إيليا سليمان يتقمص ناجي العلي ويراقب العالم بعينيّ حنظلة حنظلة كما هو في رسومات ناجي العلي الكاريكاتورية

إيليا سليمان يتقمص ناجي العلي ويراقب العالم بعينيّ حنظلة

كاتب يمني

2019-12-01

يتكون الفيلم الفلسطيني “إن شئتَ كما في السماء”، الذي كتبه وأخرجه إيليا سليمان، من مجموعة من المشاهد المستقلة في الظاهر، ويمكن النظر إلى كل مشهد على أنّه فيلم قصير يختزل البلدان التي مر بها المخرج. وما يربط هذه المشاهد ببعضها هو إيليا سليمان نفسه الذي يقوم بدور المتفرج الصامت، وهو في الحقيقة ينوب عن المُشاهد العربي والفلسطيني تحديداً.

اقرأ أيضاً: أكله الذئب: ناجي العلي وحنظلة الذي لم نره
الفليلم، وهو من إنتاج مشترك بين فرنسا وكندا، نافس على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي لعام 2019 وحاز على تنويه خاص من لجنة التحكيم وتم اختياره كأفضل فيلم روائي فلسطيني في حفل توزيع جوائز الأوسكار الـ 92. ويشارك في القسم غير الرسمي خارج المسابقة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 41.

الكشف عن وجه حنظلة
يتخذ سليمان هيئة حنظلة كما هي في رسومات ناجي العلي الكاريكاتورية. أدار حنظلة ظهره للعالم وعقد يديه خلف ظهره فأصبح بهذه الهيئة توقيع ناجي العلي رمزاً للهوية الفلسطينية. إدارة الظهر وعقد اليدين أو تكتيفهما خلف الظهر يرمزان لرفض المصافحة أو رفض الحلول الخارجية. لكن سليمان يواجه الكاميرا في أغلب اللقطات، وهي وضعية ضرورية لتعبر عن حالة المشاهدة ولتعكس ما يشاهده على ملامح وجهه.

سترى الدهشة والتساؤل على وجه سليمان لكنك لن ترى الحزن أو الألم لأن حنظلة رمز للفلسطيني المعذب والقوي رغم الصعاب

سترى الدهشة والحيرة والتساؤل على وجه سليمان لكنك لن ترى الحزن أو الألم ذلك لأن حنظلة “رمز للفلسطيني المعذب والقوي رغم الصعاب التي تواجهه فهو شاهد صادق على الأحداث ولا يخشى أحداً”، وهو في الوقت نفسه أيقونة تمثل انهزام وضعف أنظمة عربية. ويبقى سليمان صامتاً طوال الفيلم تعبيراً عن هذا الرفض. المرة الوحيدة التي نطق فيها قال: “أنا من الناصرة. أنا فلسطيني”، ولا تخفى نبرة الاعتزاز بالهوية الكامنة في هذه العبارة.
لقد كشف سليمان عن وجه حنظلة لكنه ظل محافظاً على مبادئه التي حددها له صانعه ناجي العلي. “ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائماً في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه؛ لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء”. وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: “كتَّفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مُطبعاً”، وعندما سُئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”.

سِفر الخروج والعودة
في أحد مشاهد الفيلم يرفض ممول فرنسي تمويل فيلم سليمان بحجة أنّ الفيلم لا يظهر الخصوصية الفلسطينية وأنّ أحداثه يمكن أن تقع في أي بلد في العالم. ثمة وحدة عالمية يعكسها الفيلم لكنها وحدة سلبية؛ فالمشترك في مشاهد الفيلم أنّ جميع البلدان التي يمر بها إيليا تعاني من المشاكل. والثيمة الغالبة على المَشاهد في هذه البلدان هي المطاردة: عصابة من الشباب تطارد مجهولاً في شوارع الناصرة، ورجال شرطة يلاحقون شاباً؛ لأنه يحمل باقة ورد في شوارع باريس، ورجال شرطة آخرين يطاردون شابة فلسطينية ترتدي جناحيّ ملاك في حديقة، وآخرون يتعقبون امرأة في المترو. والمشاكل التي يهرب منها في فلسطين هي نفسها التي يقابلها في باريس ومونتريال ونيويورك، وستكون الهموم نفسها حتى لو فرَّ إلى السماء كما يوحي عنوان الفيلم الذي يجعل من الأرض مرآة لمسكوت عنه هي السماء.

اقرأ أيضاً: احذروا ناجي العلي فالكون عنده أصغر من فلسطين
تَشابه المشكلات في الجوهر واختلافها في النوع يدفع سليمان في الأخير إلى العودة إلى مسقط رأسه الناصرة. وفي هذه العودة إشارة إلى أنّ حل القضية الفلسطينية يكمن في الداخل لا في الخارج الغارق في همومه ومشاكله الخاصة.

حنظلة كما هو في رسومات ناجي العلي الكاريكاتورية

التنميط من منظور فني
لا يمكن استيعاب بلد بأكمله في مشهد إلا من خلال التنميط وهذا ما يفعله إيليا هنا. فتصبح فلسطين مكاناً للصراع بين الإخوة وبين الجيران وبين الأب وابنه. والفلسطيني محكوم بالعادات والروتين (يظهر ذلك في مشهد الفلاحة الفلسطينية التي تحمل إناءين على رأسها)، ومحكوم بنظرته الذكورية للمرأة (يظهر ذلك في مشهد أخوين يحتسيان الكحول في حانة بينما يستنكران احتواء الطبق الذي تتناوله أختهما على النبيذ). ويتحول الفلسطيني في نظر الأجنبي (سائق التاكسي الأمريكي) إلى تحفة أو أُعجوبة وفي مكان آخر يصبح مُداناً ومطارداً ومحل شُبهة. في المشهد الذي يفتش فيه رجل الأمن إيليا سليمان يمسك سليمان بأداة الكشف عن المعادن بيده ويتلاعب بها بخفة ساحر. وهو بهذا يكشف علاقة الفسطيني بهذه الأداة التي من كثر ما اعتاد عليها في  المطارات أصبح بإمكانه أن يتلاعب بها كبهلوان.

اقرأ أيضاً: فيلم “غزة”… وثائقي عن بهجات عابرة تحت الحصار
وبهذا التصنيف تصبح المنطقة العربية في المشهد الأخير ملهىً للرقص، وتصبح نيويورك مخزناً للسلاح والجريمة، وشوارع باريس تغدو منصة للرفاهية ولعرض للأزياء والجميلات وبنكاً لتمويل السلاح- ظهر هذا في مشهد الدبابات التي تمر من أمام بنك باريس. الاختزال والتنميط مُجحف لكنه محكوم بأغراض فنية تسعى للكشف عن واقع العالم ومشاغله واهتماماته.

نقد كاريكاتوري
يراقب إيليا العالم بحس نقدي ساخر وأسلوب كاريكاتوري. اختزال سليمان المشهد أو المجتمع العربي الغارق في اللهو وعدم الاهتمام بمشهد لمجموعة من الشباب يرقصون على إيقاع أغنية “عربي أنا” ليوري مرقدي. وكأنه بهذا المشهد الختامي يضعنا أمام ثنائية إحداهما سلبية تتمثل في اللهو المسؤول جزئياً عن تراجعنا، والأخرى إيجابية مضمرة تتمثل في الجِّدية التي من شأنها أن تفضي إلى إيجاد حل لمشاكلنا وللقضية الفلسطينية.

تَشابه المشكلات في الجوهر واختلافها في النوع يدفع سليمان في الأخير إلى العودة إلى مسقط رأسه الناصرة

لعل سليمان يريد بهذا المشهد الختامي القول بضرورة التعامل بجدية مع قضايانا لكن وسيلته إلى ذلك جاءت بإدانة اللهو؛ وكأنّ علينا أن نتوقف عن التسلية أو أنّ الحل اجتماعي بالدرجة الأولى. ويبدو أنّ التعبير خان سليمان فخلط بين ما يتطلبه المشهد الأخير من لهو وبين موقفه الشخصي. هذا الخلط هو ما حوَّل النقد إلى إدانة ووعظ، وسليمان إلى واعظ يضع اللوم على اللهو بشكل عام. وبما أنّ سليمان قد افتتح فيلمه بمشهد ديني ينتقد فيه الوعظ والخرافة بشكل فكاهي فهو يسخر من نفسه في مشهد الختام بطريقة ربما لم يفطن إليها.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.