عفيف البهنسي و مدينة دمشق
هاجر صادق

مجموعة من المؤلفات التي أنجزها الكاتب والباحث الدكتور عفيف البهنسي , تتعلق بمدينة دمشق , عالجها من جوانب مختلفة , ولقد رأيت أن اتناول اليوم بمناسبة هذه الندوة الفكرية التكريمية , ماتحدث عنه في مجال تكون المدينة العربية ونموذجها دمشق, ثم عرض بعض ما ورد في كتابه عمران الفيحاء .
يؤكد في البداية تشابه المدن العربية الاسلامية في تحديد عناصر وجودها ، وذلك للوحدة الجغرافية والتاريخية والبشرية والعقائدية القائمة فيما بينها .و يأخذ دمشق القديمة كنموذج لهذه الدراسة ، لأنها قطب أساسي من أقطاب البلاد العربية الاسلامية ، فهي دمشق ,أوالشام وتعني الشمال التي تقابل اليمن يمناة أي الجنوب .
.
كان موقع المدينة في البقعة التي توزعت فيها مياه النهر وتشابكت فروعه فيها ، تحتضنها رياض وبساتين ومروج الغوطة التي كانت المدى الحيوي اللازم للمدينة ، ويحيط بالغوطة من الشمال والغرب جبال جرداء هي جبال قاسيون والمزة ، ومن الشرق البادية القاحلة ، ومن الجنوب مناطق قاحلة .
و نظراً لندرة الحجارة وبُعْد المقالع الحجرية نسبيا عن المدينة ، فان العمارة وأكثر المنشآت اعتمدت على مادة الطين لإقامة الجدران والتغطيات ، أما الأبنية الحجرية فهي قليلة وإنما استعمل الحجر في البيوتات الفخمة وفي دعم المساكن العادية وخاصة في تقوية الأساسات .
أما مناخ دمشق فهو شبيه بمناخ أكثر المدن العربية الاسلامية ، وهو مناخ جاف بسبب انفتاحها على الصحراء من الشرق ، ووجود جبال لبنان الغربية والشرقية ، كسد يمنع رطوبة البحر من التـأثير القوى على مناخها . وعلى هذا فإن أمطار دمشق غير منتظمة ، ويبقى المعدل السنوي للأمطار هو 215 مليمترا ومدتها ثلاثة أشهر ، والصيف فيها قاس جاف ، ومتوسط الحرارة خلاله هو 35 درجة ، وتنخفض درجة الحرارة في الشتاء ، ومعدلها هو 7 درجات .
يبدو من هذا العرض السريع أن مناخ دمشق قاري متطرف ، الفروق الحرارية السنوية فيه واسعة تتجاوز 20 ، كما أن الفروق الحرارية اليومية فيها 20 أيضا وهو مناخ جاف ، رياحه عاصفة سريعة تنقل الغبار من المناطق الجبلية القاحلة أو من البادية .
هذا المناخ الذي يتشابه في أكثر المدن العربية الاسلامية ، فرض شروطه على تكوّن المدينة ومساكنها وأسواقها بل على تكون المساجد والفنادق والترب ، كما فرض شروطه على طابع الزخرفة والتزيين الداخلي .
لقد تكونت مدينة دمشق ، كأي مدينة عربية اسلامية ، بصورة عفوية منسجمة مع الضرورات المناخية ومستجيبة لمتطلبات الانسان الذي يعيش في هذه البيئة الجغرافية ، فكانت في ذلك الحيّز المكاني الذي رسم أسلوب حياة الإنسان وتقاليده وشكل تطوره .
واستجابت مدينة دمشق القديمة بصورة تلقائية عن طريق سكانها ، لمتطلبات المناخ ، فالدروب والازقة الضيقة الملتوية ، التي تحدب عليها المشرفيات و البروزات ، مازالت خير وسيلة لتدرأ عن العابرين المشاة حر الصيف القائظ ، وبرد الشتاء القارص ، و لتحميهم من الرياح والعواصف والغبار، حتى الأسواق فلقد غطيت كلها بقبوات خشبية أو معدنية ، فأصبحت واقية شاملة لأهل الأسواق وروادها ، كما أنها أعطت السوق طابع الوحدة) .
وإذا ألقينا نظرة على المدينة من عل ، فإننا نرى أسطحتها وقد امتدت على ارتفاع واحد تقريباً ، فلا يرتفع البيت أكثر من طابقين . وهكذا فان تيارات الهواء لا تؤثر على حرارة الجو في الدروب والحارات ، مما يجعل الفارق الحراري فيها ضعيفا ويحميها من تقلبات الطقس الخارجي .
العامل التاريخي :
لقد أقام الإنسان في دمشق منذ العصر الحجري القديم ، ولقد كشفت حفريات دوكونتانسون في ضواحي دمشق ( تل الرماد ) عن وجود توضع سكني منذ الالف السابع قبل
ويصف سوفاجيه (\ مدينة دمشق في العهد الآرامي ويضع لها مخططاً تقريبياً ، وفيه تبدو هذه المدينة في صورتها الاولى المنسجمة تماما مع الشروط الجغرافية ، وهي بذلك تشكل الأصول الأولى لعمران المدينة ولعمارتها .
ومن الأمور الثابتة أن المدينة كانت محصورة بين المعبد والقصر ، ويقع المعبد على الأرجح في مكان الجامع الأموي اليوم ، ويؤكد ذلك قانون الاستمرارية Continueity الذي يجعل موقعا ما يحتفظ بوظيفته المعمارية مع تعاقب الحضارات والعقائد . كما يؤكد ذلك العثور على اللوح البازلتي الذي يمثل ( أبو الهول ) في أساسات الجامع الأموي وقد عثر عليه عام 1949 ، وتبين أنه يرجع الى العهد الآرامي بمقارنته مع ألواح سرير حزائيل ملك دمشق الآرامي.
أما القصر فان الاعتقاد مازال قائماً بأن موقعه هو تل السماكة وكان قصراً منيفا غنيا كما ورد في وصف الملك الآشوري ( حدد نيراري الثالث )
العامل الروحي :
في دمشق مسكن إبراهيم الخليل وابيه في موقع بيت لهيا الذي مازال قائما ، وفي دمشق استقر المسيح وأمه في ربوة ذات قرار معين . وفي ضاحية دمشق نجد المكان الذي ضرب فيه المسيح القديس بولس قائلاً له : شاؤول ، شاؤول لماذا تضطهدني ؟ . و في سور دمشق نافذة هرب منها بولس بعد أن قبض عليه اليهود وسجنوه . وفي دمشق بيت حنانيا الذي عّمد بولس و أنقذه . و في حقل ليس بعيد عن السور يوجد الحجر الذي قطع عليه رأس القديس يوحنا ، و في ضاحية دمشق ، آثار قدم الرسول مازالت قائمة .
ونعود الى داخل المنزل الدمشقي ، الى الصحن حيث البركة الواسعة في منتصف الصحن ، وحيث الأشجار المثمرة كالنارنج و الليمون ، وحيث الزهور كالياسمين والورد والريحان ، ولندقق أيضا في الخطوط الافقية والشاقولية المحيطة بالصحن ، والتي تشكلها حدود الطبقات و النوافذ ، و الى الأبواب و الأقواس و الزخارف الحجرية والخشبية ، هذه العناصر الزخرفية التي تحقق جمال العالم الداخلي في المسكن ، انها صورة عن سعي المؤمن الى تحقيق روعة العالم الداخلي في أعماق نفسه ، فالخطوط الافقية المحيطة بالصحن هي رمز لحلقات الوجود المادي المحيط بالكون أو بالملأ الأعلى ، وتتصل الارض وجميع حلقات الوجود المادي بالسماء عن طريق المركز المتمثل ببركة الماء التي تتدفق من أوسطها نافورة مستمرة الانبثاق .
وهذه الأشجار المثمرة والرياحين ، هي الجنة التي تصورها المسلم دائماً كنقيض للصحراء القاحلة ، أما الأقواس ، فهي صيغة مصغرة لاتصال المكان بالسماء ، فهذا القوس يبتدىء من الاسفل، ثم يعود الى الارض وقد رسم شكل الكون الاصغر ، وفي حنايا هذه الاقواس أو العقود أو القباب يعيش المؤمن في مسكنه المدني تحت رحمة أجنحة الله الحادبة .
و الحديث عن الزخرفة الحجرية ( المشقّف ) والجصية ( الابلق ) والزخرفة الخشبية (العجمي) وعناصرها الهندسية التي تصدر عن شكل هندسي أساسي مثلث أومربع أو مسدس أو مثمن لكي تنطلق متشعبة بحركة نابذة جاذبة ، انما هي من العناصر التجريدية التي ترمز الى معنى الله الواحد الذي تصدر عنه كل القوى واليه تعود ، و “ انه يبدىء ويعيد “ واليه ترجع الأمور .
ـ العامل الحضري :
ان أول عامل في تكوين المدينة هو الاستقرار الحضري ، ولهذا الاستقرار شروط لابد من تحققها لاستمرار وجود المدينة . فما هي شروط الاستقرار الحضري المتحققة في مدينة دمشق ؟
أول شرط هو الماء ، فعندما لا تتوفر في مدينة ما أسباب الزرع وتربية الحيوان ، أي عندما لا يتوفر فيها الماء الكافي للري والإرواء فإنها لا تلبث أن تضمحل وتنتهي والأمثلة على ذلك كثيرة.
ودمشق كما ذكرنا تنعم بمصادر كافية من الماء، من الأمطار والسيول ومن الينابيع الصغيرة ، ومن نهر بردى والفيجة الذي يخترقها كالشريان ويغذي بيوتها وبساتينها وحماماتها ويسيّر طواحينها ونواعيرها ثم هو ينقل بقاياها ، ويروي غوطتها الواسعة.
9ان توفر الماء وهو الشرط الأساسي للاستقرار الحضري قد أعطى المدينة طابعها العربي المتميز ،
ففي منطقة قارية جافة كثيرة الرياح ، تلفحها شمس قاسية، لابد من توفر المياه لسد حاجات الناس المعاشية ولمساعدتهم في تخفيف حدة المناخ .
فالمياه التي تتدفق من البركة الكبيرة التي تتوسط الصحن في المسكن الدمشقي ، تجد مصغراً لها في الفسقية التي توجد في أرض القاعة الكبرى . كما أن هذه الماء تجد مجراها الى السلسبيل ( المصب ) الذي يزين جدار القاعة ، وتنساب المياه على صفحته المزخرفة على أروع صورة ، وعدا ذلك فان المياه في دار الخلاء وفي الحمام تستمر جارية دونما انقطاع . وعدا هذه المياه التي تتسرب من النهر كانت مياه الآبار النظيفة جديرة بالإرواء قبل أن تمتد مياه الفيجة الصافية الى أطراف المدينة .
الشرط الثاني لاستقرار المدينة واستمرارها هو الأمان . الأمان من عاديات الطبيعة وعوارضها كالبراكين و الزلازل و الطوفان ، وهي أخطار تصيب كثيراً من مناطق العالم ، ومع أن إمكانية تحاشي هذه الأخطار لم تعد صعبة ، فان دمشق ليست معرضة لهذه المخاطر الطبيعية فيما عدا الزلازل التي أصابتها في فترات متباعدة من التاريخ مثل زلزال عام 846 و 1154 و 1200 و 1302 و 1737 . ومع ذلك فان دمشق لاتعد من مناطق التحولات الجيولوجية الخطيرة .
ويزداد تحصين دمشق باقامة ( قلعة ) أقيمت في نفس مكان مقر ممثل الامبراطور وتمتاز هذه القلعة من أنها تقوم على مستوى أرض دمشق ، على خلاف قلاع حلب وحمص والقاهرة التي أقيمت على مرتفع من الارض . وكانت هذه القلعة مقرا لنائب القلعة والجند . وكانت قلعة دمشق تحوي مصنعاً للسلاح ومسجداً و حماماً وبرجاً للحمام ومستوصفاً .
والشرط الهام لتحقيق الاستقرار في المدينة هو ( التبادل ) .والمقصود هنا تبادل الاشخاص والخدمات و السلع . و يتم ذلك في مدينة دمشق بواسطة الاسواق و الدروب و الأزقة .
وفي دمشق كما هو الامر في جميع المدن الاسلامية ، تتكاثف الاسواق قرب المسجد الجامع مثل سوق العطارين و البزورية و الحياطين و القلبقجية و الحرير و الصاغة و سوق القناديل ، كما تتكون أسواق حول القلعة كسوق الخيل وسوق السروجية وسوق التبن و سوق السلاح و سوق الحدادين.
14 وثمة عامل استقرار أساسي في تكوين المدينة هو تأمين التبادلات الخارجية ، اذ ليس بامكان مدينة ما أن تستمر بوجودها اذا كانت منفصلة عن العالم
العامل الثقافي :
أول مؤسسة تعليمية هي المسجد ، فالقرآن هو الكتاب الاول الذي أصبح موضوع الدراسة والبحث والتفسير في المسجد ، بل أصبح القرآن مصدر علوم أخرى ، علم الكلام وعلم الفقه وعلم التجويد وعلم القراءات ثم علوم الحساب واللغة .
وبعد أن توسعت الدولة الاسلامية ، واختلط العرب بغيرهم من الشعوب فضعفت لغتهم من جهة وتوسعت معارفهم العلمية من جهة ثانية ، ظهرت فئة من الناس ، وهم العلماء والفقهاء والقرّاء و الحفّاظ والمؤدبون الذين تولوا زمام التعليم في المسجد أولا ، ثم في المدرسة والكتاب حيث يجتمع طلاب العلم في حلقة دراسية وتقدم العلوم عن طريق الشرح والجدال والحفظ .
ومن المدارس التي كانت تعلم القرآن في دمشق ـ الخيضرية والجزرية والدلامية والرشائية والسنجارية و الصابونية . ومن أضخم المدارس التي مازالت قائمة حتى اليوم المدرسة السليمانية التابعة للتكية السليمانية والتي أقيمت كالتكية والجامع على أنقاض القصر الأبلق المملوكي ،
ولقد عدد النعيمي عددا يقرب من مئة مدرسة كانت موجودة في دمشق في مطلع القرن العاشر أكثرها لتدريس المذهبين الشافعي والحنفي ، وبعضها لتدريس المذهبين الحنبلي و المالكي نذكر منها المدرسة العادلية التي أنشأها الملك العادل والتي ماتزال حتى اليوم وهي مجمع اللغة العربية والمدرسة الظاهرية والمدرسة الجقمقية والجوهرية .
العامل السياسي :
أول قصر أنشىء في الاسلام كان قصر معاوية ” الخضراء ” الذي أقامه عام 656 م في جنوبي الجامع الكبير ، أقامه من الطين أولا ثم نقضه ثم أقامه من الحجارة كما روى ابن عساكر
وفي عهد نور الدين زنكي ، وصلاح الدين الايوبي تستعيد دمشق أهميتها بعد زوال الخطر الصليبي وتحرير الأرض ، وتقام في دمشق المدارس ودور العلم وتنشط فيها التجارة وتنشأ الاسواق . ولقد وصف ابن جبير هذا الحال في رحلته .
وما أن توفي صلاح الدين 1193 م حتى قام الملك العادل بعده وجعل ولده الاشرف موسى والمعظم عيسى ولاة له في دمشق ، ولكن النزاع الذي احتدم بين أمراء الاسرة الايوبية أعاد لدمشق وضعها المتأزم ، الى أن قام أحد المماليك بانقلاب في دمشق وتم مثل ذلك في مصر ، وعندما قهر بايبرس وقطز سلطان مصر المملوكي التتار في عين جالوت ، أصبحت دمشق تابعة لمصر ، ولكنها حظيت هذه المرة بمكانة لائقة جعلتها أقدر على الاستقرار وكانت في الواقع العاصمة الثانية لدولة المماليك كما يقول العمري ولكن دمشق في هذه الفترة كانت قد أصبحت مقرا لكثير من العلماء و الفقهاء والمؤرخين، من أمثال ابن تيمية وابن كثير والمقدسي والعمري وابن الشاطر الفلكي وابن عبد الهادي والصفدي والنعيمي . ويعد هذا العصر هو العصر الذهبي في حياة دمشق الفكرية .
وينتقل الحكم الى العثمانيين عام 1516 م وتتأكد السيطرة التركية وتصبح دمشق أشبه بالمستعمرة لا يربطها بالعاصمة إلا الولاء الديني . ويستقل أهل دمشق بحياتهم بعيدا عن السياسة وان كانوا من ضحاياها ، وينصرفون الى التجارة والصناعة التي ازدهرت بسبب موقع دمشق التجاري وإقبال التجار الغربيين اليها ، ثم لأنها أصبحت مركزا لتجمع قوافل الحج من مختلف أنحاء البلاد العثمانية ، وكان الحجاج يتبادلون البضائع من أسواقها مستفيدين من الاعفاء من المكوس الذي كان قائما بسبب الحج.
هذه لمع من الدراسة الموسعة التي أعدها الدكتور عفيف البهنسي , والتي ضمها كتابه ( عمران الفيحاء ) , ويعد من أهم المراجع الموثقة عن مدينة دمشق الفيحاء.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏‏جلوس‏ و‏نص‏‏‏‏

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.