصة قصيرة جدًا جدًا

 *”بحبك قد الحمار”، وهنا أنقل جملًا عن كردية كتبها على إحدى لوحاته: حبني قد الأرض.

* بس الحمار أكبر من الأرض.

كيف؟

 ما شفت حدا مضيع حماره، بس في كتير عالم ضيعوا أرضهم”.

الانتماء يأخذ بعدًا أكبر من الجغرافيا والحدود والأسلاك الشائكة، هو مفهوم جدلي ومفصلي، فالأوطان والأرض لا تحدّان الانتماء: “أنتمي للجمال على أي مساحة كانت، المساحة التي أعيش فيها، لا لرقم بناية أو شارع، أنتمي للوحة فنية، أنتمي للفصاعين، للوحش والفأر، لذاك الحجر الذي كنت أقف عليه على ضفة الفرات الأسطورية، إلى الحزن الذي في عيون جدتي لأبي، وأمي، إلى ذلك الحزن الذي لاحق جدتي على مدى 20 عامًا؛ جدتي التي خلعت من بيتها، و(لحشونا برا)، وإلى حضنها الذي أنتزع ابنها منه، إلى دمعتها المالحة الملونة، فيما كان هناك فرح ومهرجان للمحبة”.

انتماءات كردية، المولود في مدينة الطبقة السورية (شرق) عام 1985 تتنوع وتبدأ من “جدتي التي شمّت رائحة أبي تحت إبطي وأسلمت الروح قبل أن تراه على قيد الحياة. أنتمي إلى جدتي المكافحة التي عملت في معمل للبسكويت وبائعة له، وإلى جدتي الفلاحة فطوم رجب، وإلى المرأة السورية التي عاشت طويلًا واكتوت بنار الحياة، هؤلاء هم الأبطال الذين يعيشون بيننا، لست بحاجة إلى تمثال زنوبيا كي يذكرني بتاريخ أمجادي، أو إلى الحرب حتى نقول: إن هناك مآسيَ تقع. أنتمي إلى المظلوم أينما كان”.

معرضه الأول لا يشبه معارض الفنانين الآخرين الذي استقبلتهم صالات العرض في دمشق، تحت الرعاية المؤسساتية. لم تشهد لوحته الأولى نورًا اصطناعيًا معلقًا فوقها يبرز تفاصيل ابتسامة أبطاله “فصعون وفصعونة، أو دمعة الوحش”، أو يعلن عن معرضه في جريدة محلية.

حسنًا “احتفى بي والدي رسامًا على جدران سجنه الرطبة، وكان رواده نزلاء ذاك السجن، معرضي الأول هناك حيث كنت أزور وأنا طفل. بعد ذلك بدأت أعرض في المقاهي و(كافي آرت) دمشق واللاذقية”.

اللوحة عند كردية، الذي درس في كلية الفنون الجميلة في حلب لمدة ثلاث سنوات فقط، واعتمد على نفسه في دراسة الفن، هي “حالة” يشعر بها، “حالة القلق والبحث الدائم، أفكاري مستلهمة من منابع معرفية مختلفة، بحثت في كل المطارح المجهولة، تعمقت في ثقافة شكّلتها من قراءة تراكمية، ما زلت أسيرًا لذاك الفنان الأشوري صاحب منحوتة الرولييف (رحلة صيد الأسود)، ويمثل الملك مرتديًا سترة متواضعة وهو يرمي بالقوس السباع من على عربته. وأنا ثمرة من شجرة كبيرة. شجرة هؤلاء الذين قدموا للبشرية تلك المشاهد الأسطورية التي تثير الدهشة، وأنا أسير أيضًا لذاك الفنان الذي نسي نفسه وقال (هي نحن كلياتنا)، وكم كان يحيرني أهو فنان روحي إلى هذه الدرجة، لا مادي، فكّر بتقديم الجمال للإنسانية ولم يذيل اسمه تحت عمله المدهش”!

يقرأ “الشعر الجاهلي الذي قد يعتبره بعضهم قديمًا لا يتواءم والحداثة وهو أكثر الشعر حداثوية، ففيه من الصور الجمالية الغرائبية التي يصعب فهمها على كثيرين. تابعي هذه الصورة الشعرية للشاعر العظيم أبو صخر الهذلي: تَكَادُ يَدِيَ تَنْدَى إِذَا مَا لَمَسْتُهَـا   وَتَنْبُتُ فِيْ أَطْرَافِهَا الْوَرَقُ الْخُضْرُ”.

انتزاع الحزن من جوف الكائنات

(سرقة الحزن) وهو عنوان معرضه، تحتاج إلى متطوعين قادرين على انتزاع الحزن من جوف الكائنات الخارجة عن المألوف، أبطال الصيرورة، ضمن هذا الكادر (اللوحة)، حضرت بهيئتها وحركتها العفوية المؤنسنة والمجسدة فنيًا “فصعون وفصعونة، عصابة الفراشة المخيفة جدًا” وهي شخصيات مبتكرة. كردية يفسر أن “اللوحة هي الفرح والحزن، الذي ينبع من ذات الإنسان في لحظة ما، مثل شطحات الصوفية، الفرح الذي لا ينطفئ”. سيفرح كردية كثيرًا “لو استطعت سرقة أحزان شخص ما. أكون قد حققت فرحي. الفرح الحالي هو فرح استهلاكي، نحن نفرح بالأشياء التي نشتريها. محمود درويش يقول لا أشياء أملكها لتملكني”.

كردية يرفض صناعة الفرح لأنه لا يجيد أن يسترجع ذكرى جميلة، وعمرًا جديدًا، لكنه أجاد صناعة اللون البارد، البعيد عن ألوان ثياب الفتيات على حوض الفرات. قال مرة: “ولا أعرف الألوان الحيادية. إما أمي وإما الفرات”.

“فيسبوك” كان البوابة التي دخل منها كردية إلى عالم سوق الفن العربي والعالمي بعد أن تواصلت معه مؤسسة فنية راعية للفن التشكيلي، وقدمت له العقود القانونية التي تتيح له العمل والتفرغ للوحته وإنتاجه الفني “صرت أعرض أعمالي دون منّة من أحد علي أو أن أكون مرتهنًا لأحد. أعمالي شاركت 3000 مرة في معارض مختلفة حول العالم. منذ الإعلان عن معرض (سرقة الأحزان) -افتتح في workshop dubı – في يوم واحد وفي عدة ساعات بيعت 150 لوحة، وألف نسخة من الكتالوكات، أي جريدة استطاعت أن تبيع هذا الرقم من نسخها”؟

يضيف كردية نصوصًا شعرية إلى لوحته كعنصر أساسي وداعم لفكرته، بعضها مكتوبة باللهجة المحكية، ويسميها اللهجة البيضاء المحسنة، وهذا التطعيم لم يقف عائقاً أمام تداول لوحاته في عدة بلدان، ولا سيما أنه أسلوب معروف في مصر مثلًا، ومن رواده البهجوري وأتقاطع مع كردية في “أن للوحة تاريخ انتهاء، لا تعديل فيها، فيما الخط والكلمة تتبدل عشرات المرات، فإذا كانت الكلمة طلقة، فأنا أرى أن اللوحة أكثر من طلقة غير قابلة للتعديل.. هنا انتهت”.

 الحرب السورية لم تؤثر على موقف كردية الشخصي والنقدي لفنان دون غيره، معارضًا كان أم مؤيدًا، فالإبداع شيء والمواقف السياسية شيء آخر، “فالمنجز الإبداعي الرديء لفنان ما لا يدفعني إلى أن أراه مبدعًا حقيقيًا، رأيه السياسي لا يقدم ولا يؤخر في تقييمي لفنه، والعكس صحيح، هناك فنان موقفه السياسي والإنساني مخز، لكن لا نستطيع إلغاؤه كمبدع يلغي أو يمنحنا حق الإساءة إليه كفنان مبدع. الإلغاء هو النقطة السوداء التي انساق وراءها الجميع وأنا لا أشبههم أبدًا”.

النظريات النفسية والنقدية الفنية لرسوم الأطفال تربط براعة الفنان في مدى قدرته على الرسم كطفل. لكن كردية ينفي أنه يرسم كـ “الطفل العفوي، أنا لا، فالتكوينات والخطوط، والألوان تأخذ حقها بالدراسة قبل تنفيذها، ربما يشبهونها برسوم الأطفال لأنها المقاربة الأسهل. بعض الكتاب طلب مني أن أرسم لهم قصة للأطفال، وأنا اعتذرت. لأني لا أعرف أن أرسم للطفل”.

 نفي كردية فيه ثغرات، فرسومه شبه الهندسية علائم على البعد الطفولي فيها. التنوع في رسوم العنصر الواحد، ربما تختلف من مرحلة إلى مرحلة. رسومه متجددة نشطة، كما أنه يستخدم اللون في التفرقة بين نوع الجنس، والتكرار في رسم أشكال شبه ثابتة، كلها عواما أو عناصر تثبت أنه رسام بقدر يفاعته، هو طفل في الرسم.

العوالم المثالية

  يصل كردية في بعض الأحيان إلى مرحلة المبالغة والحذف. قد يبالغ في رسم أحد عناصر لوحته أو قد يحذف أو يقلص حجمها، فهو يريد العناصر المهمة. أظهر للشخصيات يديها عندما تريد أن تمسك بعضها، أو تحمل وردة، أو تريد الإمساك بشيء ما، وأحيانا يلغيهما نهائيا، وهكذا نجد التسطيح والشفافية حاضرة في رسومه. ربما أراد كردية أن يخلق عالمًا مثاليًا مهذبًا بفلسفته الخاصة بلغتين متحدتين واقعًا وخيالًا: ـ مين زعلك يا أستاذ وحش حقير جدن؟

* كلهم، كلهم.. مبارحة نزلت مشيت بالشوارع، ما حدا خاف ولا حدا شتمني، وقالولي أنت عادي.

أنا مش عادي أبدن.

يؤمن كردية باستمرارية الفن، غير أنه لا يؤمن بخلوده، ويمكنه أن يبخس الأوائل حقهم، أو أن يكون عاقًا فينسف فضلهم، “فأنا وقفت على أكتافهم، وحين رسمت مخالب الوحش كان الفنان الأشوري في ذهني، استحضرت فصل التشريح الجسدي والعضلي والمبالغة في بعض التفاصيل، لوحتي نقاش، وحوار لكل هؤلاء. الفن صيرورة مستمرة، تنعطف تنقطع أحيانًا لكنها مستمرة، وليس من أهداف الفن أو وظيفته أن يخلد، لا شيء يمكن أن يخلد هذه الحضارة البشرية، ولا خلود مطلق، لكن هناك فكرة “تعالوا لنعيش على هذا الكوكب” وكلما اقتربنا من التوحش والدمار وعالم المادة الذي جلب إلينا مكبات النفايات وأكياس النايلون اندثرنا”.

عدالة المحبة كما يحلو له أن يصف مرحلته الفنية هي رسالة: “عدالة المحبة، مقياسها أننا رغبنا بالعيش معًا، من غير المقبول أن نورث الحقد لأجيالنا القادمة، كلنا شركاء في شيطنة بعضنا الآخر وما حدث في سورية يفوق التصور، وكل المجتمع الدولي شارك في ارتكاب جريمة إنسانية كاملة على الأرض السورية”.

في الوقت التي يسعى معظم الفنانين التشكيليين إلى تسويق أعمالهم نجد أن كردية يفضل ألا يكون هدف الفنان تسويق لوحته أو السعي إلى إرضاء الآخرين. فإذا “كان الفنان يعمل وهو يفكر بالمتلقي فهو في هذه الحالة لا يخلق فنًا، كم من فنان أكثر من سيئ يتحول لبيكاسو العصر نتيجة موقف ما. وكم من فنان حقيقي يبقى مغمورًا حتى وفاته”.

المحن والحروب لا تنضج فنًا، ومن غير الجائز تصنيف أو نقد التجربة الفنية عمومًا “صحيح أننا نحن جيل الحروب نضجنا بسرعة، وعلى نار حامية لكننا حُرقنا أيضًا. والتجارب الفنية تحتاج ربما إلى 50 سنة حتى نطلق حكمًا عليها. الفن المعاصر كالفن القديم فيه الجيد والرديء. في كل مرحلة من مراحل الفنون كانوا يطرحون هذه الأسئلة لكن قانون الفن مثل قانون الطبيعة، البقاء للأجمل والأصدق.

يقول كردية في نص له:

“أنا سهمٌ لا يعودُ لِكنانتهِ

وسيقولونَ: أخطأَ الهدف، لأنَّه أشفقَ على قلبِ الطريدة

أحياناً نمتُ على رصيفٍ، وأحياناً نمتُ بلا خبزٍ

لكنْ لم أنمْ يوماً دونَ حلم”.

نسّاج الحكاية لمّا ينتهِ بعد.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.