تعرف على مغاور في لبنان ..

مغاور لبنان









داخل مغارة قاديشا
PreviousNext
انبثقت قصصُ المغاور منذ فجر الروايات، حيث لكلّ قرية قصصها المتوارثة حول كهوف محلية تبدو للوهلة الأولى كأنها قصص خرافية. فمن دجاجة دخلت إلى مغارة وخرجت من منبع على بُعد كيلومترات، إلى كبش ماعزٍ أسود دخل إحدى المغاور وخرج منها ناصع البياض. ومنهم من يؤكد وجود أنفاق تربط مغارتَي أفقا ورويس بسهل البقاع، لا بل ان البعض مقتنع بأن الجن أو الشياطين أو الوحوش تقطن المغاور. ويروي البعض أنهم رموا حجراً في هوّةٍ ولم يسمعوا وقع اصطدامه بالقاع، أو أن عشيرةً من البدو رمت إحدى فتياتها في مغارة لأنها تحدّت أهلها ورفضت عريساً لم تكن تحبّه.
إن عالم المغاور عالم متفرد ذو جمال ساحر من نوع آخر، جمال باطني يتبلور في الظلام فيتلألأ. إنه وجه آخر لروعة لبنان يجهله الكثير من أبنائه.
الرحلة الداخلية في المغارة محفوفة بالمخاطر والمشقات، تتطلب تحضيراً وتخطيطاً وتدريباً لعدة أعوام لاكتشاف أمنا الأرض والوصول إلى أعماقها الدفينة المعتمة وإبراز جمالها الطبيعي الخلاق غير المرئي.
هنا في لبنان قمتُ و«المستغْوِرة» رينا قرانوح بالعديد من الرحلات لاكتشاف المغاور وتوثيقها، من أجل إبراز هذه المعالم الفريدة إلى اللبنانيين والعرب وزيادة الاهتمام بها وحمايتها للأجيال القادمة. وقد سلّطنا الضوء للمرّة الأولى على هذه الناحية المذهلـة لبـلادنا، في كتاب «مغاور لبنان» Caves of Lebanon الذي استغرق إعداده عدة أعوام من الاستغوار. وهو يعرض معلومات مثيرة عن المغاور اللبنانية وأهميتها الجغرافية والتاريخية، من خلال توثيق مصوّر وأسلوب سهل على غير المختصين. وقد صدر الكتاب بالإنكليزية في أيار (مايو) 2011، وصدرت النسخة العربية في أيلول (سبتمبر) ٢٠١١.جمال يخلب الألباب
على رغم مساحته الصغيرة، يضم لبنان أكثر من 700 مغارة موثقة. في غالب الحالات يتطلب تشكُّل هذه المغاور عنصرين أساسيين هما صخور الكربونات المتصدعة والمياه الحمضية. أما صخور الكربونات المتصدعة فقد صعدت من باطن الأرض بفعل الضغط الذي تعرضت له التكوينات الجيولوجية قبل ملايين السنين، وهي تشكل الآن نحو 65 في المئة من سطح لبنان. وأما المياه الحمضية فتنتج من ذوبان غاز ثاني أوكسيد الكربون المنبعث من تحلل النباتات وجيف الحيوانات، في مياه المطر قبل تسرُّبها إلى جوف الأرض. ويؤدي استمرار تقطُّر المياه الغنية بالكربونات من سقف المغاور إلى تشكل الهوابط (stalectites).
يتبع جميع المستكشفين قاعدة رئيسية مفادها الامتناع عن الاستكشاف بمفردهم. فدخول المغاور بنوعيها الأفقي والعمودي يتطلب اهتماماً دقيقاً بالتدريب والمعدات. المغاور الأفقية، على غرار مغارتي الكسّارات وزود، لا تتطلب أكثر من خوذة وثلاثة مصادر ضوء على الأقل وملابس خاصة مؤلفة من سطح خارجي واقٍ عازل للمياه وبذلة حراريّة داخليّة. والمغاور الرطبة والباردة، على غرار مغارة الرهوة، تستدعي استخدام بذلات النيوبرين المخصّصة للغوص. أما المغاور العمودية، أي الهوّات، فتتطلب معدات إضافية مخصصة لتسلق الجبال، فالهبوط والصعود فيها بسلامة يستلزمان الاستعانة بمعدات مشتركة كالحبال والسلالم الحبلية والمسامير اللولبية والعلاّقات، كما يلبس كل مستكشف سرجاً (harness) تثبَّت عليه معدات الصعود والهبوط.
أذكر يوم دخلنا لأول مرة إلى مغارة عين القدح، حين صرخت مشيراً إلى تلك البقعة المعتمة في سقف المغارة: «لا بد من شيء هناك». ولم تكن رينا أقل حماسة مني للصعود واكتشاف ماذا يوجد في ذلك السقف.
الصعود 13 متراً للوصول إلى أول نقطة يمكن أخذ استراحة عندها كان شاقاً وممتعاً. ولن أنسى وجه رينا الذي اصطبغ بالأزرق بعد سقوطي وارتطامي بوجهها. وسأسرد جزءاً من هذه الرحلة على لسان سامر، صديقنا الذي رافقنا آنذاك. يقول سامر: «كانت تلك رحلتي الأولى لتطبيق المهارات التي تعلمتها في التسلق داخل مغارة حقيقية. وكنت متشوقاً لأرى البقعة المعتمة التي تحدث عنها عصام. لم أكن متعوداً عدم رؤية الحبال في مكان التسلق. التعلق بالعلاّقات المثبتة على الحائط كان يبعث في نفسي رهبة وفي الوقت نفسه شعوراً يخلب الألباب، من متعة الصعود نحو الأعلى والجهد المبذول للوصول إلى تلك النقطة المعتمة. وحالما وصلنا إليها تكشفت أمامنا غرفة ساحرة من الصواعد (stalegmites) والهوابط. أما النظر إلى أسفل المغارة من هذا الارتفاع فمشهد لن يستطيع أمهر الكتّاب وصفه، إذ تعجز أقلامنا عن نقل مشاعر الفرحة والرهبة التي ملأت قلوبنا في تلك اللحظة».
في مغارة الكسارات، حيث دخلَت وفاء للمرة الثانية إلى مغارة، لم تستطع التكلم لدقائق. وهي قالت لاحقاً إنها لم تتوقع وجود كل هذا الجمال المخفي في باطن الأرض، ليس فقط جمال التشكلات والقاعات البهية المزدانة بأجمل الصواعد والهوابط، بل جمال الاستمتاع برؤية نهر المياه الجوفية وأماكن غوصه في باطن الأرض، ليولد لاحقاً من رحم الممرات الصخرية الجوفية التي احتضنته في نبع كنبع الفوار. والأهم من هذا جمال الصمت الذي اختبرته للمرة الأولى في مغارة.
نوادي الاستغوار
بدأ توثيق الاستغوار في لبنان عام 1836 على أيدي مغامرين فرنسيين وبريطانيين وأميركيين. وقد صبّوا الحيِّز الأكبر من جهدهم على مغارة جعيتا، التي شكلت انطلاقة جميع نشاطات الاستغوار في لبنان. منذ القرن التاسع عشر بدأ مهندسون وأساتذة في الكليّة السوريّة الانجيلية (الجامعة الاميركية في بيروت اليوم) بدراسة المغارة لتأمين المياه لمدينة بيروت. وفي العام 1940، سنحت أمام الشابّ اللبناني ليونيل غرة فرصة استكشاف المغارة، فأصابه الذهول حيال ما شاهد، وبادر بالعودة إلى المغارة برفقة عدد من أصدقائه. ومع تقدّم اكتشافهم المغارة انضمّ إليهم عدد إضافي من الأصدقاء. هكذا ولد «النادي اللبناني للتنقيب في المغاور» (SCL) عام 1951، وهو الأول الذي أنشأه هؤلاء الطليعيون. وفي 1966 أنشئ «نادي وادي العرايش للاستغوار» في زحلة في البقاع. وفي 1988 أسست مجموعة صغيرة من النادي اللبناني للتنقيب في المغاور ناديها الخاص باسم «مجموعة الدراسات والأبحاث الجوفية اللبنانية» (GERSL) . لكنّ خلافاً نشأ حول الاكتشافات شقّ صفوف المجموعة، ما آل إلى تأسيس نادٍ آخر عام 1994 باسم «الجمعية اللبنانية لدراسات المغاور» (ALES).
تقع مغارة جعيتا، الأطول في لبنان، على الكتف الشمالي لوادي نهر الكلب، على بعد كيلومترات من مصبّ النهر في البحر المتـوسط. وأطلق على المغارة التي تمتـدّ أكثر من 10 كيلومترات اسم البلدة التي تضمّ مدخلها، ويعني «هدير المياه». وتتواصل أعمال استكشـاف دهاليزهـا وأروقتهـا المتشعّبة، وهي تضمّ مستـويين: القسـم المائيّ الذي يحوي نهراً جوفيّـاً بطول سبعة كيلومترات تقريباً، ورواق جافّ يبلغ طوله نحو ثلاثة كيلومترات.
وفي أيلول (سبتمبر) 2011 اكتشف ثلاثة غواصين مستغورين ممراً مائياً جديداً في المغارة.

مغاور الخفافيش والدببة
يعتبر لبنان بفضل مناخاته المتنوعة ومغاوره الكثيرة من المناطق الجاذبة لاستيطان الخفافيش (الوطاويط) في الشرق الأوسط. وباستثناء خفّاش الفاكهة الأكبر حجماً من الأنواع المحلية، فان غالبية الخفافيش تمضي فترة سبات شتوي. وتحلّق هذه الحيوانات باستخدام طريقة تحديد الموقع بالصدى، معتمدة على أصواتها وأذنيها. ونادراً ما تهبط على الأرض، وإن فعلت فيتعذر عليها التحرك بسهولة. وهي تمضي فترة سباتها معلقة رأساً على عقب. وقد تم التعرف إلى 20 نوعاً من الخفافيش من بين 30 نوعاً يتوقع أن تكون موجودة في لبنان.
رُصدت المستعمرة الكبرى في لبنان، وقوامها 5000 خفاش فاكهة، في مغارة بلدة برقايل. واكتشفت الثانية في جنوب البلاد داخل مغارة الوطاويط التي تحوي نحو ألف خفاش. وتشهد أعشاش الخفافيش وأعدادها تراجعاً في لبنان، لا سيما بسبب الأساطير الشعبية حول هذه الحيوانات، على غرار أنها تلتصق بالوجه والشعر أو أنها تقتل البشر أو تمتص دماءهم. كل هذا لا أساس له، فهي على العكس حيوانات ودودة. غير أن البشر يدخلون المغاور أحياناً ويطلقون النار على الخفافيش أو يخنقونها بحرق الاطارات، كما حدث في مغارة مطلّ الازرق في طرابلس ومغارة كنعان في بصاليم.
في الواقع، تلعب الخفافيش دوراً رئيسياً في التنوع البيولوجي في لبنان. فعندما تخرج من سباتها الشتوي تلتهم كمّية توازي نصف وزنها من الحشرات ليلياً، كما تساهم في تلقيح الأشجار. لذلك من المهم جداً حماية الخفافيش ومجاثمها بسبب تدنّي أعدادها إلى حدٍّ كبير. ويمكن لمستعمرات الخفافيش الكبيرة إنتاج كمية كبيرة من البراز المعروف باسم «غوانو»، وهو سماد طبيعي ممتاز للمزروعات، كما يشكل غذاء لمخلوقات أخرى تستوطن المغاور.
وكان الدب البني الذي انقرض من لبنان يمضي سباته الشتوي في مغاور المنطقة. وقد شوهد للمرة الأخيرة في المقلب السوري لجبل الشيخ عام 1960. وفي الستينات عثر مستكشفو SCL على جمجمة دب في مغارة الكسّارات. كما عثر في مغارتي سالم ومار شليطا على مراقد دببة وأسنانها وعظامها. وفي 1996 استكشف أعضاء SCL مغارة الوحش الصغيرة في بلدة بقاع كفرا، وعثروا على بقايا لمراقد وعظام دببة وجماجم لهذا النوع الزائل، كما سُجّل وجود خدوش دببة على الجدران. وعُثر لاحقاً على بقايا أخرى في مغارة الجوز في بلدة خربة قنافار في البقاع.

يتطلب استكشاف هذه الروائع الجوفية وتوثيقها مقاربة تجمع بين حبّ المغامرة والإلمام بالعلوم الجيولوجية والبيولوجية والتصوير والآثار. ولم يستند ترتيب المغاور في كتاب «مغاور لبنان» إلى أي تصنيف رسميّ لبنانيّ، بل إلى علاقتها بعضها ببعض على المستويات الجيولوجية والهيدروجيولوجية والطوبوغرافية. وفي ختام كلّ قسم عرض للنواحي المهمة من مميزات المغاور على أمل حمايتها.
جُلّ ما نسعى إليه في هذا الكتاب مشاطرة القراء هذه الثروات لإنقاذ ما تبقّى من إرث بلادنا الطبيعيّ المتدهور. وللّذين يتعذّر عليهم ولوج المغاور، يُحضِرُها الكتاب أمام ناظريهم.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.