مارس الشعراء العرب منذ العصر الجاهلي التّناصّ, إذ تفاعلت نصوصهم مع نصوص غيرهم, وعرف النقد الأدبي العربي القديم مجموعة من المصطلحات النقديّة التي تقترب جدّاً من مفهوم التّناصّ, منها الاقتباس والتضمين والمعارضة والنقيضة والسرقة الأدبيّة وغيرها.. هكذا كانت بداية محاضرة الباحث ‏د.جودت إبراهيم‏ ‏‎

في فرع حمص لاتحاد الكتاب العرب سنورد مقتطفات منها:

قمنا في هذا البحث بدراسة التناص في أعمال خمسة عشر شاعراً راعينا في اختيارهم أن يمثلوا أكثر البلدان العربية خلال القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين ومنهم نزار قباني وأدونيس (سورية) وإلياس أبو شبكة وإيليا أبو ماضي والأخطل الصّغير (لبنان) وبدر شاكر السيّاب (العراق) ومحمود درويش (فلسطين) وسعاد الصّباح (الكويت) وعبد العزيز المقالح وعبد الله البردوني (اليمن).‏

في الشّعر العربيّ الحديث‏

كانت آليّة التّناصّ الغالبة في هذا الشعر استلهام دلالة النص الشعري وتحويرها بما يتناسب و مقصديّة الشاعر، وبذلك تقوم علاقة النصّ الشّعري مع النص الغائب على أساس الامتصاص يقول نزار قباني بقصيدة «غرناطة»:‏

عينانِ سوداوانِ.. في حجَريهما‏

تتوالدُ الأبعادُ من أبعادِ‏

هـل أنـت إسبانيّةٌ؟ ساءَلّتهـا‏

قالت: وفي غرناطةٍ ميلاديْ‏

ودمشقُ أينَ تكونُ؟ قلتُ تريْنَها‏

في شَعْرِكِ المنسابِ نهرَ سوادِ‏

وهذه القصيدة مستوحاة من قصيدة عمر أبو ريشة «في الطائرة»:‏

فتبسمتُ لها فابتسمتْ‏

وأجالتْ فيَّ ألحاظاً كسالى‏

قلتُ يا حسناءُ من أنتِ ومِنْ‏

أيّ دوحٍ أفرع الغصنُ وطالا؟‏

وأجابتْ: أنا من «أندلسٍ»‏

جنّةِ الدنيا سهولاً وجبالا‏

فقد استلهم نزار هذا النص الذي يتحدث عن لقاء الشّاعر عمر أبو ريشة بفتاةٍ أندلسيّة وأعاد إنتاجه بشكلٍ أقرب إلى المحاكاة، مع محاولةٍ منه للتميّز الأسلوبيّ عن النصّ الأول.‏

ولم يتأثر الشاعر بدر شاكر السيَّاب بالشعراء المعاصرين في الغرب فحسب بل أيضاً بالشعراء العرب ممن كانوا معاصرين له ومنهم جبران خليل جبران، يقول السيَّاب في قصيدة (يا غربة الروح) (1963):‏

الحبُّ ليس انسحاقاً في رَحَى الجسد‏

ويُذكّرنا هذا البيت بالشاعر جبران خليل جبران الذي كان يركّز على الجانب الرّوحي في الإنسان أكثر من الجانب المادي، ويدعوه إلى تلبية احتياجات روحه أولاً، فيقول:‏

وَالحُبُّ إِن قادَتِ الأَجسامُ مَوكِبَهُ‏

إِلى فِراش مِنَ الّلذاتِ يَنتَحـرُ‏

وَالحُبّ في الرُّوحِ لا في الجسم نَعرفُهُ‏

كَالخَمرِ لِلوَحي لا لِلسّكر تنعَصرُ‏

فيُنتج بيتاً جديداً يناسب مقاصده، مع بقاء معناه رديفاً لمعنى بيتي جبران. ويتناصُّ السيَّاب مع الشاعر أحمد شوقي بقوله في قصيدة (في يوم فلسطين):‏

اليومَ يحطّمُ كلُّ شعبٍ ثائرٍ‏

سودَ القيودِ بضحكةِ استهزاءِ‏

ويدٍ يفرُّ البغيُّ مِن هزاتِها‏

حمراءَ ضرَّجها دمُ الشهداءِ‏

وهذان البيتان مُقتبسان من بيت شوقي:‏

وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بـابٌ‏

بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَـةٍ يُدَقُّ‏

فالسيَّاب اجتر ثلاث علامات لسانية من بيت شوقي وهي (يد، حمراء، مضرّجة) فأجرى تغييرات طفيفة لم تؤثر في الدلالة أو المعنى فهذه اليد المصبوغة بدماء الشهداء عند شوقي هي التي ستفتح باب الحريَّة، وكذلك عند السيَّاب هي التي ستحطّم القيود وتطرد الأعداء، فنصّ السيَّاب لم يخلق شعريّة جديدة خارج حدود شعريّة نصّ شوقي.‏

والشاعر قاسم حدّاد قد تأثر بأعلام الشعر من معاصريه مثل بدر شاكر السيّاب, ومحمود درويش, وأدونيس، ونزار قباني..‏

التّناصّ مع الشعر الحديث انصهار شخصية المبدع فيما يقدمه من إبداع ويعكس ارتباط المبدع بالشعراء الآخرين ويبدو أنَّ أكثر مظاهر التّناصّ مع الشعر الحديث فاعليّة في عمليّة الإبداع تتمثل في تشكيل بنيات داخليّة في النصّ قد تميل إلى التماثل والتآلف أو التخالف والتناقض، فقد يكون من أهداف التّناصّ توثيق دلالة محددة أو نفيها، أو توكيد موقف وترسيخ معنى، وبالإجمال إنتاج دلالة مؤازِرة للنص في حالتي قبوله ورفضه بالتّضمين الصريح أو بالتلميح و التّناصّ مع الشعر الحديث لا يكون تقنية جمالية إلا بتوافر ركيزتين تعملان في إطار التعالق، أي علاقة النصّ بالنّصوص الأخرى، وإطار التحويل..‏

واختتم المحاضرة بقوله: أن التداخلات الشعرية قد تكون جيدة وقد تكون رديئة بحسب إبداع الشاعر.‏

وأخيراً: كانت المحاضرة مميزة بحضورها وغنية بمعلوماتها وبدا الجهد وضحاً في المحاضرة التي ألقاها الدكتور جودت.‏

http://thawra.sy/_View_news2.asp?FileName=94012670820181123004715