ميس الريم قرفول: الخطاب الشعري يحمل عوامل ثورته

ميس الريم قرفول
ميس الريم قرفول من التجارب الشعرية الجديدة المهمة، التي يحفل بها الشعر السوري المعاصر، فقد استطاعت في ظرف قصير أن تثبت مكانتها الشعرية داخل جيلها منذ ديوانها الشعري الأول “حين ساعدنا الحرب لتعبر” (2018) الصادر عن دار التكوين بسورية. والسنوات الطويلة التي قضتها ميس الريم بفرنسا، لم تستطع أن تقلص من طعم الغربة وألم الذات أمام الآخر، الذي تعمل على التحاور معه ثقافيا وفنيا من خلال جملة من المهرجانات الشعرية الفرنسية التي شاركت فيها إلى جانب شعراء من مختلف دول العالم، ومع ذلك لم يندمل الجرح على حد قولها، وظلت صورة الحرب السورية تحفر مجراها عميقا في جسدها، مستلهمة جحيمها وصورها وألمها وأسئلتها الحارقة شعرا.

بمناسبة صدور عملها الشعري الجديد “موجة جبل مقص” (2019) بفرنسا بلسان مزدوج (عربي/ فرنسي) التقينا ميس الريم قرفول وكان هذا الحوار:

الجرح المفتوح والشعر كفضول

(*) بداية، أنت تقيمين منذ سنوات بتولوز بفرنسا، وهو أمر ليس سهلا لشاعرة سورية تركت أهلها في بلدها بحثا عن آفاق جديدة لحياتها العلمية والأدبية، بحكم المآسي والرجات التي طالت المجتمع السوري منذ الربيع العربي إلى الآن بسبب تكلس وجمود بنية التفكير لدى الأنظمة الديكتاتورية العربية وقمعيتها لحرية الشعوب. باختصار، هل اندمل الجرح وألم كل هذه السنوات من الغربة؟
لم يندمل الجرح، هو توسع واكتسب مناحي جديدة مرتبطة بالضياع الشخصي والجماعي والقلق حيال القادم، بالإضافة إلى أن الأزمة لم تُحلّ في أرض الواقع، وعدد القتلى يتزايد كل يوم، والعائلات تتعرض للتشرد والتفقير.

حين تنحل مفردات الهوية بشكل مباغت كما حدث في الحالة السورية، حين يصير الفرد مرتبطا بجرح وطن، من المستحيل أن يندمل الجرح ما لم تتفتت الصورة الصادمة للتفكك الحاصل. إن الجرح يكبر معي كما يكبر داخل الوطن ومع المبتعدين أو الذين بداخله، حتى جرحنا يتطور ليصير هوية، ومع الأيام نتعود على تزيينه وارتدائه. كَوني أكتب الشعر يجعلني لا أستطيع الانفصال عن الصورة الكلية للألم، مرات تتلبس الهوية السورية بصورة حميمية ومرات تصير إنسانية هائمة بين مفردات الطبيعة ووحشة الإنسان، بين فرحه المؤقت ومخاوفه، بين أسراره ورغبته بالتواصل حتى ينسى، بين إحساسه بالمطلق أو بالآني.

(*) صدر لك ضمن منشورات التكوين بسورية ديوانك الشعري الأولى حين ساعدنا الحرب لتعبر” محتفية بالتفاصيل الصغيرة في حياتك وجرحها الخفي تجاه الحرب وويلاتها. إلى أي حد يمكن أن نقول إن نصوصك تنتمي إلى ثيمة الحرب وأوجاعها مع العلم أن هناك نصوصا أخرى لا تطرق باب الحرب بشكل مباشر، ولكن بطريقة غير مباشرة من خلال رصد تأثيرها على بنية وسيكولوجية الذات؟

– لا أستطيع أن أحدد فيما إذا كان الكتاب الأول ينتمي إلى ثيمة الحرب فعلاً، والكثير يسألونني عن موضوعات كتابتي ولا أعرف الجواب. الشعر بالنسبة لي انبعاثات داخلية تأخذ شكل اللغة. ابتعادي عن سورية، التي انقلبت رأسا على عقب، وتغيرُ مفهوم الهوية وإصابته في جذره، دفعاني لطرح أسئلة عميقة تجاه نفسي وتجاه الفرد السوري في مأساته أو حتى فيما قبل مأساته، أسئلة لا تستطيع الإجابة عنها، لذا تنطلق في بحر الشعر والصورة المتخيلة عقليا وعاطفيا حتى تحاول الحصول على أجوبة، ولا أحصل.

وهكذا بدأت كتابتي للشعر كفضول حيال الأشياء، طريقة تعلّم جديدة كتلك التي يتبناها الطفل ليكتشف ما حوله، أسئلة، وإبحار في احتمالات أجوبة من دون نهاية. الحرب عامل اجتماعي داخل الشعر، دوافعه سياسية واقتصادية طبعا، لكن صداه داخل القصائد هو صدى أي عامل باعث للألم، كما المرض، الموت، شوق الحب والحيرة حياله… كلها عوامل قد تخلق مناخاً شعرياً في خيال من يكتب لأنه لا يعرف الأجوبة ويصاب بالحيرة، وكتابته محاولة أخيرة تجاه من لا يملك أسلحة أقوى من كلمته. لذا تجد في الشعر غالبا استغاثة من هو على وشك الاختفاء ومن هو قد أتى لتوه، طازج ومنتهٍ.

(*) وأنت تقيمين في فرنسا هل ساهم شعراء البلد وثقافاتهم في التأثير على مشروعك الشعري، بمعنى آخر، هل هناك شعراء فرنسيين أو غيرهم مارسوا سحراً على تجربتك الشعرية؟
– كل حوار مع الآخر، شاعر أو غيره، هو مبعث على التأمل في المشروع الشخصي والحياتي. إن أي خطوة بحاجة إلى أن تجد طريقها ضمن مشروع منتمٍ للمكان أو للحقبة الزمنية بكل تفاصيلها وخصوصيتها، وهي تتأثر بهذا المحيط، لذا كان التواصل مع الوسط الشعري في مدينتي عاملاً حيوياً حتى على الصعيد الإنساني، من ثم من الجانب الشعري.

والتواصل مع الوسط الشعري في فرنسا بشكل عام ساعدني على تكوين خلية من الأصدقاء بحكم ابتعادي عن أصدقائي الافتراضيين أو الشعراء الذين أقرأ لهم من دون أن أستطيع ملاقاتهم لتبادل الأفكار والهواجس. بشكل فعلي، ومنذ ثلاث سنوات، ثابرت على حضور أتيليه الشاعر الفرنسي التولوزي سيرج بي، وذلك في كهف الشعر، وفي هذا الأتيليه أُتيح لي أن ألتقي بشعراء آخرين، أتبادل معهم الأفكار، أحاول تصحيح أشياء عن ثقافتنا بعد اكتشافي أنها تدخل في وعيهم ضمن كليشيهات جاهزة. التواصل مع الآخرين هو وسيلة للتصالح مع الواقع، ومحاولة إعادة اكتشاف الذات عبر شرحها للآخر. من خلال هذه المحاضرات كان سيرج بي يقدم محاضرات متعلقة بتاريخ الشعر وعلاقته بالأحداث التاريخية في فرنسا، وكان ذلك فرصة جميلة جدا للتواصل مع شاعر عاش حقبة مهمة في الشعر الفرنسي ويشكل علامة مهمة في الشعر الفرنسي المعاصر، هذا بالإضافة لمساعدته لي حتى أقرأ من قصائدي في كهف الشعر في مدينتي، حتى تنتهي التجربة أخيراً بإصدار كتابي.


(*) صدر لك قبل شهور بفرنسا كتاب جديد “موجة جبل مقص” مزدوج اللغة (العربية
/ الفرنسية). كيف جاء تعاونك اليومي مع المترجم، الذي ربما قد يجهل اللغة العربية؟
– هو ديوان مختلف، لأنه كان ثمة قصائد مشتركة عديدة. قمت بالترجمة أنا أولا، ثم قمت بمراجعة القصائد مع عدة أصدقاء. هذا العمل كان بهدف التبادل بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية بهدف مشاركة ما أكتبه مع شعراء المدينة التي أسكن فيها، لذلك حين طلب مني الناشر مجموعة للنشر، كانت لدي فعلا مجموعة جاهزة. التجربة كانت ممتعة وغنية جدا، عبر الترجمة التفاعلية لما كتبته قمت بفكفكة قصائدي، ومرات كثيرة أعدت صياغتها في ضوء لغة جديدة، كأن تُلبس قصيدة لك ثوبا جديدا تجده مناسبا لها أيضاً. لعبة تفصيل اللغة على قياس المشاعر التي تعاود فرض دورها كل مرة، ويكفي إيجاد اللغة المناسبة عند الطرف الآخر، التنقيب عن المفردات والمصطلحات الممكنة لتعبر عن كل مخزونك الذي حمّلته في شعر… كلها ألعاب وتجارب ما كان لي ان أعيشها لو لم أقدم على ترجمة قصائدي بالتعاون مع أصدقاء شعراء فرنسيين.

أهمية الترجمة

(*) إلى أي حد في نظرك الترجمة مهمة بالنسبة لك كشاعرة عربية، أمام التحول الذي طال المشهد الأدبي في السنوات القليلة الماضية، بحيث أن عددا من المؤسسات بات يرعى الرواية على حساب الشعر؟
– إذا كنت تقصد الترجمة للغة الفرنسية، فهي مهمة لي بالقدر الذي يؤمن لي حيزا شعريا في هذا المكان، ويجعل صوتي متأثرا ومؤثرا بهذا البقعة التي أقيم فيها، وأخضع لكل ظروفها الحياتية. مسألة التحول في الشعر وتراجعه لمصلحة الرواية لها علاقة بالشعر والرواية في كل مكان، ويكفي أن أقول بأن العمل الجيد هو الذي يستطيع أن يمثل صاحبه عبر الزمن، وثانيا يجدر ربما بالشعراء أن يكونوا أصحاب مشاريع تجاه ما يحيط بهم، حتى تتمكن قصائدهم من تبني خطاب متماسك يستطيع تمثيلهم والتعبير عنهم. الكتابة، شعراً أو غيره، هي سلاح يخرج من الانفعالات العميقة لمن يكتب، تلك الانفعالات التي إن تمت رعايتها وضبطها تصير خطابا حاداً تجاه كل ما يمكن أن يكون وباء بالنسبة للكاتب، لذا يتوجب على الشاعر أو الراوي أن يبقى متأهباً إنسانياً لكل ظرف، أن يجعل من كبته ومخاوفه من حيث لا يدري منبعا لكتابات هي صرخته الإنسانية في وجه خوفه الداخلي ووجه كل ما يراه من لا عدل أو من قسوة تحك الشعر والأدب حتى يخرج بأقوى ما عنده، عندها لا فرق إن كان المنتج رواية أو شعراً. الكاتب يكتب لما يراه عادلا أو جميلا. وانطباق الذاتي مع القيم الخارجية هو الذي يصنع القيمة الإبداعية للشعر أو للرواية، لذا يبقى الشكل وسيلة. رعاية الرواية على حساب الشعر ظاهرة موجودة في كل العالم، وتدفع الشعراء للتجربة الروائية وترك الشعر، لا بأس طالما أن الخطاب موجود والهوية الثقافية واعية عند الكاتب، ففي عالم المسرح، من يعشق المسرح ومهما اشتغل بالسينما أو بالتلفزيون، يبقى انتماء ما للمسرح يشده. المؤسسات الراعية للثقافة وكما قلت تتجه نحو تشجيع الرواية لأنها تشد القراء أكثر، ودوافع هذا الإقبال من دور النشر هي مادية.

لذا على الشاعر أن يحدد أولوياته، وانطلاقا من هذا أن يكون صادقا مع ما يحب وما يرغب بتحقيقه. قلق الشاعر تجاه مشاعره ولما يحدث حوله هو ما يدفعه للكتابة وليس رغبته بالانتشار، في مرحلة ما عليه أن يفكر بتوازن حتى لا تجرفه الكلمات داخلها ضمن كون من المشاعر المغلقة. أخشى كثيراً من الخوف الباطني كدافع وراء كتابة الشعر، أهلي كانوا يظنون مثلاً بأني أكتب كنوع من التفريغ، هذا المنطق لا يخلو من الصحة، لكن الموضوع أعقد من هذا، أحيانا قد تدفعك الكتابة للجنون، والتجارب كثيرة في التاريخ الشعري، وأحيانا تدخل في دوامة السؤال الدائم هل الكتابة هي المرض أم الدواء؟ حين تشغلك أسئلة كهذه تحل قضية الانتشار في مركز ثانٍ، لكن الاعتراف بالشاعر من أقران له يحميه من الانجراف بالجنون، الشعور في لحظات معينة أن ما يكتبه من جنون أو ألم أو فرح يخرج ليتبدد مثل أثر نجمة داخل ليل كبير. إنه تبدد من طبيعة الشعر، تبددٌ مكون من تركيب كما هو من امّحاء.

قد يشكل الشعر بلغته البديلة وخطابه صدى لمن لا يملك شيئاً سواه

(*) إلى أي حد ساهمت الحرب في تثوير هذا الخطاب الشعري للجيل الشعري الجديد، سواء داخل سورية أو لبنان أو في العراق أو حتى في فلسطين؟
– الحرب ساهمت في تثوير الخطاب الشعري، لا أعرف إن كان هذا التوصيف صحيحا، لكن من الطبيعي أن يتأثر الفن والشعر بالتحولات التي حدثت والأسئلة الكبيرة التي وُجدت فجأة، وأعتقد أن الخطاب الشعري يحمل عوامل ثورته بداخله ومن طبيعته، وإلا تتجمد حيويته الكامنة فيه والتي هي جوهره. شعرية الخطاب المتوازي مع الحدث تكمن في قدرته على محاكاة ما يحدث من دون تكلف، وعلى التأمل حين يكون الحدث هو العامل الأهم، سواء بقسوته أو جذريته أو بانتظار ما سيحمله من نتائج.  ومرات يكون الواقع أكبر من أي مستوى شعري وأسرع مما تريد اللغة قوله… حين نكتفي بالكتابة فلأننا نشعر بأننا بعيدون عن مركز التغيير، سواء بسبب البعد المكاني، أو بسبب الشعور بالعجز بعد مدة من الزمن، وبالصدمة والخوف، بملامسة ما يشبه اليقين من بعيد، لأن حدوث الحرب وخدش مخزونك المادي والمعنوي الذي كنت تستقي منه إبداعك هو حدث قاطع للشك، ثمة حرب، ثمة موت، ثمة خراب، ثمة تغير وانتظار لأمل يجعلك ممتلئاً بالشك مرة أخرى. وقد يشكل الشعر بلغته البديلة وخطابه صدى لمن لا يملك شيئا سواه.

*ناقد مغربي

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.