بما يشبه الحمّى، وبفضائل السوشيال ميديا، اقتحمت صور«سيلفي» ساحة الفضاء الإلكتروني كأحدث نسخة في تمجيد الذات، وتأريخ فردانيتها خارج الحشود. مجهولون ومشاهير يلتقطون صوراً شخصية لأنفسهم في أوضاع مختلفة، بفضل تطوّر تقنيات الميديا وعدسات الهواتف المحمولة. الصورة هنا لا تشبه ما كان يحدث في الأمس لجهة توثيق لحظة استثنائية، إنما تجري صناعتها بوعي لتصديرها إلى الجموع. ليست ظاهرة صور «سيلفي» التي تشهدها صفحات التواصل الاجتماعي بغزارة، مجرد تسلية عابرة، بقدر ما هي تعبير عن ذات طاووسية تنطوي على هشاشة الكائن الهامشي، في محاولته تعويض خسائره الحياتية باحتلال واجهة افتراضية، تعزز مكانته المفتقدة واقعياً، بقصد أن يحصد إعجاب الآخر، وربما إثارة غيرته بكمائن الميديا. هذا الطراز من الصور يطيح عملياً اليوميات الحقيقية لصاحبها ليستبدلها بحياة موازية لم يعشها بعمق، كما أنها لا تخص إلا صاحبها، بغياب التأثير الفعلي لهذا الشخص على حيوات الآخرين، فهو مجرد كائن افتراضي مجهول غالباً، أو أنه في أقصى الاحتمالات، كائن طارئ يفتّش لنفسه عن دور بوهم الصورة المصنّعة، فهو لا يكتفي بالتقاط صوره في الأماكن الاستثنائية التي قد تمنح هذه الصورة بعداً جمالياً، وإنما يتوغل في عمق الفضاءات الأخرى، كأن يلتقط لنفسه صورة وهو ممدّد في سرير مستشفى، أو في مطعم أو في طائرة أو إلى جانب تمثال لشاعر، أو مفكر، أو وهو يحتضن أحد المشاهير كنوع من المساواة الوهمية بينهما، لإضافة شحنة من التمجيد الشخصي والاستعلاء والمباهاة والتفوّق. واقعياً، سيمضي الشخص المشهور إلى شأنه بمجرد انتهاء لحظة التصوير، حتى من دون أن يتعرّف إلى الشخص الذي التقط الصورة معه، بينما يظن الشخص المجهول أنه أضاف ثقلاً معرفياً إلى سيرته الشخصية الضحلة.
لعل انتشار هذه الظاهرة أتى عملياً من صعود نبرة الفردانية التي كرستها قيم عولمية، أطاحت الهويات المركزية لمصلحة الهويات الهامشية العارية، التي أوهمت الفرد في عزلته بأنه مؤثر في السياقات العامة، وما الصورة الشخصية إلا علامة على ذلك، ويعزّز هذا الوهم حجم الإعجاب الذي تحققه الصورة الملتقطة في فضاء الموقع الأزرق، متجاهلاً، في المقابل، استمرار عملية المحو التي تفرضها صورة شخص مجهول آخر في متاهة هذا الموقع وسواه. إنها بمعنى آخر حرب تحطيم الأيقونات القديمة أو إزاحتها لمصلحة أيقونات محشوة بالقش، وتالياً، فإن حمّى «السيلفي» تتكشّف عن هباء اللحظة، وهشاشة الكائن، وتزوير الوقائع، ذلك أن الصورة هنا يجري تركيبها سلفاً، وليست نتاج مصادفة ما، أو أن تكتب سيرتك المتخيّلة بصرياً، بما ليس فيها، على عكس عشرات الأمثلة القديمة لبورتريهات تحمل تواقيع رسّامين تركوا دمغة واضحة في تاريخ الفن، أمثال بول غوغان، وسيزان، وبيكاسو، وماتيس، وفان غوغ، ففي هذه البورتريهات قراءة فلسفية عميقة لأحوال رساميها،وهذا ما نجده، على نحوٍ خاص، في ألبوم الرسّامة المكسيكية فريدا كالو التي رصدت طبقات الألم التي كانت تعيشها خلال مرضها، المرض الذي أقعدها في السرير إلى آخر حياتها، ما جعلها تنفذ إلى ذاتها وأحاسيسها الداخلية تدريجياً لجهة تناوب العنف والحب والشهوة والجنون، وقد عزّزت رسومها الشخصية بنصوص شعرية تعبّر عما لم تتمكّن من ترسيخه في لوحاتها المدهشة.
المسافة بين الصورة الرقمية والبورتريه توضّح بجلاء، سطوة الفلسفة الجديدة المخادعة، وإسرافها في تسليع حياة الفرد، إذ تتلاشى الفروق بين تسجيل لحظة نوعية وتراكمية في المخزون الثقافي الجمعي، و«موديل» صامت في واجهة متجر.
لن نتوقف عند ضحايا صورة السيلفي، مثل الشخص الذي حاول أن يصوّر نفسه بصحبة أحد الثيران الهائجة في ملعب لمصارعة الثيران فأودى بحياته، أو ذلك الشخص الذي طحنته عجلات قطار، وهو يتهيأ لالتقاط صورة لحظة مرور القطار فانزلقت قدماه نحو السكة وتناثرت أشلاؤه، من دون أن يتمكّن من إنجاز المهمة. وفي المقابل لن نستغرب أن تفوز كلمة ««selfi كأكثر كلمة استعمالاً في الأعوام الأخيرة، في قاموس أكسفورد، فالفردانية اليوم تتفوّق على ما عداها, فردانية متضخمة وسيرة شخصية هزيلة وجوفاء غالباً، إلى درجة ألا نعرف قريباً، هل صاحبها شخصية حقيقية أم أنها مجرد فوتوشوب؟.