هكذا نفخ سيد درويش في الموسيقى روحاً جديدة

هكذا نفخ سيد درويش في الموسيقى روحاً جديدة

كاتب وصحافي مصري

2019-11-21

عندما علم سيد درويش بموعد قدوم سعد زغلول، عام 1923، من منفاه، طار فرحاً، وعاد إلى بيته في الإسكندرية، ليعدّ مظاهرة غنائية في استقبال الزعيم المصري.
لم يعرف سيد أنّه يعود لموطنه الأصلي، لا ليستقبل عودة زغلول، بل ليلقى الله، ويسلّم روحه إلى بارئها، وهو الشاب الذي لم تتجاوز سنّه الواحد والثلاثين.
غطّت عودة سعد على وفاة سيد، فنشرت صحيفة خبراً صغيراً عن وفاته، ووصفته بفنان الشعب، الذي خدم الفنّ الجميل خدمة دائمة، وأنّ صديقه، بديع خيري، قد نعاه.
جدلية الجديد والقديم
هي الصحف ذاتها التي تألّم منها درويش، بعد أن اتخذت منه مادة للهجوم الضاري ومحلاً للسخرية، فهو في عيون النخبة الفنية لم يكن سوى كاسر للتقاليد الموسيقية العريقة، وآتٍ بما لم يأت به الأوائل.

رغم فشل مشروعه التمثيلي وفرقته الخاصة، بسبب سوء إدارته، لم ييأس سيد درويش، بل انصرف نحو الكتابة في الصحافة

لم يكن له ذنب سوى أنه كان ابن بيئته المحلية، فاستخرج من الحارة والقرية والشمال والجنوب، كنوزاً بلدية عريقة، تزداد ألقاً وتوهّجاً كلّما مرّ عليها الزمان.
في حيّ كوم الدكة، في مدينة الإسكندرية، عام 1892، ولد للمعلم درويش البحر، صاحب دكانة النجارة، ولد اسمه سيد، فكان الذكر الأول بعد ثلاث بنات، هنّ: فريدة وستوتة وزينب.
يحكي حفيده، محمد البحر، في مقال له بعنوان “تاريخ حياة سيد درويش”؛ أنّ والدته تقول إنّه لم يكن قد بلغ الأربعين يوماً، حتى إذا سمع صوتاً حنوناً أو موسيقياً يترك ثديها، ويدور بعينيه باحثاً عن مصدر ذلك الصوت، ونمت معه هذه الغريزة نمواً ظاهراً حتى بلغ الخامسة، فألحقه والده بكتاب سيدي أحمد الخياشي.

على قفص خوص
توفَّي والده ولم يكن قد بلغ السابعة، فبات يتيماً، يقاسي شظف الحياة، ولهيب الحرمان.
نقلته والدته إلى مدرسة أهلية افتتحها شاب من أهل الحي، اسمه حسن أفندي حلاوة.
في هذه المدرسة تلقّى أول شعاع من أشعة الموسيقى؛ إذ كان أحد مدرسيها، سامي أفندي، مولعاً بحفظ الأناشيد، والسلامات، وكان يلقنها للتلاميذ، فلم يلبث سيد الصغير أن فاق جميع أقرانه في حفظ الأناشيد فعينه رئيساً عليهم، وظلّ في هذه المدرسة قرابة عامين يحفظ القرآن الكريم، لكنّ الحظّ العاثر قد لاحقه فأغلقت المدرسة.

اقرأ أيضاً: سيد درويش: عبقرية العفوية
إلا أنّه كان يأتي بقفص من الخوص، ويقف عليه، وسط ساحة المتصوفة في كوم الدكة، ويتلو الأناشيد، فيلتفّ حوله الناس يتأملون في الطفل المعجرة.
كانت المرة الأولى التي يضع فيها العمامة على رأسه، عندما فكّر أحد أصدقائه من المعجبين به أن يقيم حفلاً بمنزله في إحدى المناسبات ويدعو إليها بعض إخوانه، وصديقه سيد لإحيائها، فأحضر له عمامة وجبّة وقفطاناً، فارتداها سيد، وأحيا الحفل.
علا صيت درويش في الإسكندرية، بما كان يقوم به من إحياء حفلات خاصة للأصدقاء، وبما كانوا يقومون به من الدعاية له.

الأب الصغير
عندما بلغ سيد الـ 16 من عمره تزوّج، ولم يمضِ على ذلك الزواج بضعة شهور حتى كسدت سوق عمله، ولم يعد أمامه منفذ للرزق، وقضت الظروف عليه أن يتدرج في بيئة تخالف البيئة التي نشأ فيها، وكان عليه أن يجاري الزمن فاشتغل، للمرة الأولى، بالغناء بفرقة جورج داخور، التي كانت تعمل بجهة كوم الناضورة بقهوة إلياس.
كانت الفرقة تحمل اسم كامل الأصلي، فكان يلقي بعض أغاني المرحوم، الشيخ سلامة حجازي، بهذا المقهى إلى أن اضطرته الظروف، بعد حلّ الفرقة، إلى أن يغني في مجال لا تليق بكرامته، ولا بالزي الذي يرتديه، لكن لم تطل إقامته بها وتركها وبدأت الدنيا تضيق في وجهه، وأخذ يبحث عن عمل.

اقرأ أيضاً: كيف اختلفت رؤية الفقيه والفيلسوف للموسيقى؟
وتصادف أن قابله أحد أصدقائه، ولما تبين ما يعانيه من ضيق عرض عليه أن يعمل مناولاً للبياض، فذهب معه وتصادف أن كان بجوار العمارة التي يعمل بها مقهى كان يجلس عليه الأخوان سليم وأمين عطا الله، وبدأ العمال يرجون سيد أن يغني لهم شيئاً فجلس على السقالة يغني لهم، وما إن سمعه أمين وسليم عطا الله حتى أعجبا به، واتفقا معه على السفر للأقطار السورية مع فرقتهما.
حظّ تعس
كانت هي الرحلة الأولى في حياته، وكان ذلك عام 1909، وقد بلغ السابعة عشر، ورزق بولده البحر يوم سفره، وأمضى في هذه الرحلة حوالي 10 شهور تعرف خلالها إلى الأستاذ عثمان الموصلي، وأخذ عليه من التواشيح ما استطاع حفظه في تلك الفترة، هذا عدا ما سمعه من الأغاني في البلاد التي نزل بها، غير أنّ الرحلة فشلت، حتى أنّه اضطر لأن يبعث إلى ذويه طالباً منهم أجرة العودة، وعاد إلى مسقط رأسه ليكافح الزمن صابراً على مساوئ دنياه.

اقرأ أيضاً: مشايخ في سماء الطرب والموسيقى
وبدأ سيد يستأنف جهاده من جديد في سبيل العيش، وأصبح عليه أن يسعى لا ليكسب قوته وحده، بل وقوت والدته وزوجته وولده، وعاد إلى العمل بالمقاهي، وظلّ هكذا قرابة عامين حتى اشتدت الأزمة أيام حرب طرابلس، وحالت بينه وبين أن يجد عملاً فاشتغل كاتباً بمحل لتجارة الأثاث كان ملكاً لصهره، لكنّه لم يستمر في هذا العمل أكثر من أربعة أشهر، ثم عاوده الحنين إلى فنّه، فاشتغل في “بار كوستي” بأول شارع انسطاطي، وعلم صهره بعودته للاشتغال بالغناء وفي بار، فأقسم بالطلاق ألا يدخل سيد درويش المنزل إلا إذا اعتزل الغناء.
عزّ عليه أن يكون بالإسكندرية ويحرم من رؤية شقيقته الكبرى التي كان يحبها حباً شديداً، فامتنع عن الغناء مضطراً، حتى أرسل الله له سليم عطا الله، الذي اتفق معه على السفر للرحلة الثانية للأقطار السورية، عام 1912، فكانت هذه الرحلة هي الحجر الأول في بناء مجده.

الغانية الملهمة
عاد سيد درويش، وبدأ عمله في قهوة السلام بميدان محمد علي، ثم قهوة سلامون، وخلال تلك الفترة؛ أي حوالي عام 1914، عرف جليلة، وكانت غانية.
بعد أن ختم أغنيته سمع صوت ضحكة نسائية ساحرة، فبحث حتى وقعت عيناه عليها، فارتجل أغنيته المشهورة: “خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب خفيف الروح”.
وكان سيد يعتقد ويؤمن بأنّها مصدر وحيه، وإلهامه، أما هي فتقول “ما من لحن لحّنه إلا كانت له بينهما مناسبة”.

اقرأ أيضاً: هل كان زرياب المبدع الأول لموسيقى الروك آند رول؟
وبدأت ينابيع فنّ سيد درويش تتفجر، وبدأ في التلحين، فأخرج أول دور له، وهو “يا فؤادي ليه بتعشق”، و”زوروني كلّ سنة مرة”، وكان قد لحنها عقب سوء تفاهم وقع بينه وبين محبوبته، أدّى إلى خصام بعض الوقت.
وهكذا بدأ يخطو خطوات حثيثة في سبيل الشهرة، وأصبح أصحاب المقاهي يختطفونه، مع أنّه كان يعمل بهذه المقاهي قبل رحلته، ولم تكن قيمة نصيبه من الأسهم تعدو الخمسة قروش في بعض الليالي.
درويش في القاهرة
ضاقت الإسكندرية بفنّ سيد، فنصحه بعض أصدقائه بالسفر إلى القاهرة، وأقام أول حفلة له بها، في كازينو البسفور، وكان ذلك عام 1917، وأتبع ذلك باتفاقه مع الأستاذ جورج أبيض، ليلحن له رواية فيروز شاه، فكانت أول رواية مسرحية لحّنها، ثمّ اتفق مع الأستاذ نجيب الريحاني لتلحين رواياته، وكانت أول رواية لحّنها له “ولو”، التي نجحت نجاحاً كبيراً.
يقول أنيس منصور: “عندما قدمه سلامة حجازي في القاهرة، للمرة الأولى، استقبله الجمهور بالصفير والصراخ، قائلين: “انزل..اسكت”، تماماً كما استقبل الجمهور الألماني سيمفونية بيتهوفن “البطولة”، وكان بيتهوفن سابقاً لعصره ومتقدماً على ذوق سامعيه.

اقرأ أيضاً: مواجهة عبر الموسيقى بين التشدد والاعتدال
وبدأ نجم سيد في الصعود، وبعد ذلك يمطر المسارح من الروايات ما يعدّ بحقّ درراً خالدة، لكنّه من شدة ما لاقاه في هذا المجال، حرم على ولده البحر الغناء، وكثيراً ما كان يضربه إذا سمعه يغني، رغم شدّة حبّه للفنّ.
يقول محمد البحر: “كان أبيَّ النفس، لم يفكر يوماً في أن يقترض من أحد، حتى في أشدّ أيام ضيقه، بل كان يبيع أو يرهن شيئاً، مما كان يتحلّى به هو وزوجته، وقد تزوج أربع مرات”.

درويش المتسامح
يروي محمد أفندي عبد ربه القانونجي، حادثة مما وقع لسيد من أحد الحاقدين عليه، فقد رأى القانونجي أن يحتفل بقران أخيه، وأن يكتفي بدعوة سيد لإحياء الحفل، من غير أن يدعو غريمه الشيخ علي الحارث، الذي حضر إلى المقهى الخاص بالفنانين وما إن رآه سيد حتى حيّاه، ثم رأى أن يدعوه للحفل، ظنّاً منه أنّ زميله القانونجي سها عن ذلك، وما كاد الشيخ سيد يدعو الشيخ علي حتى رفع هذا يده وصفعه على وجهه، بين دهشة الجميع، وكان من بينهم الأستاذ جميل عويس الذي تدخّل وحسم الموقف، ولم يشأ سيد أن يساير الرجل في تصرّفه، تسامحاً منه وترفعاً.

اقرأ أيضاً: كيف تساهم الموسيقى في تجاوز البؤس الدنيوي؟
لكنّه، مع ذلك، كان غيوراً على فنّه، لدرجة أنّه ارتقى ذات يوم خشبة أحد الملاهي لتوجيه لكمة إلى مغنٍّ تجرّأ على تحوير بعض ألحانه.
يقول المستشرق إدوارد لويس عن درويش: نفخ في موسيقى بلاده روحاً جديدة كلّ الجدّة، واستطاع أن يرتفع بها إلى مستوى يتمكّن معه المرء أن يعبّر عن عواطفه ونزعاته بواسطتها.
ينساق سيد درويش في تيار وطني يعمّ البلاد، فهو مرة يستوحي شعاراً كهذا الشعار المأخوذ عن مصطفى كامل: “بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي”، وهو الذي أصبح النشيد الوطني لمصر فيما بعد.
سيد العنيد
لما منعت السلطات ذكر اسم الخديوي المخلوع، عباس حلمي، لجأ سيد درويش إلى وسيلة كلاسيكية، يلجأ إليها المغنون في البلاد المغلوبة على أمرها، فكان يبدأ كلّ شطر من أغنية بريئة في الظاهر بالحروف التي تكون اسم (ع ب ا س – ح ل م ي) كهذه الأغنية: “عواطفك دي أشهر من نار .. بس اشمعنى جافيتني يا قلبك.. أنت اللطف وليه احتار.. سيد الكل أنا طوع أوامرك.. حالي صبح لم يرضِ حبيب.. لوم الناس زودني لهيب.. ما قلشي أن الوصل قريب.. يا مليكي والأمر لربك”.

اقرأ أيضاً: بليغ حمدي على الشاشة الصغيرة قريباً وإياد نصار يتعلم الموسيقى
وعندما منع ذكر اسم سعد زغلول؛ غنّى درويش قائلاً: “يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح.. يا زرع بلدي عليك يا وعدي .. يا بخت سعدي زغلول يا بلح”.
مع الإنتاج الغزير، والأموال التي كانت تدخل جيبه، من تلحين الأوبريت، لم يكن لديه في أواخر أيامه سوى عوده وفوتوغرافه العتيق.

سيد الكاتب
رغم فشل مشروعه التمثيلي، وفرقته الخاصة، بسبب سوء إدارته، فإنّه لم ييأس؛ بل انصرف نحو الكتابة في الصحافة، ليرد على الذين كانوا يرهقونه بانتقاداتهم باسم المحافظة على التقاليد. وتحت إمضاء خادم الموسيقى بدأ ينشر كتاباً متسلسلاً عن الموسيقى في مجلة “النيل”.

كان سيد درويش غيوراً على فنّه، وذات يوم ارتقى خشبة أحد الملاهي للكم مغنٍّ تجرّأ على تحوير بعض ألحانه

كان سيد درويش يعمل في أكثر الأحيان على أساس نصوص مكتوبة، لكن كان يحدث أن وقائع يومية صغيرة من حياة هذا الشعب، الذي كان يحبّه ويفهمه تكفي لإلهامه؛ ففي مساء يوم يسمع صوت حمال في جزيرة بدران، حيث كان يسكن، فتستفزه الحماسة، ويغادر المنزل، ويتبع هذا اللحن الخام من شارع إلى آخر، وفي بولاق يسمع صوت بائع متجول فينصت إليه يغني بلهجة مصرية صعيدية “عجائب تمرة”، وفي المساء ذاته يروي تجربته لوديع خيري، فتولد الأغنية الشعبية.
وذات مرة؛ رأى رجال السلطة وقوات المحتل وهم يضربون فتى في إحدى القرى التي ذهب للغناء فيها، ثم يجرونه من بين يدي أمه التي هتفت “يا عزيز عيني”، فغنى سيد درويش أغنيته المفعمة بالشعور الوطني “يا عزيز عيني.. وأنا بدي أروح بلدي.. ليلة نمت فيها، وصحيت ملقتش بلدي.. يا عزيز عيني، وأنا بدي اروح بلدي.. وعيني على بلدي.. بين أهلي وناسي بقيت غريب يا بلدي.. عمي يا اللي ماشي ظلم ما ترضاشي.. سافر قلبي ولا جاشي بدور على بلدي.. ده مش لون عينك ولا دي ايديك.. بدل ما أخاف عليك بخاف منك يا بلدي..”.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.