ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏بدلة‏‏‏

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏لقطة قريبة‏‏‏

الدكتور عفيف البهنسي ودوره في الحفاظ على الشخصية الدمشقية في العمارة القديمة والحديثة

نزار نسيب القباني

يتجول القارئ في مؤلفات الباحث عفيف البهنسي 0المتعددة الجوانب الأدبية والفنية والعلمية لتنفتح أمامه مغاليق المعرفة المعمارية العربية والإسلامية بتجلياتها الجمالية 00على صفحات كتبه نختار ما يتعلق بحضارة دمشق : ( القصور الأموية )و(الشام الحضارة ) و(دمشق الشام) و(الجامع الأموي) مبينا آفاق وحدتها الفنية في (جمالية الزخرفة العربية) و(ألواحها الخزفية) التي تودي بك إلى (مجاهل الأسماء في دمشق الفيحاء) وريفها على صفحات الحوليات الأثرية الصادرة في دمشق عن المديرية العامة للآثار والمتاحف, والتي أدارها الأستاذ البهنسي باقتدار حتى عام 1987 م 0

بدعوة منه تنادت في عام 1977 م كوكبة من أصحاب الفكر والمعرفة لتأسيس جمعية أصدقاء دمشق ,
وكان من أهم أهداف الجمعية مؤازرة السلطات الأثرية والبلدية والوقفية والسياحية في حماية دمشق المدينة والغوطة وبردى وقاسيون والمواقع التاريخية فيها وآثارها, والمحافظة على طابعها, والعمل على تجميلها وتبني البحوث والدراسات التي تفيد في إحياء مدينة دمشق وتحقيق تاريخها, والتعريف بها, وتخليد أعلامها وبناء أضرحة العظماء المدفونين فيها ( كما ورد في النظام الداخلي للجمعية )0
وقد أضفى الدكتور البهنسي بشخصيته العلمية والفنية على جمعية أصدقاء دمشق بهاء تاريخه العلمي وانتاجه لأكثر من سبعين مؤلفاً مرجعياً في الفن والعمارة
بعد هذه المقدمة , توقفت عند كتابه القيم ( عمران الفيحاء ) وفيه كانت دمشق إحدى المدن العشرة الأكثر أهمية في العالم الروماني, ولعل أقدم ما نعرفه من تاريخ العمارة الرومانية في دمشق هو معبد جوبيتر وكنيسة حناينا التي لجأ إليه القديس بولس بعد فراره من مطاردة اليهود له0 وأجزاء السور تخترقه سبعة أبواب لكل باب اسم بحسب الكواكب السبعة00 وأطلق على أبوابها فيما بعد أسماء كيسان والباب الشرقي للمدينة والصغير والفرج والفراديس وتوما والسلام 0وقوس النصر, وهذه تقدم نماذج راقية في العصر الروماني0 وتم الكشف في العصر البيزنطي في منطقة الحريقة على بقايا قصر ذي أرضية فسيفسائية ورخامية ملونة0
وابتدأت منذ الفتح الإسلامي عام 636م سلسلة من المنشآت مرت بثلاث مراحل عليها بصمات العهد السلجوقي والمملوكي والعثماني0
ويشكل فن الزخرفة المعمارية الداخلية والخارجية فيه وجها من وجوه العمارة الدمشقية المتنوعة الأشكال والموحدة الهوية والشخصية, وليكون لجمالياته الإبداعية في خصائصه الجوانية أصالة تطرد العمارة الداخلية (البهنسي ,2002 ص227-229).
تابع البهنسي كتابة أوراقه في التاريخ لعمران دمشق وأوابدها وقصورها ومعابدها وبيوتها من حيث انتهى جده الحسن بن احمد المهلبي البهنسي (توفي 380هـ – 990م) الذي ألف كتابا جغرافيا عن مدينة دمشق أهداه إلى الخليفة القاضي العزيز بالله ,وفيه:أما دمشق فإنها مدينة عادية أزلية وهي مدينة الشام العظمى وقصبة الجند,
وقالوا: هي من أحسن البلاد وأجلها موقعا سهلة جبلية ,وفي شمالها جبل عظيم هو جبل قاسيون 0
وقال: طول الغوطة ثلاثون ميلا وعرضها خمسة عشر ميلا ولاتكاد الشمس أن تصل إلى أرضها من كثرة الشجر, والمياه تخترق جميع هذه الغوطة فإنها مقسومة للمياه متوزعة للشرب (البهنسي 2002/ص71)
وبعد ان يورد الدكتور البهنسي وصفا لدمشق القديمة ومعالمها في الربوة وقاسيون وقبور الأنبياء والصحابة والصالحين ودور الشفاء والتعليم من خلال مشاهدات الرحالة والجغرافيين ومنهم ابن جبير وابن بطوطة
يعطف متعطرا بأخلاق الدمشقيين وآدابهم وعاداتهم, فأهل دمشق (أحسن الناس خلقا وخلقا وزيا)وأميلهم الى اللهو واللعب 0ويضيف ابن جبير: ومن عجب حال الصغير عندهم والكبير أنهم يمشون وأيديهم إلى الخلف قابضين بالواحدة على الأخرى0 وأهل التمييز يمشون الى البساتين , ولهم فيها قصور ومواضع طيبة , واما سائر الناس فإلى الميدان الأخضر (البهنسي ,2002- ص85)
وبعد أن أصبحت دمشق عاصمة الدولة الأموية هفت لها قلوب الخلفاء لكونها جنة الدنيا كما أن أرضها مملوءة بشجر السرو والبنفسج والورود والخضار والثمار الطيبة المذاق00 وليس للزهر جمال على وجه الأرض كما هو عليه بدمشق (البهنسي ,2002/33-34) 0
انقسمت دمشق بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1918 إلى مدينة قديمة ضمن الأسوار ومدينة حديثة تزداد التحاما وانتظاما خارج الأسوار, ويبلغ التناقض حده بين قسمي المدينة في أيامنا هذه ( البهنسي 2002 /35)
ويثبت البهنسي خطط دمشق الهندسية العمرانية ومواقع أحيائها وتطور شخصيتها ويسترسل في شرح مخططات أبنية دمشق العريقة . 0 ويوازن البهنسي بين البيت الدمشقي الأصيل والبيت الدخيل الذي بتنا نأوي إليه بعد الحرب العالمية الثانية00 البيت الغربي المستورد الذي لا يحترم عاداتنا ولا يقدر تقاليدنا ولا ينسجم مع مناخ بلادنا ولا يشكل مرحلة من مراحل فن العمارة التقليدي الأصيل, ويسمي البهنسي شقق البناء الحديث بالمعلبات الطابقية, (البهنسي 2002/237). عدا أن البيوت في دمشق القديمة أضحت موئلا للغرباء وأصحاب الصناعات والحرف والمستودعات التي شوه شاغلوها الأبنية واعتدوا على الزخارف الداخلية الرائعة على واجهاتها وجدرانها0

ويبين في كتابه مواضع شبكات الطرق وتوزيع المياه على بيوتها وبساتينها ومساجدها ومدارسها ونواعيرها وحماماتها وخاناتها وطواحينها 0وإذ جاء ذكر النواعير في دمشق فلأنها ليست مقصورة على مدينة حماه فحسب
وللتدليل على ذلك اثبت البهنسي صورة ضوئية للناعورة التي تغذي جامع محيي الدين بن عربي من نهر يزيد
(البهنسي 2002 / ص35)
وفي ختام الحديث عن العمارة الحديثة خارج السور يلفت انتباه المطل على دمشق من قاسيون بناء صرح الشهيد المشيد عام 1993 الذي يعد من أكثر الصروح ارتباطا بالفن الإسلامي , فهو مؤلف من القبة والقوس وكلاهما من أسس العمارة الإسلامية, ولقد أراد الأستاذ الدكتور عفيف بهنسي الذي ساهم في تصميم هذا الصرح والإشراف على إنشائه أن يعبر بالقبة عن العناية السماوية التي تحنو على الشهيد وترعاه إلى جانب القوس رمز النصر 0
كما ساهم الأستاذ البهنسي في الإشراف على بناء بانوراما حرب تشرين التحريرية الذي جاء آية معمارية تعبر عن الاصالة العربية الإسلامية بثوب عمراني معاصر استلهم الخصائص المعمارية الدمشقية وهذا ما استجاب له مجموعة المعماريين الأجانب الذين صمموا بناء فندق الشيراتون في دمشق0
ويتحدث الدكتور البهنسي عن هموم المدينة وعن ازدياد عدد السكان في مدينة دمشق أدى إلى تراجع الخدمات وتزايد الاستجرار الكهربائي والإنفاق المائي وضعف مرافق الصرف الصحي , وضيق طرق المواصلات نتيجة ضغط المركبات وازدياد عددها بحيث باتت المدينة قاصرة عن استيعاب هذه الزيادة المطردة . وتواجه دمشق من آثار هذه المعطيات مشكلات التلوث المتعددة الأشكال خاصة الكيميائية منها ومتبقيات معامل دبغ الجلود التي تطرح في المجاري القديمة المستخدمة للري , مما يزيد في انتشار الأوبئة وتلويث مزارع الغوطة وثمارها ونباتاتها ( البهنسي 2002 ص267/268 )
ويضاف إلى ذلك تهديد الطابع التاريخي لمدينة دمشق نتيجة خطط و قرارات غير مدروسة يتم الاعتذار من نتائجها بعد فوات الأوان, نتيجة عدم المهارة والخبرة ونقص الدراسات أحيانا ونتيجة برامج وخطط يمكن أن يقال في مساءلتها .
0
ومما يرتئيه البهنسي من خطط وحلول لازبة الوجوب لمواجهة تحديات القرن الجديد في دمشق , ضرورة حل مسالة نمو الصناعة في المدينة الذي يتقدم فيها على حساب النمو المجتمعي0وأهمية توزيع الفعاليات المعاشية والإدارية في أنحاء المدينة حسب الحاجة والاختصاص الوظيفي الخاص والعام للمؤسسات الرسمية للدولة المرتبطة حيويا بالمتطلبات التجارية والمالية والصناعية والزراعية والدبلوماسية 0
ويسهم هذا التطوير الإداري الإنمائي في تخفيض التضخم السكاني ومن تركزه في المدينة,ويرفع من مستوى الريف على أصعدة متعددة للحد من ترييف المدينة ومن الهجرة العشوائية إليها , ويحد من اتساع مناطق المخالفات السكنية التي توازي مساحة المدينة الأصلية من وراء السور. ويضيف الأستاذ البهنسي لحل مشكلة المواصلات المتفاقمة أهمية التخطيط الواعي المستوعب لخطوط النقل الداخلي, وتامين مبارك شاقولية للمركبات,
وإنشاء الجسور والعقد الطرقية العملية دون الاضطرار لاختراق مراكز المدينة, والاهتمام بالتخلص من النفايات البشرية والكيماوية من المنازل والمصانع والمشافي التي تتجاوز بامكاناتها شبكة مجاري دمشق القديمة التي يصب بعضها في فروع نهر بردى
ويطرح الأستاذ البهنسي رؤاه الإصلاحية في كتب أخرى (الفن الحديث بين الهوية والتبعية ) وعن (خطاب الاصالة في الفن والعمارة) وحتى عن (الحداثة إلى ما بعد الحداثة) . وهو الذي تابع أعمال وتوصيات مؤتمر اسطنبول عن الحفاظ على التراث المعماري والإسلامي, وكذلك مؤتمر المدينة المنورة عن العلاقة بين التراث الحضاري الإسلامي ونمو المدينة العربية
ويبقى من الإنسان الباحث الأستاذ الدكتور عفيف البهنسي انه يحاول المساعدة على الحفاظ على تحديد جينات الشخصية الدمشقية في العمارة القديمة والحديثة وتجاوز جناية التبعية الغربية في نظام الأسرة التي تحول بعضها بفعل الوضع الاقتصادي العشوائي إلى الاستهلاك دون الإنتاج الايجابي, خاصة في الريف , والاتجاه إلى الربح والتجارة دون العلم ومتابعته , والى الرفاهية الرخيصة دون الجد والمسؤولية 0وتظل دمشق هاجس الدمشقي الدكتور عفيف البهنسي وهو الذي ساهم فعليا مع جمعية أصدقاء دمشق في الدعوة المستمرة لتطوير مدينة دمشق العريقة وحمايتها من عوادي الزمن والبشر0

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏لقطة قريبة‏‏‏

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.