الخط المغربي.. رسالة المغاربة من القيروان إلى تمبكتو

اعتماد خلدون – الرباط

الخط المغربي.. رسالة المغاربة من القيروان إلى تمبكتو

قيل قديما إن الخط لسان اليد, لكن الخط المغربي ليس لسان اليد التي تخطه فقط بل هو لسان شعب وحضارة عريقة نهلت من روافد متعددة, ولا أدل على ذلك من انتشار هذا الخط عبر رقعة واسعة امتدت من الأندلس إلى الحدود الليبية المصرية, فتونس ثم الجزائر والمغرب وموريتانيا وصولا إلى تومبكتو في الصحراء الكبرى، مشكلا بذلك رسالة جمالية فارقة في مشهد الحرف العربي، تمتد عبر الزمان والمكان.

ولد الخط المغربي من رحم الخط الكوفي, وكانت نشأته في القيروان قبل أن يواصل تطوره على يد المغاربة والأندلسيين فاتخذ شكله الخاص والمتناسق وفرض نفسه بين الخطوط العربية, بل وتميز عن كثير منها بخصائصه ومحاسنه ولعل أبرزها صعوبة قراءته وتمنعه اللامتناهي عن كشف أسرار حروفه من الوهلة الأولى، قبل ضمان خضوع القارئ بشكل تام.

لم يحظ الخط المغربي بالدراسة كما يستحق سواء في المغرب أو المشرق, وهو نقص عمل الدكتور محمد البندوري على تداركه، فأهله بحثه فيه للحصول على أول دكتوراه في تاريخ الجامعة المغربية في فن الخط المغربي, وقد أصدر أطروحته قبل أيام قليلة في كتاب حمل عنوان  “جماليات الخط المغربي في التراث المغربي, دراسة سيميائية”.

بداية سورة العلق بالخط المغربي المبسوط, وعلم الإنسان ما لم يعلم بالثلث الجلي المغربي (الجزيرة )

جماليات الخط المغربي

الخط المغربي تراث فني أصيل ومتجذر وكان له عبر التاريخ دور ثقافي وحضاري بارز, زاد من تكريسه تعدد أبعاده الجمالية وإمكانياته الكاليغرافية، من بين ذلك أنه يتميز بتدويرات خاصة واسترسالات ممتدة وتقويسات متفردة تعطي جمالية أكبر للحروف وتكسر التركيب البين عادة للنص المخطوط، سواء كان دينيا أو أدبيا مما يعطيه دلالات ومعاني جديدة.

ويتميز هذا الخط بخصائص لا تتوفر في غيره من الخطوط أبرزها أنه مختلف التركيبة, يرتكز على التدوير والتقارب بين السطور, حروفه غير منقطة في الغالب مثل حرف النون إذا أتى في آخر الجملة, في حين تكتب فيه الحروف ذات العراقات مثل الصاد واللام والميم والسين باتساع وامتداد كبيرين, وفي الخط المغربي أيضا نادرا ما تأتي السطور العمودية لحروف مثل الألف واللام مستقيمة إذ يغلب عليها طابع الانحناء.

ويخالف الخط المغربي الخط العربي فيما يخص ترتيب الحروف الأبجدية, في مقابل ذلك حافظ على طبيعة عدد من الحروف كما تكتب في الخط الكوفي.

وبحسب تصريح الخطاط محمد البندوري لمجلة الجزيرة فإن “الخط المغربي يتكلم لغة التقارب، وتطغى عليه المزاحمة بين الكلمات إلى حد الطلسمة على خلاف النصوص المخطوطة بخطوط مشرقية التي تكون كلماتها في الغالب متباعدة ومقروءة بوضوح”.

الخط العربي يتمتع بمرونة عالية تمكن من تطويعه حسب رؤية وذوق الفنان (الجزيرة)

الخط المغربي أنواع خمسة

انفتح الخط المغربي على آفاق جديدة فاتخذ نسقا يستحضر كل التشكيلات المغربية الرمزية واللونية والحضارية وتلك ميزة تحسب له دون أشكال فنية بصرية أخرى ما جعل أصنافه متعددة, يحصرها الدارسون في خمسة وهي , الكوفي المغربي والثلث المغربي والمبسوط المغربي والمجوهر المغربي والمسند المغربي، وقد أضاف إليها الدكتور محمد البندوري نوعا سادسا وضع له قواعده وميز خصائصه وهو الخط المغربي الصحراوي.

ويؤكد البندوري لمجلة الجزيرة أن التواصل كان قائما من خلال هذا الخط بين الملوك العلويين وأعيان الصحراء وكتبت به رسائل البيعة وكل المراسلات بين هؤلاء الأعيان والجالس على العرش المغربي. ويضيف نوعا سابعا ما زال بصدد تقعيده ووضع أسسه وهو خط تمازوغ الذي تكتب به الأمازيغية بحروف عربية وقد خط به التراث الأمازيغي.

وبالعودة إلى الأنواع الخمسة للخط المغربي, فإن لكل نوع استخدامات ووظائف محددة, فالمسند المغربي غالبا ما تحرر به الوثائق العدلية وعقود البيع والشراء، ولأن المجوهر المغربي له جمالية متفردة فقد اشتق اسمه من كلمة “الجوهر” وهو اسم عقد ثمين ترتديه النساء المغربيات ومعروف بجواهره المتراصة, بينما يدل اسم الخط المبسوط على بساطته وسهولة قراءته ويكاد يكون الخط الرسمي لكتابة المصاحف الشريفة في المغرب منذ العهد المرابطي وإلى اليوم.

جمالية خط اليد لا تتناسب مع قوالب خطوط الكمبيوتر مهما كانت مرونتها (الجزيرة)

شغف السلاطين والشعراء

اهتم السلاطين والحكام والملوك في المغرب الأقصى بالخط المغربي أيما اهتمام وجعلوا إتقانه مهارة ينبغي أن تدرك, فكان كثيرون منهم خطاطين بارعين، بل إن منهم من أقدم على نسخ القرآن الكريم بخط يده، ومن بينهم السلطان عمر المرتضى وأبو الحسن المريني وأحمد المنصور الذهبي, وكان اهتمام المنصور الذهبي أكبر بالخط إلى حد اختراعه خطا خاصا به.

حرص السلاطين أيضا عبر تاريخ المغرب على المزج بين فني العمارة والزخرفة بالخط المغربي, لذلك كثيرا ما نجد في القصبات التاريخية والقصور والمساجد نقوشا بالخط تزين الجدران وتكلل حواف السقف والأبواب، وإذا كان المغاربة في عهد المرابطين والموحدين قد اضطروا إلى إخفاء هذه الزخارف بالكتان والجبس حماية لها بسبب التشدد الذي ظهر حينها في أمور الدين ومنع النقوش, فإن المرينيين شجعوا هذا النوع من الزخارف واحتفوا بالخط المغربي.

واهتمام الشعراء وتقديرهم للخط المغربي لا يقل عن اهتمام هؤلاء السلاطين, إذ آثر عدد من الشعراء المغاربة ألا يكتفوا بشاعرية الكلمات فأضافوا إليها شاعرية الكتابة, واستعانوا بفنانين وخطاطين معروفين لكتابة دواوينهم الشعرية بالخط المغربي في تجربة فريدة من نوعها، ومن أبرز هؤلاء الشعراء محمد بنيس وعبد الله راجع وأحمد بلبداوي.

محمد البندوري من أشهر الخطاطين الذين وظفوا الخط المغربي في اللوحات الفنية التشكيلية (الجزيرة)

تحفيزات للخطاطين

قبل عشر سنوات من الآن أطلق الملك المغربي مسابقة وطنية لنيل جائزة محمد السادس لفن الخط المغربي تشرف على تنظيمها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية, الغاية من ذلك تشجيع الخطاطين الجدد وتكريم الخطاطين الكبار الذين أسهموا في الحفاظ على الخط المغربي والتعريف به داخل وخارج المغرب, وهي خطوة ثمنها الخطاطون المغاربة خصوصا أن قيمتها المادية فتحت الباب أمامهم من أجل التنافس والإبداع أكثر في هذا المجال.

كما أصبح فن الخط المغربي يدرس ضمن شعبة قائمة بذاتها تحمل اسم فن الخط في أكاديمية الفنون التقليدية بالدار البيضاء، وسنويا يتخرج منها خطاطون مهرة بشهادات عليا وتكوين أكاديمي على يد أمهر الخطاطين المغاربة، وأشهرهم الخطاط عبد الرحيم كولين.

إضافة إلى ما سبق، جرى تأسيس الجمعية المغربية للخط المغربي التي تعنى بهذا الخط ومحترفيه، وتسهم في تنظيم معارض للخط المغربي في عموم المغرب وهو ما لم يكن متعارفا عليه من قبل.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.