يعبّر اللون الأحمر في فيلم "عصر البراءة" عن الحب والعنف في آن واحد (مواقع التواصل) 

يعبّر اللون الأحمر في فيلم “عصر البراءة” عن الحب والعنف في آن واحد (مواقع التواصل)

رحمة الحداد

الأحمر هو أكثر الألوان أساسية، أول لون سيطر الإنسان عليه وأتقن استخدامه، صنعه، وأعاد إنتاجه، وحلله إلى درجات متنوعة ومختلفة، أولا في الرسم ثم الصباغة، وذلك أعطاه سيادة على بقية الألوان منذ آلاف السنين.

يملك اللون الأحمر تاريخا طويلا وغنيا، فقد استخدمه المصريون القدماء في رسومهم، وزين به الرومان جدرانهم، بل يمكن إرجاع اكتشافه لعصور ما قبل التاريخ ورسوم الكهوف، وبسبب طبيعة اللون القوية الساخنة كان يستخدم لتحديد الأحداث المهمة.

لكننا الآن نستقبل الألوان في الفنون بشكل مختلف، نحلل معانيها وتستدعي داخلنا حالات محددة لا نستطيع تفسيرها أحيانا، فتارة تكون مشاعر شخصية تجاه ذكرياتنا الخاصة تجاه ذلك اللون أو غيره، وتارة تكون مشاعر يثيرها تاريخ من استقبال الألوان من قبل العقل الجمعي بسبب تحليلات الفلاسفة والدارسين القدماء، فاللون الأحمر بالنسبة لنا له بعض الدلالات المباشرة مثل أنه لون الدم فبالتالي رؤيته تستدعي العنف والموت، لكنه أيضا لون يرتبط بالعاطفة والحب، ونستخدمه كعلامة ودلالة مباشرة، فنقدم لمحبوبنا وردة حمراء.

تعتبر صناعة الأفلام فنا بصريا امتداد لبقية الفنون البصرية من رسم وتصوير، ولطالما استخدمت تلك الفنون الألوان المختلفة للرمز لرسائل بصرية تصل للمشاهد بشكل واع حينا وغير واع حينا آخر، وصناع الأفلام على دراية بتلك التأثيرات الخاصة بنظريات اللون على المتلقي، فإذا اعتبرنا أن أحد دلالات اللون الأحمر هو التعبير عن الحب، فكيف صورت الأفلام ذلك؟

لا يمكن الجزم بمعان ثابتة وصارمة لكل لون من الألوان، وهنا يأتي دور الفن في إرساء قواعده الخاصة ودمجها بالنظريات المتعارف عليها، فيمكن لمخرج ما بالاشتراك مع مصمم المناظر ومدير التصوير أن يتعامل مع لون ما كوحدة تشكيلية ويسقط عليها معناه وتفسيره ويجعلها جزءا من عالم فيلمه.

في عام 2005، صدر كتاب للمؤلفة الإيطالية باتي بيلانتوني بعنوان “إذا كان بنفسجيا أحدهم سوف يموت”، وفيه تقسم المؤلفة الألوان إلى مجموعات وتحلل استخدامها في الأفلام والمعاني المختلفة المرادة بها، وفي جزء اللون الأحمر تعطي أمثلة لعدة أفلام مفرقة إياها بحسب المعنى.

فهناك أحمر الغضب وهناك أحمر الشهوة وأحمر الحب وهكذا، وتضع فيلم شكسبير محبا كمثال لاستخدام اللون الأحمر للدلالة على العاطفة المتقدة، ففيه يستخدم اللون الأحمر في مرات قليلة لكي يعاكس الألوان المحايدة للبيئة الإنجليزية القديمة، وفي تلك المرات المحددة يستطيع المحبان أن يتقابلا ويشعرا بذلك الحب الممنوع تجاه أحدهما الآخر.

العشق الممنوع في أفلام الصيني وونج كار واي
في عام 1810 نشر العالم والشاعر الألماني غوته دراسته النظرية عن الألوان، وناقش فيها طبيعة ووظيفة وتأثير الألوان على المتلقي, يعتبر غوته واحدا من أوائل المنظرين لتأثير اللون النفسي، وفي معرض حديثه عن اللون الأحمر يقول “يملك الأحمر تأثيرا غريبا بطبيعته، فهو يعطي إحساسا بالثقل والكرامة لكنه أيضا يستدعي شعورا بالجمال والجاذبية”، وتعتبر نظرية غوته عن اللون واحدة من أكثر النظريات استخداما.

يملك الأحمر خاصيتين تجعلانه يرتبط في الأذهان بالحب والعاطفة، هما أنه واحد من أدفأ الألوان بالإضافة لوضوحه الشديد وظهوره بين الألوان الأخرى، فهو يتماثل مع الحب في الدفء وفي السطوع والسيطرة.

يعي المخرج الصيني وونج كار واي تلك الخواص اللونية المميزة، وهو المخرج المعروف باهتمامه الشديد باستخدام الألوان بطرق تستدعي المشاعر والذكريات. ففي فيلمه “في مزاج جيد للحب” ينقع كار واي شخصياته وأماكنه في بحر من اللون الأحمر الساخن، نراه في الستائر والإضاءة، وفي ألوان الأثواب التي ترتديها البطلة، إذ يبحث البطلان عن الحب ويهربان منه في آن لكنه يجدهما في النهاية ويحوطهما بدفئه رغم رفضهما له.

الحب والعنف عند مارتن سكورسيزي
في عام 1993 صدر فيلم “عصر البراءة” للمخرج الشهير مارتن سكورسيزي، وهو فيلم رومانسي تراجيدي على عكس أفلامه الشهيرة التي تدور في عوالم العصابات الأميركية العنيفة. يمكن رؤية كيف يوظف مخرج مثل سكورسيزي اللون الأحمر في أفلامه العنيفة التي تحكي عن الحياة الخفية في أميركا وفيلمه الذي يقع في القرن التاسع عشر في أروقة القصور وقاعات الأوبرا والرقص.

يقول سكورسيزي إنه متأثر باستخدام الفنان الإيطالي الشهير كارفاجيو للون الأحمر، والذي عادة ما كان يوظفه في مشاهد عنيفة درامية لكنها تتسم بشاعرية من نوع خاص، لكن عندما ننظر إلى الأحمر في عصر البراءة فتوجد طريقتان لتحليله: أولهما أنه ملائم تاريخيا للفترة التي يصورها، في قاعات الأوبرا ذات الستائر والأسقف الشاهقة الحمراء، وفي الملابس الفارهة المزينة بالساتان الأحمر.

لكن الدقة التاريخية يتم دمجها مع التقنيات السردية ويتضافر تأثير ذلك اللون بصريا ونفسيا، يحكي الفيلم عن فترة يجب أن تتعامل فيها الطبقات العليا بتحفظ في العلاقات الاجتماعية، لكن أحد النبلاء يقع في حب فتاة مطلقة يتجاذب الجميع عنها أطراف الحديث، فتصبح محلات لقائهما منتقعة بالأحمر في معظم المرات، تارة يرمز لمشاعرهما المكبوتة والأشياء المسكوت عنها، وفي مشهد وحيد يستطيعان فيه التنفيس عن تلك المشاعر يغمرهما الأحمر بدفئه بين الإحساس بالتحقق والندم وحتمية فشل علاقتهما، فيصبح لون الحب والعنف في آن، لذلك ورغم خلوه من الأسلحة والقتل والعصابات، وصف المخرج فيلمه بأنه الأكثر عنفا على الإطلاق. 

المصدر : الجزيرة

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.