“ولكن  الحرب لو يعلمون لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع بل في قلوب الناس وأفكارهم أيضًا”.  ميخائيل نعيمة.

هل تساءلت من قبل ماذا تعني لك الحرب قبل أن تعيشها، وماذا ستعني لك بعد أن تشهدها؟ هذه اللقطة لا تُصُوّر شر هذه الحرب، إنها تُصّوّر شر كل حرب.

الحرب ليس لديها أصدقاء أبدًا، علي الرغم من زعمهم أن لكل حرب نيران صديقة، أخطاء غير مقصودة، يمكنها قتل الصحفيين أو المصوّريين، أو حتي الأطفال الأبرياء، هذه الصورة خطأ غير مقصود كما يزعم الزاعمون.

“إلي الوحيدة التي تفهمني .. أمي”

هكذا بدأت “كيم فوج” حديثها مع دينز تشونج في كتابها ” الفتاة التي في الصورة” “The Girl in the Picture”.

لم أكن أبدًا سريعة العدو، ولكنني وقت رأيت أن النيران لم تمس قدماي عرفت أنني استطعت الجري، ولأول مرة.

في الثامن من شهر يونيو 1972، خرجت من المعبد الواقع في مدينتي “ترانج بانج” جنوب فيتنام، ورأيت لأول مرة في حياتي طائرة تقترب من الأرض، لم أكن خائفة، فقط كنت فضولية لأعرف ما كونية الأشياء التي تُسقطها الطائرة علي أرضنا، بمجرد أن رأيت النيران تحيط بي من كل مكان، فهمت أن ما أسقطته الطائرة من أربعة قنابل ما هي إلا قنابل الـ “نابالم”.

قنابل الـ “نابالم” هي سائل هلامي عبارة عن مخلوط من المواد الكيميائية الحارقة يلتصق بالجلد مسببًا حروق من الدرجة الرابعة والخامسة، يُعد من الأسلحة المُحَرمة دوليًا، استخدمته القوات الأمريكية في حرب فيتنام.

لم استفق من صدمتي إلا عندما وجدت النيران تأكل ذراعي الأيسر وكانت بالفعل قد قضت على ملابسي، عرفت حينها أنني قد أُصبت بقنبلة النابالم، وجدت نفسي أعدو من الألم بسرعة لم أعهدها في نفسي، عارية خائفة، لا اعرف وجهتي.

أصابتني القنبلة في عنقي وظهري وذراعي اليسرى، لم أملك إلا أن أعدو مسرعة وصارخة بكلمات لم تسمعها أذني، عرفت فيما بعد أنني كنت أصرخ: ماء .. ماء .. إنها حارقة جدًا.

المُصوّرون، هم جمهور السينما أو المسرح، ينتظرون حدوث الواقعة ليلتقطوها، أما “نيك أوت” مُصوّر هذه الصورة لم يكن ينتظرها كالوضع الكائن في كل الصور، لقد كان “نيك” يصور فيلمًا عن واقعة سقوط قنابل النابالم على المدينة وقت جاءت “كيم” أمامه صارخة: “ماء .. ماء”.

يقول “نيك” مصور هذه الصورة في كتاب “الفتاة التي في الصورة” إنه فقد اللقطة العظيمة، وحينما وجد الفتاة أمامه أراد ان يأخد لها أكثر من لقطة، ولكنه عندما وجدها تصرخ: “إنها حارقة جدًا” قرر أنه لا يريد أن يأخذ صور بعد الآن، كل ما أراده وقتها أن يُلبي لها طلبها، أن يأتي لها بالماء

طبياً في حالة الحروق من الدرجة الثالثة والتي أُصيبت بها “كيم” وقت سقوط القنبلة، ممنوع أن يوضع الماء علي أماكن الحروق في الجسم، ولكن من كانوا حولها من مصورين وقت الحادث أرادوا أن يُسكنوا آلامها بوضع الماء علي جسدها، ولكنها لم تتحمل الألم، وسقطت مغشيًا عليها.

أوصلها “نيك” إلي المشفي حيث وجدها أبويها بعدها بثلاثة أيام، تفقدوا المشفي طابق طابق لم يجدوا لها أثر، سأل أبوها عنها أحد عُمال النظافة في يأس قائلاً: ابنتي جاءت في اليوم الـ 8 من يونيو بآثار حروق ولكنني لم اجدها، من الممكن أن تكون فارقت الحياة .. أليس كذلك؟

ليرد عليه الرجل قائلاً: إنها هناك في الغرفة المكتوب عليها “مُتوقع الموت”.

أجرت “كيم” سبعة عشر عملية جراحية، وبعد مرور 14 شهر علي الحادث استطاعت بعدها أن تعود إلي منزلها الذي دمرته الحرب وتُمارس حياتها من جديد، علي الرغم من الآلام المصاحبة لها حتي الآن.

تقول كيم في كتاب “الفتاة التي في الصورة” إنها كانت تسأل نفسها كل ليلة: لماذا أنا؟ كنت أكره كل شخص عادي، لأنني ببساطة لم أكن عادية، كل يوم أنظر إلي ذراعي اليسري المشوهة وأقول لن أتزوج ولن يكون لي أطفال، لن أرتدي بعد الآن أية ملابس بأكمام قصيرة.

في اليوم التاسع من يونيو التالي ليوم التقاط هذه الصورة، نُشرت الصورة في جميع أنحاء العالم تحت عنوان “ضحايا الحرب الأبرياء”.

تقول عندما رأيت الصورة التي نُشرت في الجرائد والمجلات والقنوات شعرت باليأس، لم أكن أريد أبداً أن تُلتقط صورتي هكذا، كنت بشعة، وخائفة، وخجولة من عُريي، كانت محاصرة بنفس السؤال من جميع ألوان البشر، مصورين، صحفيين، مراسلين، جيرانها وأصدقائها، هل أنتَ الفتاة التي في الصورة؟ وتكون الإجابة واحدة:  نعم، أنا الفتاة التي في الصورة.

كانت لهذه الصورة دورًا عظيمًا في هياج العالم ضد الحرب في “فيتنام”، اشتعلت المظاهرات في كل من فيتنام والولايات المتحدة الأمريكية ضد الحرب.

أصبحت كيم تبحث عن هدف لحياتها، تتردد علي المكتبات لقراءة الكتب الدينية، وبعد البحث وجدت أن المسيحية هي ملاذها، الدين الذي تعلمت منه أن تُسامح، وهذا ما كانت تحتاجه في حياتها، تقول في الكتاب إن المسامحة هي أصعب شيء في الوجود، ولقد سامحت من تسبب فيما حدث لي، وأصبحت ممتنة لهذه الصورة التي كانت تؤرقني ليلاً، لقد أعطتني الفرصة أن أتحدث باسم ضحايا الحرب الأبرياء، وأن أُعطي الأمل لهم، أنك بعد كل ما مررت به، يمكنك أن تظل على قيد الحياة.

كيم أصبحت زوجة وأم لطفلين، مواطنة كندية تعيش في “تورونتو”، تجوب أنحاء العالم لتتحدث عن قصتها التي ألهمت الملايين، والأهم قصتها التي ساهمت في وقف الحرب في بلادها، الحرب التي استمرت من الأول من نوفمبر عام 1955 إلى الثلاثين من أبريل 1975.

لقد أُخذت من فيتنام صورة واحدة ليهيج العالم ضد الحرب الآثمة التي تقضي على ضحايا مدنيين أبرياء، صورة واحدة لم يكن للمصور هدف في التقاطها ولم تكن الفتاة مصرّة على أن يتم التقاطها بهذا الشكل لتوصل رسالة للعالم بعار هذه الحرب الواقعة في بلادها، صورة كهذه أوصلت آلام الفتاة في كل أنحاء العالم، وساهمت في وقف الحرب.