في رؤية جمالية عميقة القلق وداكنة التلونات الباحثة عن منافذ النور الصارخة، يتشابه في التعبير كل من رؤوف رفاعي والفنان العالمي جون ميشال باسكيات كل حسب فترة حضوره وانبثاق فنه من ثنايا السذاجة الناضجة، ليكوّن فنا أصبح يسمى “فن الخارجيين” ليطبع البصمة التعبيرية بروح معاصرة تعكس الواقع الحر في التعبير عن الانسان كل حسب مساره وكل حسب فهمه للآخر ولذاته ولواقعه ومجتمعه، يتشابهان ويتناقضان في زوايا التعبير البصري وعلاماتها المؤثرة، ولكنهما طبعا مسيرتهما بطابع الإنسانية وروح البحث في ثنايا الفلكلور الموظف للرؤى المعاصرة فالحديث عن تجربتهما يحتاج الغوص في عالمين مختلفين وأسلوبين متشابهين بين شرق يعبّر عن منطقة تقع على رمال متحركة تعصف بها الظروف وتحركها الأزمات وبين مجتمع غربي مترف في فردانيته وقلقه الاجتماعي الممزوج بكل المشاكل التي تعني الفرد والانسان والتمييز في مجتمع متنوع التفاصيل والملامح تجربتان فريدتا التعبير بين توغل في التجريد الايمائي الفكرة، في التثبيت والتنصيب والمفاهيمية ورموزها وعلاماتها  ذات صحو يبحث عن الانتشار كانت الأعمال مستفزة في ذهنية الحضور الإنساني وخالدة في توجهاتها.

جان ميشال باسكيات

رؤوف الرفاعي

شبيهان متناقضان

يعدّ رؤوف الرفاعي من أبرز التشكيلين اللبنانيين فقد تميّز بتعبيراته الفنية المعاصرة الأسلوب والجريئة الفكرة والمحتوى رغم أنه لم يخض الفن أكاديميا، بل كانت دراساته بعيدة عنه، لكنه اختاره للتعبير عن مجتمعه وواقعه باختلافات الوقائع السياسية التي كانت تعصف بوطنه ومنطقته وتترك آثارها على الانسان، فهو يعتبر التشكيل أكثر تعبير انساني راقي في وصوله للآخر مهما بعد واختلفت لغته، فكان مساره معاصرا قريبا حميميّ الرؤى، اختار الخامات المادية المحسوسة مثل القماش ليشكل فكرته في تجليات تجريدية مشبعة بالألوان والأشكال ببساطة فرضت حضورها المقنع بصريا فالبيئة والواقع كان لها التأثير الكبير على محتوى أعماله، خاصة بطرحه للقضايا الاجتماعية التي يعالجها بتراكم المخزون الفلكلوري الوجداني الحكائي الذي يميّز لبنان، حيث انطلق منها ليعبّر عن اللحظة الراهنة، فكان تأثره بالحكاية الشعبية ورموزها خاصة فكرة “الدراويش” التي تفاعل معها كشخصية عُرف حضورها في المجتمع بالسذاجة بالصوفية بالبساطة والخيال  الشخصيات التي تتعايش وتتصالح مع السطحية بعمق التقبل والاندماج، الذي اتسم ببراءة المراقبة والرغبة في السمو عن تلك الدراما الصادمة ذات الانفعالات العالية والمتدفقة من صدامية الواقع وتأثيره على المشاعر والسلوك فهو يؤسس لنفسه مسرحا يعج بالممثلين والشخوص ذات الحضور المتفاعل فيما بينها، حيث يخضعها للحظة التأمل الفارغة في عمق المآسي إذ يضخمها ويصغرها يتحكم في ظهورها واختفائها يفرحها ويحزنها يصعّدها دراميا لتعانق منافذ النور يبالغ في ذكوريتها ورجولتها المفعمة في ملامحها “الشوارب، الطربوش”.

أعمال رؤوف الرفاعي

فالدراويش استطاعوا أن يكونوا عنصرا رئيسيا ميّز أعمال الرفاعي طيلة سنوات طوّر حضورها في لوحاته بتطور الأحداث والواقع فكان يحرّكها بانفعال التفاعل مع الأحداث فتندمج في الألوان وصخبها والخطوط والملامح،حيث يتقلب دراويشه مع الأحداث بين الصدمة والتهريج بين العمق والسخف بين الجدية والتهكم بين الاندفاع والتراجع بين البرود والحضور بين التأمل واليأس إذ يعتم الفضاء ويأسر الفكرة في سكون يتجاوز أطر اللوحة بسخرية تتجاوزها نحو الجنون أو اللامبالاة التي تذهل المتلقي فيصمت وفي داخله مشاعر صاخبة واستفهامات عالقة.

يمنح الرفاعي دراويشه أدوارا تتقمصها بتفاعل فهي بسيطة وسذاجة أراجوزية الحضور صوفية ومسكينة ماكرة ومتألمة، مضحكة مسلية، فهو يمزج من خلالها بين المرح والعبث بين التهكم والاندماج في كل تشخيصاتها التي يفرضها عليها بخطوطه وألوانه بترويض الضوء والحركة بالقماش المنغمس في تفاعلات اللون والزركشات التي تتجدد في بحثها وتعبيرها الكثيف في مشاعره المتداخلة، فالصور تعكس الرؤى الذاتية التي تنضج فكرته فنيا وبصريا ما يحدّد مواقفه ويفجّر ضغوطه أفكارا يكتبها في ذهنه كسيناريو لدراما مسرحية على مسطح اللوحة الذي يحوّله إلى مسرح يحرّك داخله أبطاله في تصاعدات بين ملائكية الفكرة وشيطنة الواقع ليدمج دراويشه كردة فعل على شخوص الواقع الحقيقية وتفاعلها وانفعالها على قسوة تسود المجتمع فمن خلال الأسلوب الذي يضيفه على الوجوه في حضورها وفلكلورها في لباسها الشعبي في طرابيشها وأشكالها الصاخبة يتفجر القلق الداخلي من رؤيته للمجتمع والواقع في ضربات الفرشاة المنفعلة التي تتصاعد بين اللون والضوء ودرجات النور والعتمة لتظهر ملامح الشخوص أو لتطمسها في تباينات جمالية تكاد تكون مشوّهة في هندسة تراكيبها المعقدة التي يضيف عليها طابعا كاريكاتوريا ساخرا في توازنات الجسد والفكرة، المادة والمحتوى كما يبعثر تلقائيتها على إيقاعات المشاعر القلقة ليخلق بينها لغة بصرية تتساءل وتتجاوب بحثا عن ذواتها.

ولعل رؤوف رفاعي في تلاعبه بالصورة القلقة وبتشويهات البعد فيها اقترب من تجربة الأمريكي العالمي جان ميشال باسكيات الذي قدّم صورة شبيهة في فكرتها لما يقدمه الرفاعي مع دراويشه فكل منهما “فنان خارجي” تعامل مع مشاعره وأفكاره التشكيلية بسذاجة البحث عن التميز بعبقرية لا محدودة مع العلامات والرموز مع الواقع الذاتي الفرداني السياسي والجماعي بكل تأثيراته النفسية المخزنة التي احتواها التعبير الفني.

وتعود تجربة باسكيات لفترة الثمانينات حيث تميّزت بشغب حضوره في الساحة الفنية التشكيلية إذ لم يتوقع أحد أنه سيصبح عالميا ويحقق الحضور المميز فكرة وأسلوبا خاصة بعد رحيله المبكر (27 سنة) قدّم أعمالا فاقت ألف لوحة مختلفة التفاصيل ناضجة التعبير المجرد لواقع سوداوي قلق يعكس تفاصيل يومية لحياة الأمريكي الذي يعامل في مجتمعه كمختلف مهمش.

فقد قدّم أعمالا تمرّدت على واقع الفن الكلاسيكي أولا ثم الواقع المعاش بكل تفاعلاته وأحداثه.

أعمال جان ميشال باسكيات

وقد أثرت تجربة باسكيات المعاصرة على الكثيرين باعتباره أسس مسارا منحرفا خرج بالفن من الصالونات إلى الشارع ومن حدود الفكرة نظريا إلى فضاء أوسع مارس فيه شغفه باللون والموسيقى والعنف والسوداوية والأمل والسخرية واللامبالاة في غيبوبة مقصودة تلامس صوفية تمردت بسوداوية انطلقت بحرية، فقد كان فنانا هشا على تحمل قلق المجتمع والعالم وصخبه فهو “الطفل المتمرد” الذي سكن لوحات عكست هوسه بموسيقى الجاز والهيب هوب والبوب وبحياة التسكع وبالمجد الذي آمن به  وهو يمارس حريته الفنية في الموسيقى والرسم والتعبير والأداء المفاهيمي المعاصر أو الجرافيتي الشارعي ليكون منافسا لكبار الرسامين بتعبيراته الفنية الساذجة والمعبرة عن مواقفه الصاخبة والمتمردة على سياسة بلاده وعلاقاته الاجتماعية.

يصنف النقاد أعمال باسكيات بوصفها بالتعبيرية الحديث في توجهها المعاصر فنيا لكنه يرى نفسه المتمرد والساذج الذي يختفي وراء شخوصه المتنوعة فيعيش معها حالاتها وهي تمارس أدوار البطولة بعيدا عن مجتمع يهمش الآخر فينقل فيها بعنف انفعالاته القلقة.

فشخوصه التي يرسمها أبطالا لحكاياته تعبر عن حالاته وهذيانه الواقعي في تأثره الذي يدمج هوسه  بالحكايات والأساطير القديمة وكل الخرافات المقدسة الشعبية التي تخرج منها الأرواح والأشخاص والملائكة والشياطين والأنبياء والقصص الساخرة والأمثال الشعبية التي تبني خياله ليكوّن شخصيات خاصة كسر بها القاعدة الفنية الكلاسيكية بثقة توجه أسلوبه من موقفه الاجتماعي الحاد التعبير والجريء في سخطه على الواقع المليء بالتمييز والعنصرية والتهميش والتمرد الذي يقف أمام كل استنقاص واستئصال لحضور الانسان فيغيبه وبالتالي يساهم في تغييبه عن وعيه واهتمامه فيندمج في الحالة بين التغييبين الفردي والاجتماعي وهو ما يفسر حالات الإدمان التي كان يعيشها، فهو يقدم اطروحاته المؤلمة بسبب لونه وعرقه إذ صاغ حياة البؤس والقلق والتوتر والتسكع وعبر عنها في شخوصه التي بدت ساذجة ويائسة مستهترة بواقع يسوده النفاق والهراء السياسي الموجه والمغلف بديمقراطية تخلق العنف النفسي والزيف في التعامل المتوازن مع البشر.

رغم اختلاف التفاعلات التشبيهية بين التجربتين لكن التوافق في كلاهما ينساب مع الفكرة التي تمنح الشخصيات المعتمدة أدوارا فاعلة لتعبر بكل الايماءات التي تثار داخلها فتسكنها بالفكرة لتمنحها حيوية تسقطها على المجتمع لتفضح خفاياه وتعريه من نفاقه وزيف تعبيراته المغلفة فالرفاعي انطلق من ذاته المشبعة بتفاصيله ووطنه بتقلبات الواقع والحياة وتأثيراتها فكون في خياله جوانب درامية ارتقت بأفكاره وحوّلتها إلى مخزون جمالي بصري مكثف التعبيرات وباسكيات صاغ كل واقعه وطفولته وتمرده وبثه في تلك الشخصيات التي شاركته تعابيره المكبوتة والمتفجرة في صخب الواقع المبني على التفاعل الفردي وبذلك يتشابه الفنانان بكل انفعالات التوجه نحو التعبير الإنساني الساذج الطبيعي بسمو يوحد الفكرة مهما اختلفت مآسي الواقع وأحداثه.

الاعمال المرفقة:

أعمال رؤوف رفاعي من مجموعة متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

صور جان ميشال باسكيات ولوحاته من الانترنت موقع

Jean-Michel Basquiat : paris-art

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.