الجيزاوي .. النجم الذي أصبح في شهرة “كرارك جابر” بتاع “هوليوت”!!

عام 1970 التقيته وسط شلة من معارفه وأصدقائه الأنتيم يجلس علي مقهي بحي الجيزة فطلبت منه الكلام ولكنه رفض الكلام وحجته في ذلك أنه زعلان من الصحافة التي لا تقدر قيمته .. ” واخد علي خاطري منها جوي يا بوي” .. حاولت بكل الطرق ولكن فشلت كل المحاولات بالرغم من وساطة بعض أفراد الشلة  “محمود السعدني وعباس الأسواني وعبد الرحمن الخميسي وزكريا الحجاوي” .. أحسست بأننا – عمر الجيزاوي وأنا – غريمان في حلبة ملاكمة والجمهور يترقب النتيجة .. تري من سينتصر؟!

أنا بالطبع وبالضربة القاضية التي جاءت نتيجة كلمة قلتها له : أنت وتاريخك ملك للوطن.. ومن حق عشاقك وساكني الوطن حتي الذين لم يعاصروك أن يعرفوا من أنت ؟!

لحظة صمت كان حكم المباراة يعد فيها بصوت عال .. واحد .. اتنين .. ثلاثة حتي عشرة.. قانوناَ في اللعبة إذا لم ينهض المهزوم بعد طرحه أرضاَ حتي نهاية الرقم العاشر يعتبر الغريم منتصراَ .. الجيزاوي استسلم لكلمة “أنت وتاريخك ملك للوطن”.. لم يستطيع مقاومة إغراء الجملة .. اعتبرني “الحكم” منتصراَ .. رفع يدي وسط الحلبة .. صفق الجمهور .. وراح عمر الجيزاوي يحكي ..

كان ياما كان .. والحارة التي نشأ فيها اسمها “درب الروم” بالجيزة وكانت كل المنازل والمخازن الموجودة بها وأيضاَ الأرض المحيطة ملكاَ لوالده، الوالد كان يعمل في مهنة “المعمار” أكثر من مائة عامل يعملون عنده “باليومية”، وسط هؤلاء عاش عمر الجيزاوي فتره صباه، كل ما حوله أكياس رمل وطوب وزلط وأكواب شاي أسود، وكراسي دخان معسل وأصوات غنائية تنبعث من أفواه العمال تحثهم علي مضاعفة الجهد، و “هيلا بيلا .. بيلا هيلا .. ياللا ياريس” ومن هنا – والكلام لعمر الجيزاوي – أحببت الغناء، رحت أردد أغاني هؤلاء الناس بصوتي، أكثر من ذلك حفظتها كما أحفظ اسمي وكان أشهرها أغنية يقول مطلعها “أبو سنة دهب لولي .. سلم علي لما قابلني”  بعدها تركت “المعمار” واحترفت الغناء مطرباَ لكل أفراح الجيزة والضواحي المجاورة، أبو هريرة.. وساقية مكي.. وسوق الأحد.. حتي نهاية عام 1935 إلى أن كبرت وأصبح في استطاعتي أن أسهر الليل.. سرحت في شارع الهرم وأيامها كانت الملاهي من أول الشارع حتي ترعة المريوطية، ملهي يوسف المنيلاوي.. داوود حسني.. إخوان عكاشة.. فوزي منيب.. علي الكسار.. والأخير هو الذي اكتشفني وقدمني للناس .. اشتغلت في الملاهي الليلية دون أن يؤثر ما بداخلها من أفعال منافية للآداب علي أخلاقياتي، من يومي وأنا أبغض تلك المقولة التي قالها فيلسوف لا أعرف اسمه و ” ليكن حظنا من الخمر والنساء والفرفشة اليوم ومن الوعظ والدواء غدا” .. مستقيم ولله الحمد فبعد انتهائي من العمل علي البيت مباشرة .. وبالتأكيد لا تعرفون باقي القصة.

كان ياما كان .. لا يزال عمر الجيزاوي يحكي تخصصت في تقديم اللون الصعيدي من الغناء، غنيت للناس في أكثر من مكان “مش ممكن أبداَ أصبر وأرضي أعيش في بلادي ذليل.. وسلاحي معاي واتشمر لأجل أحارب كل دخيل.. دانا مصري وأخويا الأسمر جندي سوداني وأبونا النيل .. بشطارتي لما أتشجع بكرة أترقي وأبقي شاويش .. يا عيش.. يا عيش” بمجرد الانتهاء من تقديم هذه الأغنية بالتحديد كانت الصالة تهتز من تصفيق المشاهدين إعجاباَ .. أصبحت مشهوراَ في شهرة “كرارك جابر” بتاع “هوليوت” .. سجاير إيه يا أستاذ يخرب شيطانك .. دي “هوليوت” بتاعة السينما اللي في بلاد فرمصا “يقصد فرنسا” .. كتبت أول رسالة في حياتي من شدة الفرحة إلى أبن عمي في الصعيد أنقلها لك حرفياَ “حضرة ولد عمنا المبجل حمدان.. من ذوي العشر فدادين وجاعد بجهوة البندر بجوار محطة الجطر.. أدامه الله .. من بعد مزيد السلام والأشواج والسعال عن صحة سلامتكم وصحة الأندال “يقصد الأنجال” نخبركم بأننا عال جوي والأشيا معدن.. وما نجصناش غير رؤياكم .. والود يا ولد العم تزورنا في مصر علشان تشوف الأمله اللى أنا كد إيه فيها والناس عما توجفني وأنا رايح جاي في الطكس عما يجولوا عمر “الديزاوي” أهو .. وبالتأكيد لا تعرفون باقي القصة..

كان ياما كان – والكلام لعمر الجيزاوي – عام 1948 ابتدأت العمل في السينما .. قمت ببطولة فيلم “خضرة والسندباد القبلي” مع درية أحمد والدة الفنانة سهير رمزي ومن إخراج السيد زيادة.. بعدها عملت في أكثر من مائة فيلم كان آخرها “فالح ومحتاس” عام 1955.. هذا إلى جانب الفرقة الاستعراضية التي كونتها وكنت اعمل بها طوال الموسم علي مسرح الأزبكية في الشتاء وفي الصيف علي مسارح الإسكندرية.. لن تصدق إذا قلت لك إنني كنت أسخر بالمونولوج من أفعال الملك السابق لدرجة أنهم وضعوا أسمي في كشوفات البوليس السياسي علي أنني “شيوعي”، هددوني بعدها بقولهم لن تجد عملاَ بعد الآن وسيفتش البوليس بيتك كل يوم وربما تدخل السجن بحجة أو بأخري سنلفقها لك.. وهناك حل إذا قبلته تركناك، لابد أن تشيد في أغانيك بالملك وكل أفراد الأسرة، وهو ما رفضته بالثلاثة، الأمر الذي جعلني أغلق الباب علي نفسي مقرراَ الاعتزال حتي قامت الثورة عام 1952 وبعدها خرجت أغني للناس في ميدان الجمهورية.. “مصر تتكلم عن نفسها، القلب سلم في حبها.. الفرح عم وفاض ع البلاد.. رحمة علينا وعلي العباد.. وعقدة السودان حلها.. مصر تتكلم عن نفسها” ومجموعة أغاني كثيرة هادفة قررت أن أسخر فيها لكل ما هو بدعة منها بدعة الفستان الشوال ..” الشوال ماله الشوال.. موضة عال يا ولد خال.. مش محزق.. مش ملزق.. بس اسمه جه شمال”.. في إمكانك أن تطلق علي لقب مصلح اجتماعي ولست بـ “مهرج” يقدم لك مجموعة نكت من عينة..” واحد حلاق شاط الكورة جت في المقص” .. نكته بايخة ليس لها أى هدف .. أنا أعتنق حكمة فيلسوف اسمه “برجسون” كما تعلمتها من المثقفين الذين أجلس وسطهم يقول فيها بأن “الضحك لابد أن يمتزج بالفلسفة .. لابد وأن تكون له حكمة وغاية”.. مونولوجاتي لا تقل في مستواها عم مسرحيات “برناردشو” كما نبهني إلى ذلك – عبد الرحمن الخميسي – وإذا كان خلف مسرحيات “برناردشو” علم اجتماعي مدروس ستجد شيئاَ ذا قيمة في كل ما أقدمه أيضاَ !..

وبالتأكيد لا تعرفون باقي القصة..

كان ياما كان – والكلام لعمر الجيزاوي – زرت بعد ذلك معظم البلاد الأوروبية أكثر من خمس وثلاثين دولة من ضمنها باريس قدمت علي مسارحها الكثير من أعمالي.. تستطيع أن تطلق علي لقب “شارلي شابلن العرب”.. صورتي طبعوها هناك في الخارج علي علب الكبريت .. تزوجت “خواجاية” من هناك.. بنت حلوة كانت تجئ إلى المسرح كل يوم لرؤيتي.. سقطت عليها عيناي جالسة في أول صف تضحك.. جاءت بعد العرض خلف الكواليس لتهنئني وتضمني إلي صدرها وهي تنطق أسمي بصعوبة “أوومر” تزوجتها فترة ثم افترقنا بسبب اختلاف التقاليد.. تزوجت بعدها للمرة الثانية والثالثة تابتة كما يقولون.. آخرها كانت أم العيال.. عندي من العيال تسعة.. أسماؤهم دمها خفيف “طعمة” و”تحفة” و”فرفشان” و”جلاء” و”أسرار” لابد من التغيير فالناس زهقت من أسماء معادة ومكررة .. نفيسة .. وجمالات وأم هاشم .. وست أبوها .. وبالتأكيد لا تعرفون باقي القصة ..

كان ياما كان – والكلام لعمر الجيزاوي – عدت من باريس ورأسي ملئ بالأفكار .. حاولت أن أنفذ بعضها في مسارح الدولة عندنا للارتقاء بالمستوي الفني والتكنيكي ضمنها عملية تنسيق الميكروفونات بحيث يصل لك الصوت هادئاَ من كل جوانب المسرح وليس من جانب واحد فتنطلق في “أودانك” وكأنها مدفع الإفطار!.. وقتها عينوني بمرتب 50 جنيهاَ في الشهر بالفرقة القومية للفنون الشعبية التي عملت بها لمدة عام كامل حتي كان ذلك اليوم المقرر فيه السفر إلى الصين الشعبية .. وبعض الدول الأخري وطلبوا مني هناك – مدير الفرقة – أن أضع “عصا” في “قفاي” وأهرش كفقرة مضحكة أؤديها أمام الأجانب في الخارج ولكني رفضت.. أصررت علي الرفض حتي وصلني ذلك الخطاب الميري الذي قطعوا به عيشي.. تطبيقاَ للبند السابع من العقد المحرر بين الفرقة وبينكم قررنا الاستغناء عن خدماتكم اعتباراَ من يوم 11/9/1957.. عزائي الوحيد في ذلك الوقت تلك الكلمة التي كتبها أحمد الصاوي في أهرام السبت 22 سبتمبر 1957 ..”أذهلني ما سمعته من عمر الجيزاوي عندما طلبوا منه في منظر من مسرحية أن يسوق “حمارة” بأحد الأسواق وهو يهرش في قفاه بالعصا ولكنه رفض فالمنظر كان القصد به الزراية بمصر .. فمن غير المعقول أن تقطعوا عيشه لأنه حافظ علي سمعة وكرامة مصر”.. وبالتأكيد لا تعرفون باقي القصة..

كان ياما كان – والكلام لا يزال لعمر الجيزاوي – من ساعتها وأنا قابع في المنزل.. أقوم من النوم أنام تاني.. أغلقت علي نفسي الباب في غضب.. انتابني اليأس وأصابني الاكتئاب.. ضاعت الابتسامة التي كانت تلمع كما فص اللؤلؤ فوق فستان غانية لتبدو الآن علي فمي كما جزء من قطعة صفيح صدئ.. أحتفظ في ركن من إحدي حجرات منزلي وحتي الآن بكل قطع الاكسسوار التي كنت أستخدمها.. قدرة العرقسوس.. العصا الصعيدية الطويلة.. العمامة ذات الثلاث طوابق.. أصبحت رؤيتي لهذه الأشياء المعطلة تزيد من أحزاني.. الفنان يا أستاذ زي الفانوس اللي في الشارع إذا انطفأت اللمبة لابد من تركيب بدلاَ منها علشان الفانوس “ينور”..

للأسف ما حدش سأل عني .. علشان كده أنا انتهيت و”انتطفيت” علي وزن أنا هويت وأنتهيت .. و.. توتة.. توتة.. خلصت الحدوتة!..

 

بقلم / فؤاد معوض

المصدر/ مجلة الإذاعة والتليفزيون العدد3925

5 يونيو 2010

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.