موقع مكتب عنبر:
في قلب دمشق القديمة، يقع مكتب عنبر فإلى الجنوب منها، وعلى بعد مائة متر تقريباً، الطريق الذي يصل باب الجابية بالباب الشرقي· ويدعى في أوله بسوق مدحت باشا، نسبة لأحد ولاة دمشق الأتراك المصلحين· ثم حي مئذنة الشحم، وفي وسط الطريق يقع حي الخراب· وقد سمي هذا الطريق في التاريخ بالطريق المستقيم·
وإلى الغرب، هناك أزقة ضيقة معوجة، هي محلة النقاشات التي تنتهي بطريق القباقبية الملاصق لجدار الجامع الأموي الجنوبي والذي ينتهي بباب الجامع المسمى (باب القوافين)· ومن هناك يتفرع طريق باتجاه سوق السلاح فسوق البزورية، وطريق آخر نحو سوق الحرير فسوق الخياطين، وثالث يوصل إلى باب الجامع الأموي الغربي (باب البريد) فالمسكية فسوق الحميدية· وإلى الشرق من القباقبية طريق فرعي يؤدي إلى العمارة· ويقابلة طريق يؤدي إلى مكتب عنبر·
بناء المكتب:
تتصدر مدخل المكتب بوابة كبيرة من صفائح وقضبان الحديد وإلى جانبي البوابة نافذتان· وثبت في أعلى الباب لوحة رخامية توجت بالطغراء السلطانية ثم بعبارة: (مكتب إعدادية ملكية)· يلي البوابة فسحة مسقوفة فصلت عن الداخل بحاجز خشبي·
تتضمن هذه الفسحة غرفة الحارس (كاظم آغا)· وكان يقابل الغرفة منضدة كبيرة وضع عليها جهاز إطفاء يدوي ضخم يدار بأن يمسك أحد الشخصين المتقابلين الدفة الأولى فإذا رفعها انخفضت آليا دفة الشخص الثاني· ومتى خفض الأول دفته ارتفعت دفة الثاني، وهكذا دواليك· وبهذه العملية اليدوية المتناوبة تقذف المياه من خراطيم خاصة، بعد أن يثبت طرفها في مصدر مائي· وثبتت على الجدار المجاور لجهاز الإطفاء، وفق ترتيب حسن، الأدوات المساعدة على الإطفاء والهدم، كالمناجل والحراب المدببة والمعكوفة والمعاول والمجارف، وجميعها مدعومة بعصي طويلة·
وفي الثلاثينيات من القرن الماضي رفع جهاز الإطفاء وأدواته·
بعد الحاجز الخشبي هناك باحة كبيرة تطل عليها غرفة أحد الصفوف وقاعة مطعم الطلاب الليليين والمطبخ وغرفتا الأرزاق واستلام الأرزاق وغرفة المستودع وجعلت غرفة جانبية كمطعم للنهاريين·
وكان في الباحة عدة شجرات كبيرة من الجميز (الميس) قطعت فيما بعد كما احيطت الباحة برواق تحمله أعمدة حديدية· وتطل على الباحة من الطابق العلوي الشرفة الخاصة بغرفة مدير المدرسة·
تنتهي الباحة باتجاه الشرق بباب يؤدي إلى الباحة الداخلية الرئيسية للبناء تتوسط هذه الباحة بحرة من الرخام، تحيطها عريشة، استرخت أغصانها المتشابكة فوقها على شكل قبة جميلة كما غرس في الباحة عدد من شجر الحمضيات المنوعة، كالليمون الحلو والليمون الحامض والفراسكين والكباد والنارنج، وشجيرات الزينة، كالياسمين والمليسا والشمشير والورد··
إلى شمال الباحة إيوان رحب يرتكز على أعمدة رخامية جميلة، تتصدره قاعة فسيحة يدخل اليها بباب زين إطاره بالمرمر المزخرف· اتخذ نصف القاعة مكانا لمخبري الفيزياء والكيمياء والنصف الثاني لمكتبة الطلاب ومطالعتهم· وقام على جانبي الرواق غرفتان، الشرقية منهما خصصت للأساتذة، والغربية مقرا للمدير الثاني، ثم أصبحت للناظر العام· وكان هناك جهاز هاتف بدائي يلفت نظر الطلاب ويثير فضولهم، يصل المدير الأول، مقره في الطابق العلوي، بالمدير الثاني في الطابق الأرضي· ويعمل بطريقة (النفخ) فإذا أراد المدير الاتصال بمعاونه نزع سدادة تغلق أنبوب الهاتف ونفخ فيه، فيصدر صوت في غرفة المدير الثاني· لدى سماعة الصوت يرفع السدادة ويتلقى ما يريده المدير وبالعكس·
ومقابل هذا الإيوان الفخم، إلى جنوبي الباحة، قاعة واسعة أخرى اتخذت مسجدا· وتحلقت حول الباحة غرف واسعة جعلت صفوفا للتدريس· وقد يفوق عدد طلاب أحد الصفوف المائة طالب·
وقد زينت جميع الغرف والجدران المحيطة بالباحة بزخارف عربية على طريقة تنزيل الرخام والأحجار الملونة ورصفها بأشكال هندسية جميلة، وأحيطت أبواب الغرف بمرمر مزخرف، وفرشت الأرض بالرخام المفصص بأشكال هندسية· وقد أبدع الفنانون الدمشقيون بذلك كله إبداعا بارعا جعل الغرف والباحة آية في الجمال والتنسيق والذوق الرفيع·
وهناك سلمان يؤديان للطابق العلوي· الغربي خاصة بغرفة مدير المدرسة وإلى جانبها غرفة الكاتب والمحاسب، والشرقي يؤدي لدار داخلية ملحقة بالبناء، ذات فسحة سماوية تحيط بها عدة غرف، استعمل بعضها كصفوف، وغرفة لدروس الموسيقى، وغرفة للمعيدين، كما استخدمت غرفة علوية منه لصف البكالوريا الثانية· ويبدو أن هذه الدار كانت مخصصة لدى بناء الدار للنوم، بدليل وجود الحمام في الزاوية الشرقية الجنوبية من الباحة· ويتألف الحمام من ردهة مناسبة تعلوها قبة جميلة محلاة بعشرات القبيبات الزجاجية لإنارة الحمام· وفي الردهة ثلاثة أجران رخامية كبيرة·
وحول الفسحة المكان المخصص للماء الساخن ثم المغطس والمرحاض· وفي الشرق من الحمام الموقد (الأميم)· وكان جناح الحمام مغلقا في وجه الطلاب، لذا فمن أراد من الطلاب الاستحمام، سجل اسمه مساء الخميس لدى الأستاذ المناوب، ليسمح له صباح الجمعة الباكر بالذهاب لأحد حمامات السوق·
أما المنفذ الثاني في الباحة الرئيسة فقد استجد ليصل بناء مكتب عنبر بدار ليست من أصل بنائه، وقد ألحقت به لحاجة المكتب إلى مزيد من الصفوف· وللدار هذه باحة واسعة تتصدرها قاعة الرسم الرحبة· وإلى جانبها غرفة الصف السابع الشعبة الأولى، واتخذ من غرفتين في الطابق الأرضي صفان لدار المعلمين، وغرفة للمعيدين· ويقابلها ملعب الرياضة البدنية· كما جعلت الغرف العلوية للصف السابع الشعبة الثانية ولصفي الثامن والتاسع·
وكان أدنى صف في مكتب عنبر – التجهيز ودار المعلمين – هو صف السادس وينتهي بصف التخرج، الصف الحادي عشر· وعندما أقر نظام الباكالوريا، ألحقت صفوف السوادس بالمدرسة الابتدائية وبات أدنى صف هوالسابع والأعلى هو الثاني عشر للبكالوريا الثانية· وكان هذا النظام مطبقاً في المدرسة عام 1927 -1928 · كما بدئ بإحداث شعبتين للصف السابع والثامن لوفرة عدد الطلاب، شعبة لصغار السن والأخرى لكبارهم·
تاريخ مكتب عنبر:
مر مكتب عنبر بعدة عهود نتيجة تقلب السياسات على البلاد:
> مكتب عنبر في العهد العثماني:
كل من وقف أمام الباب الخارجي لمبنى مكتب عنبر، يشاهد لوحة خارجية حفر عليها: (مكتب إعدادية ملكية) ويعلوها الطغراء (الطرة) السلطانية للتفريق بين المدارس الملكية والمدارس العسكرية· الأولى خاصة بالمدنيين، والثانية هي التي تؤهل طلابها للالتحاق بمدارس الجيش العسكرية، كالمدرسة الابتدائية الرشدية العسكرية التي كان مقرها مدرسة البحصة· وكمدرسة (إعدادي عسكري) وكان مقرها جامع تنكز، والذي أصبح فيما بعد مقرا للمدرسة الحربية في العهد الفيصلي، ثم مقرا للمدرسة العسكرية في أول عهد الانتداب قبل أن ينقل إلى حمص·
ويشير الأستاذ مطيع المرابط إلى أنه لم يطلق على هذا المعهد رسميا اسم (مكتب عنبر) اطلاقا· لقد غلبت هذه التسمية العرفية الشعبية على الأسماء الرسمية التركية لصيغتها العربية السهلة· أو لأنها قد تكون سبقت التسمية الرسمية، تماما كما سمى العامة أحد شوارع دمشق بشارع أبي رمانة· وما أكثر من يجهل ان اسمه الرسمي هو شارع الجلاء· وهو الشارع الممتد بين قصر الضيافة القديم وساحة الروضة·
يقول العالم المؤرخ محمد كرد علي في (خطط الشام) ما خلاصته: مكتب عنبر من أهم مدارس الحكومة· ويقوم في دار خاصة تقع شرقي المدينة· وكانت لغني يهودي اسمه عنبر (قيل إن أصل الملكية لعائلة القوتلي)، فوقعت في ملك الحكومة العثمانية لدين كان لها على صاحبها، وجعلت منها مدرسة إعدادية عام 1886 ميلادية شرقية·
يقول المؤرخ نعمان قساطلي في كتابه (الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) المطبوع عام 1879م: ودار (يوسف افندي عنبر) موقعها في حي النكنة وكان الشروع في بنائها عام 1867م، واشتغل العملة بضع سنين، لم يكمل بناؤها بعد (وهذا دليل على أن المؤرخ كان معاصراً لبناء الدار) لأن أحوال بانيها قد تأخرت، وكانت نفقة الدار (43) ألف ليرة·
ولكن المؤرخ بقوله (لم يكمل بناؤها بعد) يطرح المشكلة التالية:
وهي: من أكمل بناء الدار إذن؟ وكيف انتقلت إلى ملك الحكومة العثمانية؟
وعلى ذلك يظل ما أورده محمد كرد علي هو الأقرب للحل السليم، وهو أن الحكومة العثمانية وضعت يدها على الدار لدين لها على يوسف عنبر، بعد أن تأخرت أحواله المالية· ويبقى التساؤل قائما هل الحكومة هي التي أكملت بناء الدار؟ هذه هو الأرجح·
ويروي المرابط أنه سمع من والده، وكان طالبا في هذه الإعدادية، أن صفوفها تنتهي بالصف التاسع فقط، وأن أكثر طلابها كانوا عربا من أبناء دمشق، وأن أكثر من أعدمهم جمال باشا السفاح، فيما بعد، كانوا من خريجي هذه الإعدادية·
وعقب انتصار جيش محمد على باشا والي مصر بين سنتي 1830-1835 على جيوش الدولة العثمانية، وبعد أن تبين للسلطنة أن العلم على الطريقة الحديثة سبب تقدم ونجاح الجيش المصري، أرادت أن تدخل التعليم الحديث إلى مدارسها، ولاسيما بعد ان كثرت المدارس التبشيرية، فأحدثت في دمشق عدة مدارس منها (المكتب الرشدي) في جامع يلبغاو والإعدادية العسكرية في جامع تنكز، ومكتب الصنائع في جامع البطيخ· ثم أكملت صفوف مكتب عنبر حتى الصف الحادي عشر فأصبح ثانوية كاملة، وعندها سمي بــ (سلطاني مكتبي) أي المدرسة السلطانية· ولكن لم تبدل اللوحة الرخامية على مدخل البناء·
وإذا كان لهذه المدرسة السلطانية الصبغة التركية، فقد أحدثت مدرسة ذات صبغة عربية هي المدرسة السلطانية الثانية وكان مقرها في (ستي زيتونة)·
> مكتب عنبر في العهد التركي:
وعندما تسلم زعماء الاتحاد والترقي الحكم في استانبول، بدأوا في تنفيذ سياسة التتريك، حيث غدت اللغة التركية اللغة الرسمية في جميع دوائر الدولة وفي الجيش وفي المدرسة الحكومية، في جميع الولايات العربية، وفي طليعته ما شملته، مدرسة (سلطاني مكتبي) أي مكتب عنبر، حيث جعل جهاز الإدارة والتدريس بأجمعه من الأتراك·
ويقول المرحوم فخري البارودي في مذكراته ما خلاصته: >كان مكتب عنبر المدرسة الإعدادية الوحيدة في دمشق يومئذ، يتراوح عدد طلابها بين الخمسمئة والستمئة، وكان الطلاب النهاريون يتعلمون مجاناً، والداخليون يدفعون أجرة مقابل النوم والطعام· وكانت تدرس فيه العلوم الآتية: القرآن الكريم والعلوم الدينية، الفقه، اللغةالعربية، وترجمة اللغة التركية، اللغة الفارسية، علم الثروة (الاقتصاد)، وعلم الفلك والجغرافية العامة، وجغرافية الولايات العثمانية، تاريخ الدولة العثمانية، الحساب والجبر، الزراعة، الرسم، حسن الخط، الكيمياء والفيزياء والميكانيك، أصول مسك الدفتر، طبقات الأرض، النباتات والحيوانات···
ثم يقول البارودي وهكذا كانوا يدوخون رؤوس الطلبة بهذه العلوم وكان مدير المدرسة وأكثر معلميها من الأتراك، حتى معلم العربية كان من الأتراك، وممن تخرج من هذه المدرسة المغفور لهم: شكري القوتلي وسعيد الغزي وسعيد حيدر وفوزي الغزي ومظهر رسلان ووصفي رسلان والدكتور صلاح قنباز وأسعد خورشيد وفؤاد الساطي وحسن فرحات ونسيب البكري·
وكان بالجهةالجنوبية الشرقية من الباحة الخارجية دورات المياه، وكان يتجمع أمامها خلال الفرص المدخنون من الطلاب، وكانوا يطلقون على هذا المكان اسم (محششة خانة) وكان يقف في مدخل الردهة أحدهم لينذر الباقين إذا ما قدم أحد الأساتذة·
وروى الأستاذ ظافر القاسمي في كتابة مكتب عنبر ما خلاصته: أن مدير المكتب عام 1912م شتم أحد الطلاب العرب بقوله: >بيس آراب< أي عربي قذر· فأثارت هذه العبارة النخوة في رؤوس الطلاب، وقامت على أثرها فئة منهم بوضع خطة محكمة توازعوا فيما بينهم أدوارها، فأغلق أحدهم الباب الخارجي بعد دخول المدير ثم أسرع وأغلق عليه باب غرفته واحتفظ بالمفتاح، وقطع الثاني أسلاك الهاتف من السطح، وسجن آخرون المبصرين الأتراك في غرفة نائية، ثم أثار الباقون طلاب المكتب الذين لم يلبثوا أن ناصروا زملاءهم، وأخذ يصيح الجميع بتسقيط المدير، وعلى الأثر حضر الى المدرسة الوالي عارف المارديني، وكان عربيا، ولما تأكد له صحة حادث الشتيمة، عزل المدير وتم طرده بازدراء، فذهب إلى وزارة الداخلية في استنبول متهما الوالي بأنه كان المحرك الطلبة الذين خططوا لهذه (الانتفاضة) التي تعتبر أول (انتفاضة) في مكتب عنبر ضد الأتراك·
> مكتب عنبر في العهد الفيصلي:
بعد أن نعمت البلاد، عقب الحرب العالمية الأولى بالاستقلال في عهد المغفور له الملك فيصل بن الشريف حسين، وبجلاء السلطة التركية وجيشها عن البلاد، وعودة الوجه العربي إليها، وبتحررها من السياسة الطور انية التركية التي حاول فرضها على جميع الولايات العربية زعماء الاتحاد والترقي في حزب تركيا الفتاة، كان مكتب عنبر في طليعة ما تعرب من المؤسسات، بفضل الأساتذة العرب الذين اختيروا للتدريس فيه، وكانوا النخبة المختارة من علماء هذا البلد، وفي طليعتهم الأساتذة الأجلاء: عبدالرحمن سلام ومحمد الداودي وعبدالقادر المبارك وسليم الجندي وجودة الهاشمي ومحمد علي الجزائري ومحمد البزم ورشيد بقدونس ومسلم عناية وكامل نصري وشكري الشربجي وأبو الخير القواس وحسن يحيى الصبان وغيرهم ممن كان لهم الباع الطويلة في إزالة كل أثر للتركية، وفي إزكاء الروح العربية وبعث التراث العربي في صفوف طلاب مكتب عنبر··
وقد أطلق على المكتب اسم (مدرسة التجهيز ودار المعلمين) بدلا من سلطاني مكتبي·
> مكتب عنبر في عهد الانتداب الفرنسي:
حُمّ القضاء، إذ بعد أن تلقت سورية الفتية الطعنة الغادرة في معركة ميسلون، دخل الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال (غورو) مدينة دمشق، وران الحزن على البلاد من أدناها إلى أقصاها· فكان كل بيت ينوح كالثكلى، وكان الناس سكارى وما هم بسكارى من هول الفاجعة·
عندما وقعت الواقعة، كان طلاب مكتب عنبر في عطلتهم الصيفية، وعندما انصرفت العطلة واستؤنفت الدراسة كان حادث ميسلون المفجع وانهيار الدولة الفتية واحتلال البلاد من المستعمر الفرنسي، ونكوص الحلفاء عن وعودهم باستقلال البلاد العربية التي قطعوها لشريف مكة المرحوم الشريف حسين، الحديث الطاغي على الكبير والصغير في المكتب وخارجه·
لم يعقد طلاب مكتب عنبر مع السلطة الفرنسية أية هدنة مذ وطئ الجيش الفرنسي أرض الوطن، إلى أن رحل يوم الجلاء، جارا وراءه أذيال الخزي والعار وسبة التاريخ فقد كانوا يشنون حربا مستمرة عليه، ولم يدخروا فرصة إلا انتهزوها لمقاومته ومنا جزته·
كان أول مدير عربي لمكتب عنبر بعد الحرب العالمية الأولى هو الضابط المتقاعد شريف رمو ثم تلاه مصطفى تمر فجودة الهاشمي فمحمد علي الجزائري فعبد الحميد الحراكي فشكري الشربجي فجودة الهاشمي ثانية·
وفي عام 1935 رأت وزارة المعارف انتقاء مجموعة مختارة من المعلمين الموقتين الذين كانوا عينوا اعتمادا على شهادة البكالوريا الثانية، لتأهيلهم كمعلمين اختصاصين، وذلك بتدريسهم أصول التربية والتعليم وعلم النفس التطبيقي وغيرهما من العلوم النظرية والعملية، فأحدثت صفا سمته (صف المعلمين العالي) وجعلت مقره في مبنى مكتب عنبر (التجهيز)· وعين مديرا له الدكتور خالد شاتيلا·
وفي العام نفسه 1935، أنجز بناء مدرسة التجهيز الجديد، التي أصبح اسمها فيما بعد ثانوية جودة الهاشمي· وقد استغلت الحكومة المبنى عندما أنجز بناؤه، فأقامت فيه عام 1936 معرضا للصناعات والمنتجات السورية وغير السورية، ويعتبر أول معرض في سورية·
وفي العام نفسه، وكان المرحوم الشيخ تاج الدين الحسني رئيسا للحكومة، انتشرت شائعة مفادها أن رئيس الحكومة قرر جعل المبنى الجديد مقرا للحكومة وكان مقر الحكومة ومعظم وزارات الدولة في مبنى السرايا المتخذ حاليا مقراً لوزارة الداخلية· ولا دليل على أن الشائعة كانت صحيحة، ويغلب الظن أنها كانت ضربا من ضروب مقاومة السلطة· وقد لاقت أذنا صاغية لأن مبنى السرايا كان يضيق بمن فيه من الوزارات والإدارات التي حشرت فيه حشرا· ولما وصل الخبر إلى طلاب مكتب عنبر – التجهيز – أضربوا إضرابا قويا وصمموا على عدم الرجوع عن إضرابهم إلا إذا لبي طلبهم في نقل المدرسة من مبنى عنبر الحالي إلى المبنى الجديد، والإقلاع عن فكرة استعمالة كمقر للحكومة·
ولما كان المرحوم تاج يلقي آنذاك معارضة قوية من معظم طبقات الشعب، فقد رأى من مصلحته ألا يعارض تيار الطلاب وأن يحاول إرضاءهم لجرهم إلى صفه أو الهروب من شرهم فقرر الإسراع بالموافقة على نقل المدرسة إلى المبنى الجديد·
وتم النقل فعلا خلال العام الدراسي 1936- 1937 · وكم حمل الطلاب معهم من مكتب عنبر آلاما وودعوا فيه أحلاما وآمالا!
> مكتب عنبر في عهد الاستقلال:
اتخذ مكتب عنبر، لعدة سنوات فيما بعد، مقرا لمعهد التجهيز والفنون النسوية، وأخيرا قررت الحكومة الاستجابة لطلب وزارة الثقافة الحكيم بجعل البناء مقرا لقصر الثقافة العربية· وتحقيقا لذلك قامت الوزارة بمساعدة محافظة دمشق بإجراء إصلاحات وترميمات واسعة عليه، أعادت له رونقه وبهاءه فجاء بفخامته متعة للناظرين حيث تم:
أ- إلغاء المطبخ ومطعم الطلاب الليلين الذين كانوا في الباحة بأن جعل مقرا لمكتبة القصر·
ب- تحويل القاعة الكبرى، قاعة دروس الكيمياء والفيزياء، إلى قاعة محاضرات فخمة وجعل مدخلها من الباحة الأولى·
ج- إقامة (تعريشة) خشبية ضخمة في الباحة الأولى، لتحمل الكثير من شجرات الكرمة وشجيرات الزينة، لم تكن في السابق، بل كان يحيط بالباحة أروقة معدنية تستند على أعمدة حديدية·
د- رفع الحاجز الخشبي الذي كان يفصل مدخل المدرسة وغرفة الحارس عن الباحةل الأولى·
هـ- إعادة ترميم الحمام وفتحه للزوار بعد أن كان مغلقا في السابق·
و- فصل الدار التي كانت ألحقت بالمكتب (وكانت معدة لصفوف السوابع والثوامن ودار المعلمين وصالة للرسم وملعباً للرياضة) وتسليمها لجمعيات خيرية وثقافية·
وكنا نتمنى لو حافظت الجهات المعنية المتعاقبة على موجودات المكتب ومتمماته، التي أشرنا إلى بعضها: جهاز الإطفاء وأدواته، شجرات الميس الكبيرة، جهاز الهاتف البدائي، لتكتمل صورته الأساسية تستنطق التاريخ·· ولعله من المفيد، في الإطار العام، إحداث متحف لإبداعات الفنانين الدمشقيين في مجال الحفر والزخرفة والنقش وسواها·· يبرز، من خلالها، التطور الإبداعي والتقاني الذي أصابها على مدى العصور·
لابد من الإشادة بالدور الذي تلعبه محافظة دمشق، عبر لجنته الثقافية، بتفعيل المكتب، وأمثاله، وبعث الحياة فيه بإقامة الأنشطة والفعاليات التي تصل الماضي العريق بالحاضر المتألق··
جاء في مقدمة الأستاذ علي الطنطاوي بكتابه مكتب عنبر (صور وذكريات من حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية) لمؤلفه ظافر القاسمي قوله: لقد عاش (مكتب عنبر) من أواخر القرن الذي مضى، إلى أوائل الحرب الثانية، وهو يضم جمهرة المتعلمين في هذا البلد كان هو الثانوية الرسمية المفردة في دمشق، فكان يمر عليه كل شاب في دمشق، يدخل إليه ثم يخرج منه فيعلو في مدارج الحياة، أو يغوص في أوحالها، حتى ما تكاد تجد اليوم كبيرا في دمشق، ولا صاحب اسم، ولا ذا منزلة، إلا وقد جاز يوما بـ (مكتب عنبر) ويصف لنا القاسمي على مدى خمس صفحات من كتابه الطريق الى مكتب عنبر، راسما – من خلال ذلك – لوحة رائعة لدمشق وأحيائها آنئذ، ثم ينتقل – بعد ذلك – ليحدثنا عن أيام المكتب الحلوة مترجما لعدد من أساتذته ومشايخه: صالح التونسي، شكري الشربجي، محمد الداودي، عبدالقادر المبارك، سليم الجندي، محمد البزم، جودة الهاشمي، محمد علي الجزائري، جميل صليبا، جودة الكيال، يحيى الشماع، عاصم البخاري، كامل نصري، عبدالوهاب أبوالسعود، ممدوح الشريف، هاشم الفصيح، عزة الرفاعي، رشدي بركات، كامل عياد، حسن الصبان وغيرهم··· ويفرد فصلا ليروي ذكريات العطلة الصيفية >والسيارين< التي كان يقوم بها والطلاب، وأحيانا الأساتذة، إلى الربوة ووادي بردى، وسهراتهم في المقتبس وصندوق السمع· ولا يفوت المؤلف أن يؤرخ للحياة السياسية في تلك الفترة مفصلا القول عن جمعية النهضة العربية وأثرها وتمثيلها لرواية طارق بن زياد في الصوفانية، وإبراز دور الأساتذة في إذكاء الروح الوطنية حيال الافرنسيين متحدثا عن (رشيد بقدونس) الذي كان بطلا من أبطال الثورة الفكرية وجاهر بتعليم الوطنية للطلاب في قاعات الدرس· وإحياء ذكرى الثامن من آذار (1921) والمظاهرات التي كان ينظمها طلاب المكتب في مقارعة الاحتلال الفرنسي·
مشيراً- في ثنايا ذلك – إلى مظاهرة نسوية عرفتها دمشق في السادس من نيسان 1922، وتلك التي انطلقت تعرب عن عدائها لزيارة بلفور لدمشق عام 1925 ·

المصادر والمراجع:
> خطط الشام/ محمد كرد علي
> مكتب عنبر/ ظافر القاسمي
> النور والنار في مكتب عنبر/ مطيع المرابط
> الروضة الغناء في دمشق الفيحاء/ نعمان قساطلي
> مذكرات فخري البارودي
> ذكريات علي الطنطاوي

لا يتوفر وصف للصورة.
لا يتوفر وصف للصورة.لا يتوفر وصف للصورة.لا يتوفر وصف للصورة.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏طاولة‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

مكتب عنبر

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.