العمارة فن يؤرخ لوعي الشعوب، ويكرس مفاهيم التعامل مع البيئة، وظروف عناصر الطبيعة، ومن هنا كانت بيوت الطين في نجد التي هي دلالة على صعوبة الحياة في هذه الصحراء التي لاتنتج إلا فصلين في السنة، إما برد قارس تغذيه هبوب الشمال، وإما حر لافح قاتل تهرب منه حتى الأفاعي، وقد فكر العقل المتعامل مع هذه الصحراء كبيئة صعبة وقاسية في إيجاد سكن يتواءم مع هذه المناخات، فوجد أن بيئته غنية بما يوفر له السكن المريح، وقام بتشييد بيته وبيت أسرته من الطين واستفاد من شجر البيئة ليوفر الراحة.

« ذاكرة الهواوية » تحفظ أجمل أيام العمر في الحواري القديمة

استخدم الطين مادة أساسية في بناء البيت ومادة الطين تتميز بأنها مادة عازلة للحرارة أثناء فصل الصيف ويكون البناء بالطين عادة إما على شكل عروق أو مداميك من اللبن تسمى (الّلبِن) ومفردها لَبِنَة، وهي مايستعاض عنه حاليا بالبلك.

تكوين مادة الطين

ويتم عجن التراب مع “التبن” ويوضع في قالب يعطيه شكل اللبن ويسمى (الملبن) وهوعبارة عن أربع قطع من الخشب على شكل مستطيل مفتوح من الأعلى والأسفل يوضع الطين المخلوط بالتبن بداخله ثم يرفع القالب الخشبي ليأخذ الطين الموضوع شكلاً ومقاساً.

وتتم عملية بناء بيت الطين بأن تحدد قطعة الأرض المراد إقامة البيت فوقها ثم توضع خيوط لتحديد الأساسات وبعد ذلك يحفر في الأرض بعمق مترين أو أقل أو أكثر ثم يبدأ بوضع الأساس المسمى (وثر) وهو من الحجارة والطين ثم يبدأ بوضع المدماك الأول وبعد الانتهاء منه يترك لمدة يوم حتى يجف وذلك في الصيف أما في الشتاء فيترك يومين أو ثلاثة ثم يقام المدماك الثاني وهكذا حتى يتم البناء بارتفاع يحدده صاحب البيت.

وبعد البناء تتم عملية الصماخ (الطمام) وهي لياسة السقف من أسفل بالطين والسقف يكون عبارة عن خشب من جذوع وسعف النخيل وأشجار الأثل أو السدر. بعد ذلك يتم عمل القضاض وهو الجيرالأبيض ثم تتم عملية التعسيف وهو عمل الدرج والتلييس بالطين وتضرب بالنورة وهكذا يكون العمل قد تم وهناك إضافات يتم وضعها إما لجمال المبنى أولحمايته وحفظه حيث تقام في بعض الغرف ما يسمى (بالدكة) وهي خاصة لكبارالسن كما يوضع في جدار الغرف ما يسمى (بالكوة )وهي لوضع الكتب أوالمصباح، كما يعمل في طرف الغرفة ما يسمى ب ( الصفيف ) لوضع الأكل فوقه ولمن أراد أن يحمي بيته من الملوحة الأرضية والمياه فانه يضع ما يسمى (بالحذوة) وهي من الحجارة والطين تقام على المدماكين السفليين من الخارج.

كما يستعمل الطين أيضاً كخلطة في المباني لإعطاء تماسك للبن إضافة إلى استعماله في أعمال اللياسة ويستخدم بصورة أساسية أيضاً في أعمال الأسقف وهو مايسمى محلياً( بالطمام) ومن المواد الأساسية المستعملة أيضاً في بنائه (الحجر) ويدخل الحجر في أعمال الأساسات كما يشكل ويهذب على شكل قطع أسطوانية تسمى (الخرز) في أعمال الأعمدة. ومن المواد المستخدمة (الجص) ويدخل في أعمال الربط بين الحجارة على الأساسات والأعمدة كما يدخل في أعمال اللياسة النهائية بشكل جزئي أو كلي ومنه أيضاً (الجص) لعمل النقوش والأشكال الجميلة خصوصاً في المجالس والغرف والممرات والواجهات الخارجي.

في المقابل للطين حسنات كثيرة اهمها انه: يعدل رطوبة الهواء اذ يملك خاصية امتصاص رطوبة الهواء الزائدة بسرعة واعادتها إليه عند الحاجة ما يعني ان نسبة رطوبة الهواء في بيت مبني بالطين تبقى نحو 50 بالمئة وهذا يؤمن مناخا صحيا على مدار السنة كما أنه يخزن الحرارة ويحتفظ بها في ليالي الشتاء، وبالتالي فإن استعماله يساهم أيضا بالحد من تلوث البيئة.

زخرفة المنازل

ويهتم الفرد بالتشكيل الزخرفي على واجهة جدران بيوت الطين التي لها في قلوب الناس عشق ومحبة.وكذلك لها ذكريات جميلة وأحداث متنوعة وحنين للأيام الجميلة ومشاهد لا تنسى في حياتنا وقد تغنى بها الكثير من الشعراء الشعبيين ومن قصائدهم التي تتحدث عن بيوت الطين في الماضي وجمالها وعشق الناس لها تلك القصيدة التي هاضت بها قريحة الشاعر سعد الخريجي التي يتحدث فيها عن عشق الأطلال ومنها قوله:

يا ناس ذاك البيت لا تهدمونه

خلوه يبقى للمحبين تذكار

خلوه حب سنين خلفه ودونه

في داخله قصة مواليف وأسرار

من يعشق الأطلال دمعه يخونه

لا صارت أقدامه على سكة الدار

عش الحمام اللي بعالي ركونه

رمز الوفاء، رمز المحبة، والإصرار

وفي وصف جميل وتعبير عن مشاعر شاعر عاشق للأطلال والماضي يقول الشاعر علي القحطاني:

شاهدتها صدفة على باب دكان

في سكةٍ بين البيوت القديمة

في حارةٍ ماكن حيٍ بها كان

ما باقي إلا آثارها مستقيمة

محا الزمن عنها الزخارف.. والألوان

تحطمت من عقب ما هي سليمة

البناء قرب المزارع

وكانت العادة في الماضي أن يتم بناء بعض بيوت الطين قرب عدود المياه وداخل المزارع للقرب من المزرعة والاهتمام بها أكثر وهناك من كان بيته بعيدا عن مزرعته الخاصة، ودائماً يكون للمكان عشق وحنين داخل أعماق الناس خاصة الشعراء فهذا الشاعر المشهور سليمان بن حاذور (يرحمه الله) عندما مر في أحد الأيام على أحد المنازل وسأل عن أهل الدار فوجدهم قد رحلوا فتذكرالماضي ثم فقال:

مريت بيتٍ للمحبين مقفول

جابتني القدرة على حد بابه

ونشدت جيرانه عسى البيت منزول

قالوا حبيبك راح لا واسفا به

له مدةٍ بالسوق ما شيف له زول

وبابه عليه من السوافي ترابه

وهلت دموع العين والقلب مشغول

وعند الفراق اللي حصل في غيابه

واقفيت واللي بين الاضلاع مجهول

حبٍ درسته غيب ماهو كتابه

الأبواب

وتتميز بيوت الطين عن غيرها بجمال التصميم وقوة أبوابها وكانت تغلق بالمزاليج وتعمل من خشب الأثل أو من جذوع النخل وتوضع قطع الخشب بشكل طولي بجوار بعضها ويتم تثبيتها بقطع من الخشب توضع بالعرض مخرمة ليصل بينها وبين خشب الباب سيخ من الحديد ذي طبعة كبيرة على شكل دائري من جهة ومدبب من الأخرى ليتم ثنيه لتثبيت الخشب.

أيام الطفولة والحارة

بيوت الطين وأيام الطفولة والحارة. حقيقة هي صور جميلة جداً.. ودائماً تبقى ذكرياتها بحلوها ومرها لا تغيب عن البال وإن طالت السنين وتغيرت ملامحها. والأجمل في هذه الذكريات عندما نترك العنان لخيالنا نجده ينطلق في سماء الماضي الرحب ويذكرنا بأيامه الخوالي فأجمل شيء هو الحديث عن أسرار الماضي وذكرياته الحالمة. ومن خلال موضوع هذا اليوم ربما أذكركم أحبائي القراء بالماضي وأحداث الذكريات التي لا تنسى في حياتنا الماضية، وكذلك الحنين للأيام الجميلة ونختم بقصيدة للشاعر الرائع عبد العزيز الحمد العربني ببيت الطين:

على ذكرى الزمان اللي مضى لي هل دمع العين

تذكرت السنين الأوله والدمع همّالي

يلج ابداخلي ذكرربوعي والزمان الزين

وفكري من هموم القلب وصدوف الزمن خالي

يورى في عيوني مجلس الشايب وبيت الطين

مداهيل الرجال اللي لهم بالطيب منزالي

مجالسهم مجالس للشجاعة والكرم والدين

تنومس راعي الطالة وتغبن كل بطالي

أخذت ابسجتي ساعة بعد مافقت مدري وين

زواني هم قلبي عقب جيت الدار بلحالي

زمان راح مايمكن يعود ودق فيه البين

أنا مالي سوى الذكرى ولو هي كدرت بالي

أسولف مع هجوسي وانشد الخاطر بحين وحين

زمان أول لحقته صدق ولا هو يورى لي