لوحة معركة سان رومانو للفنان الفلورنسي باولو أوتشللو (1397-1457) (مواقع التواصل)
لوحة معركة سان رومانو للفنان الفلورنسي باولو أوتشللو (1397-1457) (مواقع التواصل)

سارة عابدين

ربما يميل البعض إلى الاعتقاد الشائع بأن أزمنة الحروب والكوارث الكبرى يتراجع فيها دور الفن في مواجهة العنف والدماء والموت، بينما لمؤرخي ونقاد الفن رأي مخالف فيقولون إن أوقات الحروب والكوارث متزامنة مع التطورات والعلامات الكبرى في الفن، ويمكن ملاحظة ذلك عندما أصبح الفنانون أكثر حرية في تسجيل رؤاهم الشخصية بعيدا عن ما تفرضه السلطة الدينية أو العسكرية.

استعملت الفنون بدايات الإنسانية الأولى لأغراض توثيقية للأحداث الكبرى، أو كبديل للكاميرا الفوتوغرافية في العصر الحديث. لكن تبقى العلاقة الوطيدة بين الحروب والصراعات والفن بداية من عصور ما قبل التاريخ.

بدأ الإنسان الأول في تسجيل صراعاته مع القبائل المجاورة وانتصاراته في حروبه الأولى، وصراعاته مع الحيوانات المفترسة ومع قوى الطبيعة من حوله قبل أن يتمكن من ترويضها وفهمها. نجد كل ذلك مسجلا بنقوش رسمها على جدران الكهوف في مناسبات مختلفة لأغراض سحرية أو احتفالية بعد الانتصارات، ومن أشهر تلك الكهوف:

– كهف ماغورا في بلغاريا (magura cave)

– كهف بيمبيتكا في الهند (Bhimbetka cave)

– كهف سيرا دا كابيفارا في البرازيل (Serra da capivara)


كهف بيمبيتكا في الهند (مواقع التواصل)
كهف بيمبيتكا في الهند (مواقع التواصل)

امتدت فكرة تسجيل وتوثيق الانتصارات والحروب والأحداث الكبرى عن طريق النحت أو الرسم على الجدران بعد ذلك إلى الفنون الفرعونية والآشورية ومنها إلى الرومانية، ومن أشهر تلك الأعمال الفنية:

جدارية معركة قادش: ويظهر فيها الجيش المصري القديم، وكتائبه المختلفة من مشاة ورماة، بقيادة الملك رمسيس الثاني في مواجهة الحيثيين مع ملكهم المقنع. تمثل اللوحة معركة قادش التي تعتبر أول معركة في التاريخ استخدمت فيها العجلات الحربية.

عمود تراجان: هو عمود أثري يقع في روما بإيطاليا. ويمثل مراحل الحرب المتعددة بين الرومان والداقيين، بالإضافة إلى تصويره لانتصارات الإمبراطور تراجان في نهاية المعركة.

لوحات سجلت الحروب
استمرت العلاقة التوثيقية بين الفن والحروب والأحداث الكبرى في العصور اللاحقة، ومن أهم اللوحات التي سجلت الحروب والمعارك التاريخية:

لوحة معركة سان رومانو للفنان الفلورنسي باولو أوتشللو (1397-1457) وتمثل معركة سان رومانو عام 1450 التي هزمت فيها قوات فلورنسا أعداءها في إحدى المعارك العديدة بين الأحزاب الإيطالية المتناحرة.

لوحة معركة الإسكندر الأكبر للفنان الألماني ألبرخت ألتدورفر (1480-1538) وتمثل انتصار الإسكندر الأكبر على جيوش داريوس الثالث، من بلاد فارس. رسمت اللوحة بطريقة غير معتادة لرسم لوحات المعارك التي تركز غالبا على المعركة فقط، لكن في هذه اللوحة تظهر براعة ألتدورفر كرسام للمناظر الطبيعية في الأساس.

لوحة الثالث من مايو للفنان الإسباني فرانشيسكو دي غويا، جاءت على عكس معظم اللوحات الحربية التي تخدم الأغراض التوثيقية فقط، وكانت أكثر حداثة ومعاصرة، وتوضح وجهة نظر الفنان الشخصية في المعركة التي حدثت عام 1808، عندما حاول 21 ألف جندي إسباني حماية مدينتهم من غزو نابليون، وتم إعدام أغلبهم رميا بالرصاص.


جدارية معركة قادش بقيادة رمسيس الثاني (مواقع التواصل)
جدارية معركة قادش بقيادة رمسيس الثاني (مواقع التواصل)

بدايات التغيير
يمكن اعتبار لوحات غويا -التي صور خلالها الفظائع الدموية في الحرب بين إسبانيا وفرنسا- تمهيدا لفك الارتباط بين استعمال الفن كوسيلة توثيقية للحروب، خاصة بعد الثورة الصناعية الكبرى، وظهور التصوير الفوتوغرافي واستعماله كوسيلة أكثر سرعة وكفاءة في عملية التوثيق بشكل عام، بالتزامن مع تحرر الفنان من القيود الدينية والسلطوية التي كانت تجبره على تسجيل وجهة نظرها في المعارك والحروب، دون تدخل منه.

في القرن العشرين كان الحدثان الأكثر تأثيرا الحرب العالمية الأولى والثانية، ولأول مرة منذ قرون يصبح الفنان مبدعا لعالم مواز للعالم المتخم بالدماء والقتلى، وليس مجرد أداة لنقل الأحداث. لذلك أصبح الفن وسيلة الفنان للاحتجاج على كل هذا الخراب الذي يحيطه، ووسيلته أيضا لتجاوز تلك الفظائع والمرور منها، وظهرت الحركة الدادائية كرد فعل من الفنانين على الحروب والدمار.

قامت الحركة الدادائية في جوهرها على التخريب والتشويه، كأن الفنان يثور عن طريق الفن على الواقع الذي لم يعد يجد به ما يمكن أن يضعه في لوحاته، وبدأت مجموعة جديدة من الفنانين بمهاجمة مفهوم الفن ذاته، وقرروا أن الفن هو ما يخاطب العقل وليس ما يخاطب العين فقط.

بدأ الوجود الإنساني في التراجع داخل اللوحات، وظهر ما يطلق عليه الفن المفاهيمي والفن الحركي، وهو الفن القائم على الفكرة في الأساس على التفاعل بين الفنان وعمله الفني، بعيدا عن المفهوم القديم للفن الذي يتمحور حول نقل الواقع والقدرات التصويرية والنحتية الاحترافية.

أصبح فضاء اللوحة والعمل الفني ساحة للتعبير عن الصراعات والأفكار الشخصية لكل فنان، بعيدا عن فكرة الفن الجمعي والاجتماعي التي كانت سائدة من قبل، بالإضافة إلى اعتبار الفن وسيلة الفنان الذاتية للسخرية من الحرب، وتغيير ما لم يمكنه تغييره في الواقع.

اعلان

بدأ الفنانون في استخدام الأدوات الحربية وبقايا مخلفات الحرب لصنع أنواع جديدة من الفن الجاهز، بعيدا عن الأفكار الجمالية التقليدية التي لا تتسق مع كل الخراب والدمار في العالم. ومن أشهر وأهم الأعمال الفنية التي نتجت عن تلك المرحلة المعقدة أعمال كل من الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب، والألماني ماكس إرنست، وكورت شويترز، وراؤول هوسمان الذين أنتجوا سلسلة من المعارض الاستفزازية، والعروض المسرحية الغامضة غير المفهومة.

بعد ذلك بدأت الدادائية في الانهيار، بعد أن وضعت حجر الأساس للسريالية التي قامت في الأساس على أفكار فرويد عن الأحلام والتحليل النفسي، وظهرت بعد ذلك المدارس الفنية المتعاقبة القائمة على التجريد والذاتية، لذا يمكن اعتبار الحروب العالمية من أهم أسباب ظهور المدارس الفنية التي تمثل بداية الحرية والحداثة الفنية.

المصدر : الجزيرة

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.