لوحاتها تعكس باللاوعي ما بداخلها من مشاعر
رانيا الألفي فنانة تشكيلية تضيئ باللون ما أخفاه الرسم
……………………………………………
هو احتفاء بالضوء الذي يكشف أسرار الحكاية الحلم ..؟ أم هي محاولة لالتقاط بعض من صدى تلك الثرثرة البصرية الأنيقة ..؟ بالحالتين هي حالة فيها نقلة نوعية باتجاه كثير من الجماليات الراقية والمتعة التي تحاكي البصر والبصيرة معا .

في فترة سابقة كانت ترسم رانيا الألفي المنظر الطبيعي برؤية خاصة، كما هي حال بعض الوجوه في لوحاتها من غير تفاصيل، ربما حتّى لا نعرف الكثير عنها شخصياً، ولا حتى عن تلك الشخصيات التي تتركها قصداً بلا ملامح لتفيض بالتعبير عن ذاتها رغم تماهيها، وكأنها باللاوعي كانت تخشى أن تعكس تلك الوجوه كل ما بداخلها من مشاعر باتجاه الآخر، وما غاب من ملامح في لوحتها يظهر جليّاً بعد أن تلتقي بالفنانة ولو لأول مرة، لتكمّل التعرّف أكثر عليها من خلال نبرة صوتها أولاً، والذي لا يمكن أن تخفيه مثلما بقية الأشياء التي تفشل أيضاً في كبت معظمها هناك في أعماقها، لتُفصح عيناها عمّا تبقى من خصائص تلك الشخصيات المتعبة والمنكسرة في لوحاتها نتيجة إحباطاتها واليأس من الحياة والزمن الذي لم يكن حاضره أفضل من الماضي.
إن مجموعة الأعمال المعلّقة على جدران مرسمها (غرفتها المؤجَّرة) في منطقة باب توما، تعكس من غير عناء إحساساً عميقاً ومشاعر صادقة باتجاه الإنسان كقيمة عليا بالحياة، تعبر عن هذا الأسى من خلال اللون والكتلة وفراغ اللوحة الذي هو فضاءها المعتم في معظم الأحيان، هو جزء من المكان الذي تلجأ إليه الفنانة مع شخصياتها، تستحضره من ذاكرتها المتعبة والمرتبكة، في محاولة منها استعادة بعض الحميمية التي غادرتها بسبب ظروف الحرب والتهجير، خاصة منها بعض أعمال التشخيص والتجريد في الطبيعة .. التي تغيّب فيها بعض التفاصيل والأشكال أحياناً هرباً من فجاجة الواقع المؤلم، فتلجأ إلى التقنية لاستحضار بعض الجماليات من خلال سيولة اللون وتمديده في بعض مناطق المشهد وإضاءته بتوهّج تدرجات الأصفر الذي يسهم في روحنة تلك الشخصيات المجتمعة على الأمل بالقادم من الأيام، وهنا نلاحظ سعي الفنانة على إضفاء نفحات رومانسية حالمة موزّعة بتقشّف في أكثر من مكان على سطح اللوحة، لتقلّل من حجم أو مساحة الحزن التي تفيض بسخاء من عيون شخوصها بعد أن تنجح في إخفائها من عينيها.
تقول رانيا : (احرصوا دائما على صداقة من يجيدون المزاح والضحك كثيراً، فهؤلاء يساهمون بشكل كبير جداً في قدرتنا على تحمل مصاعب الحياة ..!)،.

مثلما نوّعت الفنانة في انتقاء موضوعاتها، أيضاً كانت انتقلت بصياغاتها من فهم وأسلوب إلى آخر بحيوية دائماً ومن غير تعصّب لأي اتجاه أو مدرسة، وكان هذا بحكم الظروف أحياناً وخاصة الاشتغال على موضوع مستجد أو راهن ? كنت بصدد التحضير لمعرض شخصي في مدينتي حمص في عام 2012 ولكن وقع الحصار في ذلك الحين و هُجّرت قسرا من مرسمي ومنزلي الكائن جانب سينما حمص ولم أستطع وقتئذ اخراج أي شيء من أعمالي، وبعد 3 سنوات فُكّ الحصار ولكني عدت لأجد كل اعمالي ومقتنياتي قد فقدت والمنزل محروق بأكمله .،
وقد اتجهت بعد ذلك للتعبير عن حالات انسانية تعبيرية تناولت فيها مواضيع عن الحرب والحب ضمن فضاءات أو حارات وبيوت وقناطر ).
هذا التحوّل القسري في حياة الفنانة الألفي لابدّ أن ينعكس أثره في لوحاتها، فرسمت بعد تلك المرحلة وجوه من الذاكرة، والتي أيضاً كانت تحكي وإن بصمت قصص ويوميات عن الحبّ في زمن الحرب، عن الموت الذي كنا ننجو منه كل يوم، وعن الرعب الذي اعتدنا عليه، كل هذا كان يظهر على شكل مؤثرات هنا وهناك في لوحاتها وخاصة في موضوع “البورتريه” (بداية صيف 2017)، كما نلاحظ ما هو جديد حقيقة على تجربتها من حيث وضوح الرؤية والصياغات وتوحّد الحالة التي تظهر في معظم الوجوه، ففي كل لوحة شكل مختلف من المعاناة، أو هو تباين في التعبير عن الحزن الذي يتماهى مع سيولات اللون ومسامات القماش هناك في خلفية المشهد الداكن عموماً، مختارة له ولتلك المجموعة من اللوحات منظومة البني بتدرجاتها مع مداخلة متأنية للأصفر الذي يضيئ مناطق من الوجه، بالاتفاق مع بعض الأزرق خوفاً من الجماليات التي لا تريدها سخية – هنا على الأقلّ – لتبدو تلك النسوة في حالة من الحيرة والتأمّل بعد انكسار أو فقدان، تصلك تلك المشاعر من تعابير الوجه بالعموم، وفي الشفاه المضمومة وكأنها أطبقت قبل فترة من الزمن على كلام لا تريد الإفصاح عنه، نكاد نسمع بعضاً منه في عيون وكأنها انفتحت على كل أحزان العالم إلى غير رجعة.

حاولت الفنانة رانيا الألفي الاستفادة من إمكانات وطاقات كل أسلوب فني تعاملت معه أو اطلعت عليه، من أجل إيصال فكرتها أو غايتها من الرسم واللوحة عموماً موظّفة كل معارفها وخبراتها التي اكتسبتها خلال تلك السنوات من الاشتغال لتنهض بالتشكيل في لوحتها على حساب الأدب والموضوع الذي كان حاضراً دائماً فيه الإنسان كقيمة عليا في الحياة والأمكنة التي احتوته يوماً ما بحميمية، أو على الأقل ما بقي منها في الذاكرة بعد سنوات من الحرب والتهجير .

اللوحة برأي الفنانة الالفي : (هي انعكاس لحالتي الداخلية فأنا قبل أن أقوم برسم اللوحة لا أنوي رسم شيء محدد بذاته، فاللوحة هي من يحدد ما ستؤول إليه النهايات.)
ففي كثير من لوحات الفنانة نلاحظ هاجساً يؤرقها يتجلى في محاولاتها المجتهدة لإظهار خاصية بعض الألوان من تجاورها رغم تضادها (الأحمر مع الأخضر، والأصفر مع البنفسجي وأيضاً البرتقالي مع الأزرق) وإيجاد معادلات لونية ومصالحات فيما بينها في نفس العمل أحياناً، ودائماً بشهادة الضوء الذي يروحن كل ما هو موجود في الكادر من أشياء ومفردات على اختلاف أجناسها، وبخاصة ما تعكسه تلك الوجوه من دلالات وتعابير متباينة، يضاف إلى ذلك سعي مجتهد من الفنانة للتخفيف من وطأة الشكل وتبسيطه لصالح التعبير الذي يُشعرنا بفيضه من حواف اللوحة باتجاهنا .

الفنانة رانيا الألفي التي قرّرت أن تتفرّغ للفن وتعيش منه رغم صعوبة هذا الخيار وفي هذا الوقت بالذات، هي تسعى دائماً في عملها أن يكون أقرب في طبيعته للفن بشكل عام، وإلى عوالم وفضاء لوحتها التي هي ملاذها الأول والأخير فيما تبقى لها من أمل أن يتحوّل حلمها واقعاً ترسم هي حدود أفقه باتجاه أنسنة كل ما حولها من أشياء وتفاصيل تعوّض من خلالها ما فقدته من أحبّة نتيجة الظروف القاسية التي مرّت بها، لتكمل مشوارها في الفن والحياة، محاولة وباجتهاد أن تؤسّس لواقع جديد يكون ملائما ومنسجماً مع تطلعاتها وأفق مستقبل القادم من الأيام التي تُشعرك بأنه سيكون أفضل، من خلال اللوحة وما تحمل لها من مفاجآت لطالما هي مستمرة بالتجريب في أدواتها والمواد التي خبرت التعامل معها وكثير من تلك الآمال تفيض من حواف لوحاتها على شكل تمشيحات من الأزرق تظهر من خلف إضاءة ولو خافتة في مكان ما من الكادر الذي يحتفي بكل تلك التفاصيل ويخفي بعض السعادة الممكنة، التي تظهر أكثر في ابتسامتها الدائمة وضحكتها الحاضرة وهي تعكس حالتها في تلك اللحظة من الانسجام والراحة مع من تحب من الصديقات والأصدقاء في جلسة خاصة، تلك اللحظات من الفرح لا تتأخّر الفنانة بالتقاطها بل تسعى إليها، وهي التي كانت المدرّسة لمادة الفنون ومشرفة على أكثر من ورشة عمل لطالبات وطلاب مميّزين تتعب معهم وتتابعهم وتفرح كثيراً لنجاحهم وتفوّقهم .
…………………………..
هي هكذا الحياة رغم مرارتها مازالت تستحق العيش على الأقل من أجل من نحبّهم فيها .
النحّات غازي عانا

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.