فيروز وفلسطين.. كيف تحول صوتها رمزا للنضال؟

فيروز وفلسطين.. كيف تحول صوتها رمزا للنضال؟

وسط العاصمة العراقيّة بغداد وقبل سقوطها، كانت سحر واحدة من الفتيات اللاتي رددن في الصباح واحدة من أغاني فيروز. يبدو المشهد كالتالي، طالبات إحدى المدارس الابتدائيّة على بُعد ألف كيلومتر من فلسطين ينشدون بصوت واحد صبيحة كلّ يوم: “أنا لا أنساكِ فلسطينُ/ ويشدّ يشدّ بيَ البعدُ/ أنا في أفيائك نسرينُ/ أنا زهر الشوك أنا الوردُ”، كانت تلك اللحظة الأولى التي أدركت فيها سحر معنى كلمة “فلسطين” بعيدا عن خطابات “الزعيم” وأخبار الإعلام الرسمي وجلسات الكبار. شعرت سحر لأوّل مرّة في حياتها بالحنين لمكان لم تزُره ولو لمرّة واحدة من قبل.(1)

دعت فيروز في أُغنيتها تلك لإشهار سيف في وجه المعتدي وقرع أجراس العودة إلى البلاد، وهي الأُغنية التي صنعت حالة من السجال الشعري بدأ مع الشاعر السوري نزار قباني الذي قال: “عفوا فيروز ومعذرة/ أجراس العودة لن تُقرع/ خازوق دُقَّ بأسفلنا/ من شرم الشيخ إلى سعسع”، ليتبعه تميم البرغوثي بردّ على كليهما: “عفوا فيروزٌ ونزارٌ/ فالحالُ الآن هو الأفظع/ إنْ كان زمانكما بَشِعٌ/ فزمانُ زعامتنا أبشع”. كانت الرومانسيّة التي خلقتها الأغنية حول فلسطين والعودة وردّ الحق لأصحابه متناقضة مع واقع فلسطين ومحيطها العربي، وهو ما دفع هؤلاء الشعراء للكلام بشكل يائس، ولكنه أكثر واقعية ربما في ظل تواري القضيّة الفلسطينية خلف قضايا عربية باتت أكثر حضورا.(2)

 

 

لم تكن “سيفٌ فليُشهر” سوى حلقة في سلسلة من التعاون الرحباني الفيروزي الذي أخلص لفلسطين كما لم يفعل غيرهم من الفنانين العرب، ففي واحدة من مقالاته كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “قدم الرحابنة فنيا لفلسطين ما لم يقدمه الفلسطينيون أنفسهم. أشهر الفلسطيني هويته الجماليّة بالأغنية الرحبانيّة العربيّة حتى صارت هي إطار قلوبنا المرجعي، هي الوطن المُستعاد وحافز السير على طريق القوافل الطويل”، وبهذا كان درويش يعترف بعمق العلاقة التي جمعت بين فيروز والأخوين رحباني من جهة وفلسطين وأهلها من جهة أُخرى. أغانٍ مثل “سيفٌ فليُشهر” و”القدس العتيقة” و”راجعون” و”بيسان” وغيرها طُبعت في وجدان الشعوب العربية من مشرقها إلى مغربها ونُحتت كلماتها في ذاكرتهم وصارت ألحانُها للمُشتاقينَ صلوات.(3)

بدأت تلك العلاقة بالتشكّل عندما قررت فيروز زيارة فلسطين مطلع الستينيات، فحضرت برفقة سبعين من أعضاء فرقتها الموسيقيّة مع مرافقين من الأمن العام اللبناني، ثمّ نزلت مباشرة في البلدة القديمة للقدس ومشت في أزقتها وزارت معالمها التاريخية، ثم من على ظهر فندق الهوسبيس التقطت صورة خُلدت للأبد تحت عنوان “فيروز تزور الأماكن المقدسة في القدس”، ثم لم يمر أكثر من عام قبل أن تشدو فيروز بأغنيتها “القدس العتيقة” والتي قيل إن مطلعها كان مستوحى من قصّة حقيقيّة جرت بين فيروز وواحدة من فلسطينيات القدس التي أهدتها “مزهريّة”، فتكلمت أرزة لبنان بلهجة عاميّة تُصر من خلالها على حميمية الموقف وصدق مشاعرها فيه: “مريت بالشوارع.. شوارع القدس العتيقة/ قدّام الدكاكين.. البقيت من فلسطين/ حكينا سوى الخبرية.. وعطيوني مزهريّة/ قالولي هيدي هديّة.. من الناس الناطرين”.(4، 5)

 

“عيوننا إليك ترحلُ كلّ يوم”

لم تُغنِ فيروز للقدس من منطق عروبتها ولا رمزيتها الكبرى ولا مكانتها التاريخية، ولكنها فضّلت أن تتكلم عن القدس بالطريقة التي رأتها بها، القدس بتفاصيل يومها العادي، ونجحت في ترجمة ما شاهدته إلى كلمات وألحان خلّدها الزمان، فغنت عن الشوارع والأبواب والشبابيك والبيوت، وانطلقت من كل هذه الأمور البسيطة في تكوينها إلى دعوة كبرى لإيقاظ الضمير والتحرّك نحو فلسطين.

في أُغنية “زهرة المدائن” كانت فيروز قد سجلت حضورها في تاريخ المدينة المعاصر أيضا عندما قالت بثقة استمدتها من كلامها مع أبناء المدينة المسلوبة قبل أكثر من خمسين عاما: “لن يُقفل بابُ مدينتنا فأنا ذاهبة لأُصلّي/ سأدقّ على الأبواب وسأفتحها الأبواب”، وكأنها تتجسد على هيئة مفتاح سحري عتيق لا يقف في طريقه حاجز ولا مانع، وهي الجملة التي حضرت في أذهان وشعارات المقدسيين المنتفضين صيف عام 2017 فيما عُرف بحراك رفض البوابات الإلكترونية حين كسر المعتصمون إرادة الاحتلال وحكومته وقاطعوا دخول المسجد ووقفوا على أبوابه بعد أن قررت حكومة الاحتلال بسط المزيد من السيطرة الأمنيّة على مداخل وخارج المسجد الأقصى.

 

سيطر على فيروز همّ فلسطيني اتضحت معه معالم القضايا التي تناولتها، والتي ركزت على القدس كمدينة مقدسة ذات خصوصية عربية بنفس قدر تركيزها على حقّ عودة اللاجئين لمدنهم وقراهم التي هُجّروا منها جراء النكبة التي حلت ببلادهم عام 1948. غنّت جارة القمر لقرية فلسطينية تُدعى بيسان؛ واحدة من تلك الضيعات التي لم تعد كما كانت بعد النكبة. تحدثت بلسان حال أولئك الذين أُخرجوا منها فنادت على المجهول “خذوني إلى بيسان/ خذوني إلى الظهيرات إلى غفوة عند بابي/ خذوني مع الحساسين إلى الظلال التي تبكي”. كيف عرفت فيروز أن ظلال بيسان تبكي من دونها وهي لم تزُرها ولو لمرّة في حياتها، كيف استطاعت فيروز أن تعيش إحساس فقدان شيء ثمين بالنسبة إليها دون أن تفقده حقا.

العودة مركب اسمه فيروز

في أغنية “سنرجع يوما” عادت فيروز لتؤكد أنها لا تقلّ فلسطينية عن أيّ من أولئك الذين هاجروا فجاوروها في بيروت وفي مخيمات اللجوء المحيطة لتؤكد من جديد على عودتها، وكأنها ضاقت ذرعا بمكانها الذي لا يفصله عن فلسطين سوى ساعات ثلاث، تترسخ ثقتها أكثر عندما تقول: “سنرجع يوما إلى حينا ونغرق في دافئات المنى/ سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا”، وهي أغنية كتبها الشاعر الفلسطيني ابن مدينة غزّة هارون هاشم الرشيد الملقب بشاعر العودة والمخيّم.(6)

يمكن هنا استحضار المقولة الأشهر لمحمود درويش بحق فيروز حين قال: “فيروز هي الأغنية التي تنسى دائما أن تكبر، هي التي تجعل الصحراء أصغر وتجعل القمر أكبر”، والتي يُمكن أن تزيد عليها الأجيال اللاحقة جملة أخيرة؛ فيروز هي الأُغنية التي تجعل المسافات تبدو أقصر بالنسبة لجيل استمع في صباحات الهزيمة المتكررة لهذا الصوت الذي يُنافي منطق الأحداث، فيعود ليؤكد بتكرار لا ملل منه وبيقين ثابت: “سنرجع خبّرني العندليب غداة التقينا على منحنى/ بأنّ البلابل لمّا تزل هناك تعيش بأشعارنا”، كما يتكرر هذا اليقين في أغانٍ أخرى مثل “راجعون” و”جسر العودة”.(7)

 

العديد من الأغاني والأشعار التي تغنّت بها فيروز لم تُسجل في يوم من الأيام على أسطوانة، ولكنها ذُكرت في مراجع عدة غنت فيها فيروز لفلسطين، مثل “سافرت القضية” و”في أرض الجنّات” و”يا ليل بلادي”. أمّا في صيف عام 1969 فقد جسدت فيروز دور “غربة” في مسرحيّة “جبال الصوان” والتي تنتهي بموتها فداء لأرضها في المكان نفسه الذي سقط فيه والدها من قبلها، وعلى الرغم من استهلاك هذا العمل في سنوات الحروب اللبنانية لكنّ الكتابات التي رافقت صدوره دلّت بشكل قاطع على جذوره الفلسطينية.

وفي مغناة “جسر العودة” أدت فيروز دور فتاة تعيش برفقة خالتها في واحدة من خيام اللجوء، تلتقي بجوزيف صقر الذي لعب دور “الشيخ” وحينها طلب منها أن تُساعده في ملء جراره بالماء. كان الجو عاصفا فأنشد الشيخ يقول: “كنت عند النهر، صادفت البنيّة فملأت جرتي وقصدت الخيمة. رأيت الرياح تضرب الشجر لكن الشجر قاوم الرياح. كأن الجذوع تقول لذاتها لا مكان لنا إلاّ ترابنا. ترابنا الوطن ونحن مزروعون فيه لآخر الزمن”.

 

فيروز الفلسطينية أكثر منّا

أيُّ مصادفة جعلت من الشاعر اللبناني طلال حيدر أثناء جلوسه الاعتيادي على شرفته محتسيا فنجان قهوته أن يرى هؤلاء الشبان الثلاثة الذين سيحولهم بعد فترة ليست بالبعيدة إلى واحدة من أكثر القصائد التي غنتها فيروز ألما وتأثيرا في وجدان المستمعين. ثلاثة شبان ألقوا التحية عليه كلما راحوا وجاؤوا من أمامه، كان كل شيء عاديا حتى راحوا في أحد الصباحات ولم يعودوا، شرب حيدر قهوته وحيدا ذلك المساء عندما عرف بعدها وعبر الإذاعة عن قيام ثلاثة شبان بعمليّة بطوليّة في واحدة من مستوطنات شمال فلسطين المحتلة.

لحّن زياد رحباني القصيدة وغنتها فيروز “وحدن بيبقو متل زهر البيلسان/ وحدهن بيقطفو وراق الزمان/ بيسكروا الغابة/ بيضلهن متل الشتي يدقوا على بوابي”، ولكن لم يتسنّ أبدا التأكد من صحة هذه الأسطورة التي جعلت من طلال حيدر حارسا للغابة في نظر الفدائيين الثلاثة، وجعلت من فيروز ملاكا يعيد ذكر أولئك الذين رحلوا من أجل أن يعيش الآخرون. تغني فيروز بحرقة حقيقية وكأنها تعرف هؤلاء الشبان، أو كأنها أمهم وقد جاءها الخبر للتو، أو لربما غنتها وكأنها فلسطينية على أقل تقدير.(8)

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.