سواء كانت الموسيقى التصويرية المرافقة لصرخة الحرية الأخيرة من ويليام والاس في Braveheart أم موسيقى “الآن نحن أحرار” من فيلم Gladiator أم موسيقى الهجوم على الجيش في The last Samurai مثلًا، فإنها جميعًا نماذج لموسيقى مناسبة أضيفت إلى المشهد المناسب في اللحظة المناسبة، وهي أحد أهم العوامل لتخليد مشهد سينمائي في ذاكرة الجمهور ربما إلى الأبد.

تلعب الموسيقى التصويرية دورًا حساسًا في رسم معالم إضافية للقصة لا يمكن كتابتها، وإيصال مشاعر لا يمكن للممثل تقمصها أو النطق بها، فهي اللمسة الأخيرة التي تغلف المشهد السينمائي بسحر خاص ينقل المشاهد إلى عالم آخر، يسكنه أبطال العرض الذي يشاهده.

كما تعمل الموسيقى التصويرية أحيانًا على كشف الأحداث المستقبلية للفيلم، إذا استطاع المشاهد فهمها وتحليلها، فهنالك مشاهد لا يمكن أن نراها بعظمتها الحاليّة لولا وجود موسيقاها التصويرية، إذًا، العمل على موسيقى لعرض سينمائي أو تليفزيوني هو أمر حساس وليس بالسهل، يخصص له الجوائز الفنية العريقة، فكيف يتم العمل عليها؟ وما الأمثلة على رمزية الموسيقى التصويرية في العروض السينمائية؟

فريق عمل الموسيقى التصويرية

بعد الانتهاء من كتابة السيناريو وقبل البدء بالتصوير، هنالك اجتماع مهم يجري بحضور كل من المنتجين ومخرج الفيلم، يناقش في هذا الاجتماع طبيعة الموسيقى المطلوبة والمزاج العام المراد تمثيله في هذا العرض، سواء كانت موسيقى البداية والنهاية أم الموسيقى التصويرية للمشاهد المتفرقة، وبعد الاتفاق على طبيعتها، ينتهي دور المنتجين، لينتقل العمل إلى طاولة ما يسمى بـ”مشرف الموسيقى”، حيث ينقل المخرج طبيعة الموسيقى المطلوبة له، ليبدأ مشرف الموسيقى أو ما يسمى بـMusic Supervisor بمشوار البحث عن الإيقاعات والمعزوفات الأنسب.

ما طبيعة عمل مشرف الموسيقى؟

الإشراف على الموسيقى هو عبارة عن مهمة الاستماع إلى مئات المقاطع الصوتية والمعزوفات، ليشكل لاحقًا مجموعة منها تمثل الموسيقى التصويرية للعمل الفني من بدايته حتى نهايته.

الموسيقى التصويرية

بالإضافة إلى اختيار الموسيقى، يكون المشرفون مسؤولين عن تصفية حسابات كل أغنية أو موسيقى مع ناشريها وأصحاب حقوق الطبع والنشر، من خلال الحصول على إذن ترخيصها بحيث يمكن استخدامها بشكل قانوني، وهذا يشمل إجراء المفاوضات مع أصحاب هذه المقاطع الموسيقية عن السعر ليكون ضمن الميزانية المخصصة للموسيقى التصويرية.

أما في الأفلام التي يخصص لها مؤلف موسيقي خاص بها، فمهمة المشرف هنا تكمن بتقديم الدعم اللوجيستي والإداري للمؤلف، مثل توظيف أعضاء الفرقة الموسيقية وتأمين المعدات، ذلك بالإضافة إلى مهمته باختيار موسيقى المشاهد بالاتفاق مع المخرج.

ماغي فيليبس مشرفة موسيقية لمسلسل Snowfall وFargo وغيرهم تقول في إحدى مقابلاتها الصحفية إن طبيعة عملها تحتاج إلى شخص متعاطف جدًا، لأن عليه أن يضع نفسه محل أبطال الفيلم، حتى يستطيع اختيار الموسيقى الأنسب.

المؤلف الموسيقي

أما مهمة المؤلف فهي صنع موسيقى تحاكي قصة الفيلم، لتزيد من حدة المشهد أو تضخم وقعه العاطفي لدى المشاهد، يعمل المؤلف مع فرقة موسيقية بالإضافة إلى المشرف الموسيقي والمخرج والمنتجين.

هانز زيمر المؤلف الموسيقي الألماني لعدة أفلام ضخمة مثل: Pirates of the Caribbean films, Interstellar, Gladiator, Inception, Dunkirk, and The Dark Knight يرى أن من أهم عوامل تأليف موسيقى فيلم هي فهم أبطال القصة ودراسة ماضيهم وآمالهم وأحلامهم وأي لحظات حاسمة جعلتهم على ما هم عليه، ففهم رحلتهم وكيف يتفاعلون مع العقبات، سوف يساعد في تحديد الموسيقى الملائمة لهم، “ارتبط بشخصياتك وابحث عن أرضية مشتركة معهم حتى تتمكن من بناء سمات الموسيقى من خيالك الخاص والحقيقة العاطفية لهم”، هذا ما قاله زيمر في مقابلة صحفية له.

أمثلة على رمزية الموسيقى التصويرية

موسيقى Godfather للمؤلف نينو روتا

يفتتح الجزء الأول من الفيلم بشاشة سوداء، مما يجعل احتكاك المشاهد الأول مع الفيلم تجربة سمعية بحتة، عن طريق صوت البوق الشهير المرتبط بشخصية فيتو كورليوني، ومن ثم يبدأ المشهد الأول وهو مونولوج بوناسيرا. الشخصان الوحيدان المعروضان على الشاشة هما Bonasera و Vito Corleone مع وضوح وجود فيتو في موقع السلطة، وهذه المرة الأولى التي يرتبط فيها البوق بمشهد مع فيتو في الفيلم، ويتم توضيح هذا الارتباط في المرة التالية التي نسمع فيها صوت البوق في الدقيقة 46:05 ، عندما يتم إطلاق النار على فيتو، بينما ينزلق محتضرًا على سيارته، يتم تشغيل اللحن ذاته على مفتاح أعلى.

ولا يظهر هذا اللحن في الفيلم إلا بوجود فيتو على الشاشة، ولا تسمع هذه الموسيقى بغياب فيتو إلا في المشهد الأخير، عند تقبيل يد ابنه مايكل، في إشارة إلى أن هذه الموسيقى لم تكن مرتبطة بشخص فيتو، وإنما بشخصية الدون أو العراب التي كان يمثلها، وظهور الموسيقى عند تولي ابنه هذا المنصب إشارة إلى أن هذه العائلة لن تختفي بوفاة الأشخاص، بل يمكنها دائمًا إعادة إحياء نفسها بتناقل هذا المنصب.

موسيقى Gladiator للمؤلف هانز زيمر

وفقًا لما جاء بإحدى مقابلات هانز زيمر الصحفية، أنه أراد صوت امرأة رقيق وحنون ليرافق الموسيقى التصويرية التي ألفها للفيلم، نظرًا للطبيعة الشاعرية لمشهد الفيلم الافتتاحي، الذي يصور أحد حقول القمح الواسعة مع يد تلامس سنابلها برفق، إلى جانب صوت المغنية.

أراد زيمر بث الحياة في صورة موطن ماكسيموس، وأن يشدد على أهمية المكان الذي كان فيه البطل سعيدًا يومًا ما، الذي تحول لاحقًا – مشهد الحقل مع الموسيقى – إلى رمز الجنة التي سيذهب إليها ماكسيموس عندما يغادر هذا العالم.

موسيقى The Rains of Castamere من مسلسل صراع العروش

هي واحدة من المعزوفات التي ألفها الموسيقار الألماني رامين جوادي خصوصًا للمسلسل، حيث ألف مجموعة مقاطع موسيقية مخصصة لكل عائلة، كل منها لتحاكي نوعًا خاصًا من المشاعر، وهذه الموسيقى تحديدًا إحدى معزوفات “اللانستر” المخصصة لبث الرعب والخوف في المشهد لدى حضورها.

من أشهر الأماكن التي وضعت فيها هذه الموسيقى في سلسلة صراع العروش هي الحلقة الشهيرة والمعروفة باسم “الزفاف الأحمر”، وعلى الرغم من أن معظم المشاهدين تلقوا صدمة مريعة بنهاية هذه الحلقة عند مقتل العديد من الشخصيات المحببة لهم، لكن المخرج مهد لهذه المذبحة عندما وضع هذه الموسيقى مسبقًا.

ويبدو أن المخرج عمل مع المؤلف الموسيقي على خلق هذا الربط بين الموسيقى وعائلة اللانيستر وتاريخها الدموي من خلال حلقات سابقة، فقد كان من الواضح لدى تشغيلها في الحلقة التالية في مشهد لا يوجد به أي فرد من عائلة لانستر، أن هنالك مذبحة على وشك الحدوث من تخطيطهم.

جوائز

تخصص جوائز الأوسكار والإيمي وغيرها جوائز عديدة لأفضل تأليف أو إخراج موسيقي، ولكن مؤخرًا خصصت هيئة جوائز الإيمي جائزة جديدة للإشراف الموسيقي، وهي خطوة مهمة في إطار لفت النظر إلى أهمية الدور الذي يلعبه المشرفون الموسيقيون بالمساهمة بإنتاج الأعمال الفنية، إلا أن المشرفين الموسيقيين ما زالوا يعانون من رواتب غير عادلة يتقاضونها بالمقارنة مع ما يحصل عليه المؤلفون، رغم العمل الضخم الذي يقع على عاتقهم.

في الأعمال العربية

يلاحظ مؤخرًا الانتشار الواسع الذي تحققه أغاني المسلسلات العربية، ويعتقد البعض أن السبب في ذلك يعود إلى أن أغنية البداية للأعمال الفنية تحاكي قصة إنسانية ما، فهي محكومة بتقديم نموذج فني فريد من حيث الكلمات واللحن، يمثل العمل الفني بأبعاده الفنية والإنسانية.

وفي حديث لنون بوست، رأى الصحفي السوري قتيبة ياسين المهتم بهذا النوع من الموسيقى، أنه اللون الفني الوحيد الذي استطاع الحفاظ على مستواه إلى حد كبير، ويقول: “برأيي الموسيقى التصويرية بقيت خارج معادلة الهبوط العام للموسيقى لأنها لا تخضع لقاعدة السرعة التي تسم هذا العصر ووسائل تواصله، وبالتالي لا تخضع لقاعدة (الجمهور عاوز كدا)”، ويضيف قتيبة بأن أغاني المسلسلات غير مقيدة بالمواضيع التقليدية التي تقدمها الأغاني الشعبية التي تتمحور حول موضوع الحب، وإنما تقدم مواضيع تلمس جوانب أخرى من الوجدان الإنساني.

“هذا النوع من الموسيقى غير مؤطر بمواضيعه مثل الغناء والموسيقى العادية التي عندها محور وحيد وهو الحب بنسبة 99%، أما هو فمواضيعه متعددة وأفقه مفتوح، يغني إضافة للحب لسمات إنسانية قد تكون أهم من الحب، مثل العنصرية والطبقية بأغنية مسلسل “الوسية”، أو عن لواعج الشر الموجودة داخل كل نفس بشرية بأغنية مسلسل “أرابيسك”، وقد أسس لهذا النوع من الفن برأيي عدد من المبدعين بهذا المجال معظمهم توفي مثل ميشال المصري وعمار الشريعي وراجح داوود ومودي الإمام وحسن أبو السعود وعمر خيرت”، طبقاً ياسين.

ويزداد جمهور موسيقى الأعمال الفنية يومًا بعد آخر نظرًا لقدرتها على تمثيل طيف واسع من المشاعر من خلال اللحن والكلمة، بالإضافة إلى قدرتها على فرض نفسها بقوة على الساحة والثبات بذاكرة المستمع من خلال القصة الإنسانية الكامنة وراء كل منها، التي عمل عليها كادر كامل من مؤلفين وملحنين وممثلين ومخرجين، مما يجعل الأغنية الشعبية بالمقارنة معها متواضعة جدًا بنظر البعض.