جنود الجيش الأميركي في بعقوبة بمحافظة ديالى شرقي بغداد (رويترز)
جنود الجيش الأميركي في بعقوبة بمحافظة ديالى شرقي بغداد (رويترز)

هند مسعد

كانت تنحني انحناءة بسيطة للأمام وتنظر للكاميرا. تعلو وجهها ابتسامة عريضة. ويبدو عليها السعادة الغامرة. وخلفها يقف شخص آخر عاقدا ذراعيه وتعلو وجهه  الابتسامة نفسها المليئة بالسعادة والنشوة في آن.

أثارت تلك الصورة واحدة من أكثر قضايا الرأي العام إثارة للجدل على المستوى العالمي. بل تسببت في فضيحة كبرى حاول الجيش الأميركي معالجتها بجميع الوسائل لحفظ ماء وجهه. السبب هو أن الفتاة، والتي تدعى سابرينا هارمان، لم تكن هي والرجل من خلفها -وحدهما- في الصورة!

كانت هارمان تنحني انحناءة بسيطة للأمام نحو كومة من الأجساد العارية التي أُلقيت فوق بعضها في شكل هرمي. أجساد معتقلين عراقيين -في سجن أبو غريب- ملفوف على رؤوسهم أكياس بلاستيكية شِبه مغلقة، لتتسبب لهم في ضيق تنفس وموت بطيء.

الأجساد نفسها كان يبدو عليها التعذيب الوحشي الذي اعتبرته هارمان في تحقيقات لاحقة أمرا طبيعيا. فمهمتها هي تحويل السجن إلى جحيم، وفي سبيل تحقيق تلك المهمة، مارست هارمان جميع أشكال الإذلال النفسي والتعذيب البدني جنسيا كان أو غير ذلك، الأمر الذي أدى لحالة السعادة الغامرة والنشوة القصوى التي ظهرت على وجهها هي والعريف تشارلز جرانر الذي يقف خلفها في الصورة.

أما من التقط الصورة؟ فهو مصور تابع لوكالة أسوشيتد برس، التقطها من داخل سجن أبو غريب، عام 2003، مع عدة صور أخرى.

وتلك الصور هي ما فضحت فيما بعد، عام 2004، طبيعة ما يرتكبه جنود الاحتلال الأميركي في حق المعتقلين العراقيين. وعرفت تلك القصة بفضيحة سجن أبو غريب الذي حدثت فيه انتهاكات جسدية وجنسية تضمنت تعذيبا واغتصابا ولواطا، وقتل سجناء دون سبب.

يقول مصور حرب لمجلة التايم جيمس ناتشتوي “إننا نتجاوز الأخطار ونتحمل المصاعب وتنكسر قلوبنا بما نشهده مرارا وتكرارا، لأننا نعتقد أن آراء الناس مهمة – وأن مجتمعنا لا يمكن أن يسير بشكل صحيح دون المعلومات التي نقدمها أو القصص التي نرويها”.

الفضيحة التي ساعدت الفوتوغرافيا في كشفها ليست الأولى التي تصدر عن أميركا الحرة الديمقراطية، فقد وثقت الفوتوغرافيا الجرائم نفسها منذ هيروشيما مرورا بفيتنام والعراق، ووصولا اليوم لتدخُّل الولايات المتحدة في الحرب باليمن.

البيان الأخلاقي الذي قدمته الفوتوغرافيا
وفقا للعديد من الصور الفوتوغرافية، هناك عطب أصاب الإيقاعات الزمنية للحياة في العراق بعد الاحتلال الأميركي. وكأن إرث القنبلة الذرية حين سقطت على هيروشيما امتد ليصل العراق. حتى مضى البعض في وصف مدينة الفلوجة بعد الغزو بأنها هيروشيما العراقية.

فقد ترك الغزو الأميركي للعراق ميراثا من السرطان والعيوب الخِلقية الناجمة عن الاستخدام المكثف لليورانيوم المخصب والفوسفور الأبيض مِن قِبل الجيش الأميركي. ومنذ عام 2004 وحتى اليوم، تشهد مدينة الفلوجة معدلا من التشوهات الخِلقية تجاوزت التي ظهرت في أعقاب كارثة هيروشيما.

وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد أظهرت صورتان لسيدتين واحدة من الناجيات من هيروشيما والأخرى من العراق الآثار الوحشية نفسها للتفجيرات الكيميائية التي عانى منها المدنيون في المنطقتين. والتي تركت العديد محروقين ومشوهين.

ووفقا للمحرر الصحفي بوبي جوش -من مجلة التايم- فإن ما حدث في العراق، فضلا عن أنه مذابح جماعية، استلزم قدرا كبيرا من شجاعة عدد كبير من المصورين المحترفين الذين جمعوا بين الموهبة والجرأة، للوقوف وسط بحور الدماء في واحدة من أكثر الحروب البشرية توثيقا.

التقاط الإنسانية في أكثر الظروف غير الإنسانية
ويرى جوش أن الخطورة التي تنطوي عليها الفوتوغرافيا في مناطق النزاعات والحروب لا تنم عن أن المصورين دون قلب أو أن مشاعرهم باردة. بالعكس، فإن توثيق جرائم الحرب -في حالة العراق أو غيرها- إنما ينم عن مدى حساسية المصور العاطفية تجاه الظروف غير الإنسانية التي يسارع لالتقاطها.

صورة أيقونية لسمر حسن وهي طفلة عراقية في حالة صدمة بعد قتل والديها العزل على يد جنود الجيش الأميركي أمام عينيها وهي في الخامسة من العمر.


الصورة من تصوير كريس هوندروس (غيتي)
الصورة من تصوير كريس هوندروس (غيتي)

يقول جوش “باعتباري مراسلا، كنت أحيانا جزءا من المشهد في أثناء التقاط صورة أيقونية. على سبيل المثال، كان عليّ أن أخرج من مجال رؤية المصورة كيت بروكس في أعقاب تفجير مرقد الإمام علي في سبتمبر/أيلول 2003 في النجف. كان المشهد مذبحة، ووجدت نفسي أضع دفتر ملاحظات جانبي للمساعدة في الحفر واستخراج الناجين والجثث من تحت الأنقاض. وكنت أرى كيت بطرف عيني، وهي واقفة تماما في فوضى عارمة، ولا تحرك عينيها عن عدسة الكاميرا، فتلتقط اللحظة. ليس لدي أي فكرة كيف أبقت كيت حواسها منتبهة! وجدت نفسي أبكي كثيرا أو أتقيأ. بعد ذلك، أخبرتني أنها كانت قادرة على درء أي مشاعر خاصة ونظرا لأن عينها كانت ملتصقة بالعدسة: سمحت لها الكاميرا بالانفصال شعوريا عن كل شيء يدور حولها”.

ربما ما أراد مصور حرب شيئا أكثر مِن النجاة بنفسه في خضم معارك ضارية لا ناقة له فيها ولا جمل غير أنه يريد أن ينقل الحقيقة، لأنه يدرك مدى قدرة الفوتوغرافيا على تغيير آراء الناس حول حقيقة الأسباب التي أدت لاشتعال الصراع من الأساس.

ومع ذلك، لا تحول رغبته الغريزية تلك في النجاة عن أن يكون صوت الضمير والأخلاق في ساحات الحروب غير الأخلاقية مهما كلفه هذا الأمر.

ومما لا شك فيه أن الفوتوغرافيا أعطت صوتا للقتلى الراحلين يعبرون به عن حقيقة ما حدث معهم، مثلهم مثل الناجين.

المصدر : الجزيرة

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.