ستيفان لابودوفيتش مصور الثورة التحريرية .. صربي بقلب جزائري

كان شابا، وكان في ساحة الوغى، بجبال الجزائر الشاهقات، لم يكن جنديا بالبندقية أو بالرشاش، كان سلاحه آلة تصوير وكاميرا، ترصد كل تنقلات ومعارك ثوار الجزائر ضد المستعمر الفرنسي الغاشم، تشهد عليه جبال الأوراس (شرق البلاد)، أنّه وقف إلى جانب بلد المليون ونصف المليون شهيد في نضالها من أجل الحرية بالتوثيق لحرب السبع سنوات بعشرات بل مئات الصور..

 

 إنّه المصور الفوتوغرافي الصربي ستيفان لابودوفيتش الملقب بمصور الثورة الجزائرية.

 

 

 

 

بدأت قصة ستيفان لابودوفيتش، المعروف بنصرته للقضايا الإنسانية العادلة مع الجزائر عندما قرر دخولها سنة 1959 عبر تونس إبّان سنوات الثورة ضد فرنسا الاستعمارية (1962-1954) من أجل تصوير أفلام وثائقية لنقل ما يحدث في الجزائر سواء داخل المدن أو في الجبال، وتمكن بفضل الكاميرا من تخليد اللحظات التاريخية للجزائر خلال حرب التحرير.

 

لابوديفيتش صديق الجزائر يربك فرنسا

لابوديفيتش المولود في بلدية بيران سيرنا غوار (الجبل الأسود حاليا) بيوغسلافيا (صربيا حاليا) في الـ28 ديسمبر/كانون الأول 1926، كان لصوره الملتقطة التأثير الكبير في الرأي العام العالمي من خلال ربط واقع الثورة في الجزائر ضد الدعاية الاستعمارية التي تهون مما يحدث وتصف الثوار الجزائرييين بالإرهابيين وقطاع الطرق”.

 

 

 

 

وحسب شهادة أدلى بها سابقا سفير الجزائر في بلغراد، شبشب عبد الحميد، في احتفالية تكريمية نظمت العام الماضي (2016) بسفارة الجزائر في العاصمة بلغراد (صربيا)، بمناسبة الذكرى الـ90 لميلاد لابودوفيتش، قال إنّ “ستيفان لابودوفيش وقف جنبا إلى جنب مع الشعب الجزائري، وكان ملتزما معه في النضال من أجل التحرر الوطني”. مؤكدا في حديثه على تأثير صوره في الرأي الدولي وعكسها بصدق لما يحدث داخل البلاد”.

 

الرئيس الصربي يمنح لابودفيتش وسام رئيس الجمهورية الجزائرية عبد العزيز بوتفليقة

 

ومن جانبه قال وزير الدفاع الصربي في تلك الاحتفالية، “إنّ ما قام به سيتفان لابودوفيتش من خلال الصور التي التقطها إبان الثورة الجزائرية أسهم في إثراء المحفوظات الوطنية الصربية خصوصا للأجيال القادمة لمعرفة الحقيقة حول كفاح الشعب الجزائري بغية الحرية والكرامة “.

 

لابودوفيتش يترك أثرا في تاريخ أمّة

وتعدّ صور وفيديوهات لابودوفيتش بمثابة شهادة حية حول ثورة الشعب الجزائري، وعلامة فارقة عميقة مسجلة في تاريخ الأمة. فكانت تلك اللوحات المرسومة عن بلد الثورة منطلقا وقاعدة للأجيال القادمة بخصوص النضال الجزائري من أجل الحرية والكرامة، وتعدّ تحقيقا صادقا نقل بالصوت والصورة تارة وبالصورة تارة أخرى حقيقة الأحداث التي  دائما ما تزيفها فرنسا.

 

 

وتركزت أعمال لابودوفيتش على الأحداث والمجازر المرتبكة في حق الجزائريين من عام 1959 إلى عام 1962، كما أن لديه أعمالا سابقة وأخرى بعد فترة الاستقلال (1962) كمرافقته للجزائر في حركة عدم الانحياز سواء كعضو أو كمشارك، وأخرى عن بلده فيما تعلق بنمو صربيا ويوغسلافيا، وبالتالي تمثل اليوم أعماله كنزا ومكتبة ثقافية وأرشيفا وجبت دراستها وتدريسها للأجيال الحالية والقادمة، كما لابد من إطلاع الشباب الجزائري عليها نظرا لما تمثله من قيمة وإبداع حقيقيين إضافة إلى أنها تعنى بثورتهم المجيدة وتعكس تاريخهم المشرّف في النضال.

 

الجزائر تردّ جميل مصور الرئيس تيتو

وبهذا العمل المميز الذي قدمه شخص “أجنبي” لصالح الثورة الجزائرية، ولو أنّه كان صديقا لها، ردّت الجزائر له الجميل عرفانا بما قدمه تجاهها ولأجلها، وتقديرا  لمهنيته واحترافيته ومصداقيته في تصوير ما جرى وتوثيق ما حدث بلغة الكاميرا والصورة.  فكرّمه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بمناسبة الذكرى الخمسين للثورة الجزائرية (2012) بأعلى وسام استحقاق وطني نظير مساهمته الكبيرة في انتصار الثورة الجزائرية  ومناهضته للاستعمار.

 

 

وفي 2014، عاد صديق الثورة التحريرية ستيفان لابودوفيتش إلى بلده الثاني الجزائر وسط أحبائه وأصدقائه الذين تعرف عليهم في سنوات زياراته إلى الجزائر، مكرّما من بوابة الطبعة الخامسة لمهرجان الجزائر الدولي للسينما الذي ترأسه زهيرة ياحي، فحضر لابودوفيتش الاحتفالية التي ذرف فيها الدموع أمام الجمهور والإعلام، رغم تعبه وتقدمه في السن، بحيث كانت تلك اللحظات حميمة بينه وبين الجزائريين غلب عليها التأثر والبكاء، فذرف لابودوفيتش المصور الشخصي للرئيس اليوغوزلافي السابق جوزيف بروز تيتو الدموع وتسلم درع المهرجان باكيا من شدّة التأثر بهذه الوقفة التي خصصتها الجزائر على شرفه، فما كان من جمهور قاعة “الموقار” بالعاصمة إلاّ أن يقف احتراما وتحية له.

وردّ لابودوفيتش على هذه الالتفاتة في “بلغراد” بالقول متحديا تلعثمه لكبر سنّه (عمره اليوم يناهز 90 سنة) : “الثورة الجزائرية من أعظم الثورات في العالم والشعب الجزائري ناضل طويلا وضحى من أجل استقلال الوطن…” وهتف في آخر كلامه: ” تحيا الجزائر”.

 

الجزائر قطعة من حياة لابودوفيتش

لم تتوقف عدسة لابودوفيتش عند رصد حياة المقاومة والنضال داخل الجزائر فقط، بل رافقت مسؤوليها إلى الخارج، فأرّخ لزيارات عدّة رؤساء على غرار الراحلين هواري بومدين، والشادلي بن جديد، كما أرخ لزيارة الرئيس جوزيف بوز تيتو إلى الجزائر وغيرها من اللقاءات الرسمية.

يعيش اليوم لابودوفيتش حياة التقاعد في بلغراد، ولكنه لم ينس البلاد التي أحبّها وناضل من أجلها رغم أنّها بعيدة جغرافيا ومختلفة عن بلاده في العادات والتقاليد إلخ..، إذ لا يزال منزله يحتوي على أشياء قيمة مثل الهدايا التذكارية الممنوحة له من قبل الجزائر والميداليات واللوحات والأعلام والأعمال الفنية، فضلا عن الصور التي خلّد بها الثورة الجزائرية.

 

هواري بومدين الرائيس الجزائري الراحل ولابودوفيتش

 

أعمال وثائقية كثيرة منوعة بين القصيرة والطويلة لستيفان لابودوفيتش منها “تيتو أمام التاريخ” (1985)، “يوغزلافيا وحركات التحرير” (1983)، “الإرهابيون” و(ثائقي قصير)، “القمة السابعة”، “سراييفو تنتظرك” (1983)، “تيتو وكوسوفا” ( 1980)، “نفس القمة في هافانا” (1979)، “يوم واحد في الكويت” (1978)، “تيتو طريق الصداقة والتعاون ” (وثائقي /1977)،  “تيتو أول مسافر” (قصير/1976)، “معمر القذافي في يوغزلافيا” فيلم وثائقي قصير (1973)، “البلد والشعب” 1976 (فيلم وثائقي قصير)…وغيرها.

ويتم في كل مناسبة ثورية بالجزائر، كعيد الثورة المصادف للفاتح من نوفمبر، أو عيد الاستقلال في 5 جويلية من كل سنة، عرض الأفلام الوثائقية والصور التي أنجزها ستيفان لابودوفيتش، وذلك في المتحف العسكري في الجزائر.

ويعتبر الجزائريون لابودوفيتش مناضلا متساويا معهم  شارك في تحرير بلادهم، أكبر بلد في القارة الإفريقية والعالم العربي.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.