ديفد هوكني.. تعرف على الفنان التشكيلي الأعلى سعرا على قيد الحياة

ديفد هوكني.. تعرف على الفنان التشكيلي الأعلى سعرا على قيد الحياة

رحمة حداد – محرر فن

هل تتفكّر حين تنظر إلى سقف كنيسة السيستين الذي رسمه مايكلانجلو وخلّده إلى الأبد فيما إذا كان تكلف الكثير من الأموال؟ أو عن السبب الذي جعله يبذل من وقته وروحه لخلق ذلك الإبداع؟ هل كان مجانيا أو مجرد حب في الفن؟ قديما، في العصور الوسطى وعصر النهضة وغيره من العصور التي بقي لنا منها أعمالا فنية، اعتاد الفنانون أن ينتجوا قطعهم الفنية بناء على طلب من أحد الرعاة أو القساوسة أو أفراد العائلات المالكة والأغنياء من القوم، تلك كانت طريقة التكسب من الفن في أكثر العصور تأثيرا، يحدث الأمر الآن بشكل معاكس، يبدع الفنان أولا ثم تُقيّم أعماله ماديا، لا يزال هناك بالطبع مفهوم طلب الصورة الشخصية من الفنان، لكن مع خروج الفن من عباءة الدين والدولة ودخوله في التعقيدات الاقتصادية التي تميز العالم الحديث، أصبحت هناك طرق أخرى للتقييم ومزادات مستمرة لتقييم الأعمال الفنية، وبسبب نتائجها يعاد تقييم العمل فنيا وليس فقط ماديا وتزداد شهرته وشهرة صانعه وتأثيره الثقافي.

منذ أسابيع قديمة تم إعلان الفنان ديفد هوكني كأغلى الفنانين سعرا على قيد الحياة بعد بيع لوحته “صورة شخصية لفنان” في مزاد كريستي، بسعر 80 مليون دولار، حمل اللقب قبله فنان معاصر آخر وهو جيف كون بعد بيع منحوتته “البالون البرتقالي”، لكن ما قيمة تلك اللوحة وقيمة ديفد هوكني كفنان بشكل منفرد وفي سياق الحركات الفنية التي انبثق منها؟

             

“لقد علمت بحدسي أني سأحبها، حينما حلّقت بالطائرة فوق المنازل وأحواض السباحة وضوء الشمس وكل شيء، لقد كنت متحمسا للوصول هناك أكثر من حماسي لأي مدينة”.

فُتِن الفنان الشاب البريطاني بأميركا عندما زار لوس أنجلوس لأول مرة ربما بسبب تأثير حالة الأفلام الهوليوودية، ولكن بشكل خاص بسبب المباني الحداثية، وخاصة “بيت بايلي” من تصميم بيير كوينج، أسطحه المبسطة وواجهاته المسطحة ألهمت ديفد هوكني كثيرا في أسلوبه الفني الذي يدمج بين الواقعية والاختزال، تلك السمات التبسيطية التي يسهل التقاطها في العمارة الحديثة بالإضافة إلى انتشار أحواض السباحة في لوس أنجلوس، جعلت هوكني يتعرف على مفردة سيضيفها للعديد من لوحاته، أصبح حوض السباحة الشفاف المتلألئ حينا أو الثقيل الأزرق حينا آخر ثيمة متكررة يتميز بها هوكني في فترة من حياته.(1)

منزل بايلي

تُعتبر لوحة “صورة شخصية لفنان” تكملة لتقليد اتبعه هوكني لبعض الوقت في رسم الشخصيات المزدوجة وحمامات السباحة، سواء اقترن العنصران أو لا، وعلى الرغم من أن تلك اللوحة هي السبب في المكانة المادية المستحدثة له فإن أشهر لوحاته لا تحوي صورة شخصية فردية أو مزدوجة، تحوي فقط حوض السباحة الذي لطالما ألهمه، تُصوِّر لوحة “رشة أكبر” مشهدا صامتا للغاية، ثابتا، مسطحا ذا ألوان نقية تضيف لكل الاختزال الذي تم اختياره، كأنه لا توجد ضربة فرشاة زائدة عن الحد، لا لون مختلط أكثر من اللازم، كل شيء يوجد حيث يجب أن يوجد فيما عدا نقطة واحدة، فوضوية ومتحركة تنفي كل ما سبق وصفه، تلك الرشة المائية التي يخلفها قفز أحدهم، لا نعلم من هو وهل هو شخص أم عنصر ما سقط فجعل سكون الماء وسكون ذلك العالم المثالي يضطرب.

 

على الرغم من بساطتها فإنها تحوي الكثير من الغموض، لكن بجانب هذا فإنها مثال على فكرة إيقاف الوقت، إيقاف لحظة تناثر قطرات الماء وسط منظر من أهدأ ما يكون، العالم المثالي الذي وجده هوكني في أميركا أو فكرته عنها.

تكررت ثيمة حوض السباحة في لوحته حديثة الشهرة “صورة شخصية لفنان”، لكن هذه المرة بدلا من التكهّن باللحظة التي حدثت للتو مثل رشة أكبر، نحن أمام ترقب لحظة على وشك الحدوث، أو ربما لحظة ساكنة لن يتغير فيها شيء، يصعب القطع بذلك وهو ما يجعل لوحات هوكني مثيرة للاهتمام، التقاطه للحظات هو أشبه بما تفعله الكاميرا، لن نعلم ماذا حدث قبلها أو بعدها، تقدم لنا اللحظة نفسها بآنيتها لننظر إليها ونسقط تصوراتنا عليها.(2)

“بالنسبة لي الرسم هو صنع الصورة، أنا لا أهتم برسم لا يجسد العالم المرئي، أعني، ربما يكون ذلك فنا جيدا بحق لكنه فقط لا يستهويني”.

 

ظهر هوكني في بيئة فنية تتجنب الواقعية وتتجه نحو التجريد، لكنه قرر الالتزام بقدر من التجسيد الواقعي الممتزج بقيمة توضيحية أشبه بالرسوم الكرتونية، فأنتج أسلوبا فنيا أثّر على الكثيرين ووجد لنفسه مكانا وسط عالم يتجدد وينبذ أي مفهوم كلاسيكي عن الفن والتصوير، تطور وتغير أسلوب هوكني عدة مرات على مدار مسيرته الطويلة المستمرة حتى الآن، لم يكن دوما ذلك الرسام الدقيق ذو الأسطح الملونة الهندسية، بل مر بمراحل أكثر عشوائية وتجريدا مثل معاصريه، اختبر اتجاهات مثل البوب آرت، وهي حركة فنية بزغت في الخمسينيات والستينيات، تحدّت مفاهيم وعناصر الفن التقليدية باستخدام عناصر من الأغراض اليومية العادية أو رسمها ونحتها، فيمكن اعتبار علبة من الحساء عنصرا فنيا مهما، أذابت تلك الحركة الفارق بين الفن والإعلانات، ووقعت في منطقة بين احتضان الثقافة الاستهلاكية وانتقادها في ذات الوقت.

ما أخذه هوكني حقا من حركة البوب آرت هو جماليتها المجردة، فبعدما خاض تجارب تشبه تجارب رواد تلك الحركة، استقل بأسلوبه حاملا منها الألوان الزاهية الفاقعة الإعلانية، التي تُميّز المجلات الهزلية بالإضافة إلى بساطة التكوينات، لكن ما أضافه إليها كان إحساسا بالحميمية بعيدا عن المفاهيم السياسية أو الاقتصادية، يصور هوكني المقربين له على الدوام ويهتم بتصوير الناس عادة في أزواج في لوحاته، وعلى الرغم من احتضانه لفكرة التجسيد فإنه لا ينقل العالم كما هو، لذلك يسهل التعرف على لوحة هوكني عندما تراها بسبب أسلوبه المتميز في تصوير الناس والأماكن وكيفية بنائه للعلاقات بينهم.(3)

 

“أنا مقتنع تماما أن الرسم لن يختفي، لأنه لا يوجد ما يحل محله، الصورة الفوتوغرافية ليست جيدة كفاية، ليست حقيقية كفاية”

يجادل الكثيرون في فكرة موت الفنون التشكيلية بشكلها التقليدي من رسم ونحت وغيرها، استُخدمت تلك الفنون بمفاهيمها الكلاسيكية لتجسيد العالم، تخليد الإنسان والتعبير عن الذات لكن مع اختراع الفوتوغرافيا تشكك العالم في مدى أهمية تلك الفنون الآن، ألا تلتقط الكاميرا كل شيء ويبدو حقيقيا تماما؟ لا يرى ديفد هوكني صحة ذلك الافتراض على الرغم من حبه وتأثره بالفوتوغرافيا، يمكن حتى إرجاع تطور أسلوبه وذائقته لبداية اهتمامه بالفوتوغرافيا، جمع الإلهام لأعماله من الصور الملقاة القديمة والشخصية، بل إنه استعان بها لقدرتها على إيقاف الوقت لرسم تناثر المياه لحظة اهتزاز سطحها، ثم اشترى كاميرا وبدأ يلتقط الصور بنفسه، لكنه لم يهتم أبدا بتقليد عين الكاميرا ولهذا يرى أنه لا يمكن الاستغناء عن الرسم، العلاقة المباشرة بين ما تراه العين وتعكسه في المخ وتُترجمه اليد لا يمكن استبدالها بالفوتوغرافيا بالنسبة لهوكني وبالنسبة للكثير من الفنانين الذين عانوا ليقدموا أنفسهم كفنانين تجسيديين وسط موجات التجريد والفنون الأكثر تحررا من الرسم، الفنون شكّلت العالم المعاصر وناسبته، لكنها على كل حال لا تسلب مكانا لفنان يريد أن يلتقط لحظة تطاير المياه داخل حوض السباحة أو لحظة تأمل هادئة أمام نفس الحوض.(4)

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.