فيلا تشمبروني.. أيقونة أثرية روحها من العصر الروماني

بين سحر الشرق وصحرائه الذهبية إلى غموض الغرب وطبيعته الندية.. كانت رحلتي إلى إيطاليا التي استغرقت 6 ساعات على متن الطائرة لتحمل إلى جانب الشعور بالإرهاق الإحساس بالقلق حيال تجربة جديدة أخوضها للمرة الأولى في دولة وددت زيارتها كثيراً منذ سنوات ولم أتوقع أن تكون زيارتي لها قريبة جداً قبل أسابيع. وكأن هذه الساعات الست وضعتني بين عالمين مختلفين لا يشبهان بعضهما البعض لكل منهما حكاية تختلف في فصولها لكن يربطها غلاف يحمل عنوان «تآلف الحضارات».

ومن نافذة الحافلة التي استقللتها مع زملائي للذهاب من العاصمة روما إلى مدينة ساليرنو جنوب إيطاليا، التقيت بالريف الإيطالي الأخاذ الذي عكس لنا طابع المنطقة الهادئ والبسيط الذي يختلف عن صخب المدينة.

ساليرنو طابع متوسطي وبيئة خضراء

مدينة ساليرنو هي عاصمة مقاطعة ساليرنو جنوبي البلاد وتقع على خليج ساليرنو بالبحر التيراني، أحد أفرع البحر المتوسط، بين الساحل الأمالفي وسهل بايستوم.

تطل ساليرنو على «البحر الطويل» الذي يضفي أجواء مميزة عليها وتبعد 57 كم جنوب شرق مدينة نابولي. اشتهرت ساليرنو بمدرستها الطبية إذ كانت أول وأهم معهد طبي في أوروبا بداية القرون الوسطى.

حازت ساليرنو على مكانة خاصة في قلبي داومت الخفقان كلما كنت أخطو على أرضها وأمشي بين جنباتها وأقف في باحاتها، أطيل النظر في هضابها الخضراء وبيوتها التي تفترش الجبال وزهورها التي تخترق صلادة الصخور لتمد أوراقها ناطقة بالحياة.

ساليرنو التي تبعد مسافة ساعتين عن روما كانت نقطة البداية في الرحلة فأمضيت فيها 6 ليال ومنها تنقلت بين عدة مدن تابعة لمقاطعة ساليرنو.

ملاحظات كثيرة رصدتها عن المدينة وأسلوب حياة سكانها كحبهم لممارسة الرياضة والمشي مساءً تحت أضواء القمر بمحاذاة ساحل ساليرنو.

لاحظت أيضاً أن عدداً من سكانها يفضلون الدراجات النارية للتنقل ففي الصف الواحد في الطريق أو عند الإشارة المرورية، تجد مجموعة من الدراجات التي يركبها الرجال والنساء.

وفي إحدى المرات، رأيت أسرة من زوج وزوجة وطفل على متن دراجتهم في رحلة عائلية في الهواء الطلق. وتخصص المدينة على أرصفتها بين مكان وآخر ما هو أشبه بمحطة لاستئجار الدراجات النارية المتاحة للعامة بغرض التنقل لساعات محددة مقابل مبلغ معين.

أما السيارات، فكثير منها بمحرك 3 سلندر بمعنى أنها صغيرة الحجم واقتصادية في المقام الأول فهي بالنسبة للشعب وسيلة تنقل لا أكثر.

فيلا تشمبروني

حططنا الرحال في منطقة رافيللو التي تقع فوق ساحل أمالفي لنقف أمام مشهد ولا أروع قوامه وئام البحر والأشجار والجبال والبيوت، تمتزج ألوانه لتحاكي عذوبة فصول العام الأربعة.

كانت منطقة رافيللو المسجلة على قائمة التراث الإنساني في اليونسكو الوجهة الثانية التي بقدر ما أذهلتني بجمالها أذهلت أهلي وزملائي ممن رأوا صورها. وهناك توجهنا إلى فيلا تشمبروني التي تعد مبنى تاريخياً يعود في بنائه للعصر الروماني يجمع ما حفظه الزمن من الآثار الرومانية.

مشيت في ممرات خضراء وصعدت أدراجاً قديمة التقيت فيها بسيّاح من مختلف الجنسيات إضافة إلى أهالي المنطقة في طريق للفيلا.

استوقفني رجل كبير في السن في هيئة مزارع يحمل عصاة يتكئ عليها وهو يمشي ويحمل كيساً خلف ظهره. كان يمشي وكأنه لا يرى أحداً، عيونه لا تكترث بما يدور حوله وذهنه مشغول بالتفكير في همومه كما كان يبدو.

وفي نهاية الدرج، تشمخ بوابة ضخمة ومرتفعة مقوسة تعود للقرن السابع عشر الميلادي وتعلوها أغصان وأوراق الأشجار وتتدلى من أعلاها زهور وردية اللون.

«تشيمبروم» هو اسم النتوء الصخري الذي يرتكز عليه بناء الفيلا والتي اتخذت اسمها منه. الإشارة الأولى للفيلا ترجع للقرن 11 الميلادي عندما كانت مُلكاً للعائلة النبيلة «أكونجيوكا».

بعد ذلك، انتقلت ملكيتها إلى «فوسكو»، عائلة غنية ومرموقة آن ذاك، والتي ذكرت السجلات في عام 1291 أنها كانت تملك كنسية «أنجيلو دي تشمبروني».

وفي عام 1904، اشترى إيسترن ويليام بيكيت، مصرفي سياسي بريطاني، الفيلا من عائلة «الأميك» بعد أن أعجب بها فقام بترميمها وتوسيع حدائقها وإعادة تطويرها ليصبح جزء منها فندقاً ووجهة سياحية فائقة الروعة تفتح أبوابها للجميع حيث تم تحويلها إلى فندق يتكون من 19 غرفة قبل 10 أعوام.

حدائق

تخبئ فيلا تشمبروني في جعبتها الكبيرة كثيراً من الأسرار الغامضة التي لا يملك مفاتيحها إلا أصحاب الفيلا والمؤرخون ليصبح استكشافها أمراً غاية في التشويق. وفي كل ردهة وجدار وحديقة من حدائقها أقصوصة تشكل مجتمعة قصة هذه الفيلا.

وحول حديقة الزهور، فقد باكيت زوجته بعد زواجهما بفترة قصيرة، مما دفعه لبناء حديقة وفق أسلوب كلاسيكي عريق تخليداً لذكراها.

وتضم الحديقة 80 نوعاً مختلفاً من الزهور الإنجليزية والفرنسية مرتبة بشكل هندسي تعود جذورها للقرن السادس عشر كما تحوي الحديقة في ثناياها غرفة للشاي وكهوفاً ومعابد كلاسيكية.

وبين الأزهار، يصادف الزوار «الساعة الشمسية» التي تعود للعصر الروماني وتحمل دلالة تفيد بأنه لا يمكن إيقاف الوقت ولكن يمكن التحكم فيه.

وعلى جدران الفيلا، ارتسمت مقولات رومانية وإغريقية كانت إحداها ترجع للقرن الرابع قبل الميلاد للمفكر بوبليو ترنزيو أفرو وتقول في نصها: «HVMANI NIL A ME ALIENVM PVTO» أي: «لا شيء من الطبيعة البشرية مجهول بالنسبة لي».

وبين ساحات الفيلا، يقبع بئر للمياه يعود للعصر الروماني وسابقا كان قاطنو المكان يرمون قطعا نقدية فيه لاعتقادهم بأن ذلك سيجلب لهم الحظ. ومازال بعض زوار المكان اليوم يرمون نقوداً في قاع البئر الخالي من المياه محاكاة لتلك الخرافة.

شرفة الأبدية

 

وقبل أن يصل الزوار إلى شرفة الحديقة التي تمثل نقطة التقاء البحر بالسماء في أعلى قمة الجبل، عليهم أن يمروا أولا بحارس الأبدية المنحوتة «تشيري» التي تعرف في الميثولوجيا القديمة بآلهة الأبدية التي تحمل مفاتيح الأبدية بيدها. وعلى السور الذي بلونه الأسود يخترق بهدوء زرقة السماء والبحر، تتوزع تماثيل أخرى ليشعرك المكان برغبة عارمة في الطيران.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.