تصدق حكمة أن كل إنسان ابن بيئته كأكثر ما يكون في الظروف الصعبة والمعاناة الكبيرة التي عاشها الدكتور رضا سعيد مابين نير العثمانيين الذين كانوا يعدون دمشق ولاية ضمن مساحة خلافتهم في بداية حياته ونشأته عام 1876 ومابين الانتداب الفرنسي الذي بسط استعماره على سورية في الوقت الذي بدأت فيه كوكبة من علماء سورية وضع حجر الأساس للمعهد الطبي العربي الذي أصبح فيما بعد الجامعة السورية.. وفي كلا «الوجعين» كان تأسيس منبر وصرح علمي وجامعي خطراً كبيراً يتهدد كلا الطاغيتين العثماني والفرنسي، ومن هنا نستطيع تلمس الأجواء الصعبة التي وضع فيها رضا سعيد كل طاقاته ومعارفه ومهارته لتجاوز الظلم العثماني والعدوان الفرنسي مؤسساً مع زملائه عصراً جديداً من التنوير عبر تأسيس أول جامعة في سورية.
الدكتور رضا سعيد أحد رواد النهضة العلمية ومؤسس الجامعة السورية ورئيسها الأول ورائد تعريب دراسة الطب في الوطن العربي كان محور الندوة الشهرية التي تقيمها وزارة الثقافة في مكتبة الأسد الوطنية.
تعريب المناهج
الكلمة الأولى كانت في الندوة للدكتور سامي مبيض لافتاً إلى أن الدكتور سعيد صاحب فكرة تعريب منهاج دراسة الطب رداً على محاولة الاحتلال العثماني فرض «التتريك» موضحاً أن الذي ساعده في تنفيذ فكرته فارس الخوري، حيث شارك سعيد في عمليات التعريب كل من عبد الرحمن الشهبندر وأحمد العائدي ومرشد الخاطر ومحمود حمودة والدكتور عبد القادر زهرة وشملت كل ما يخص مؤسسات الدولة، إضافة إلى سعي سعيد إلى تسهيل الأقساط الدراسية الجامعية وتقسيمها على شهور بمقدار ثلاثة دنانير عند التسجيل وتسعة دنانير كل عام وعشرة دنانير عند التخرج.
فكان نشر العلم وتعليم أجيال من الأطباء والحقوقيين مشروعاً وطنياً لـ «رضا سعيد وفي العام 1917 وخلال الحرب العالمية الأولى عينته السلطات العثمانية رئيساً لبلدية دمشق، إذ كانت دمشق في تلك الفترة تعاني الجوع وآثار الحرب، فركز جهوده على محاربة المجاعة وإبعادها عن أهالي دمشق، وبالفعل استطاع التخفيف منها.
حاولت السلطات الفرنسية إغلاق المعهد إلا أن الدكتور «سعيد» عمل جاهداً دون الإغلاق، ونجح في ذلك واستطاع أن يوفر الازدهار والنمو للمعهد، كما نجح في إبقاء اللغة العربية لغة التدريس فيه، واشتغل في تعريب المصطلحات العلمية والطبية.
بعد انسحاب القوات التركية من سورية ولبنان، ساعد في تأسيس معهد الحقوق، وأصبح رئيساً للجامعة السورية في العام 1923.
حالة وطنية عالية
بدوره أشار الدكتور نبيل طعمة إلى أن الدكتور سعيد الذي عاش سنوات حياته بين الاحتلالين العثماني والفرنسي كان صاحب وطنية عالية اتجه في طريق العلم والثقافة محاولاً كل جهده أن يقدم ذلك لوطنه وبلده، فكان صاحب فكر وقلم وصاحب إرادة علمية، وأكثر ما يهدف إليه هو خروج بلده إلى الحرية واللحاق بركب العلم والحضارة والتنوير ولاسيما أنه مؤسس التعريب العلمي، فحين وضعت الحرب أوزارها كان على رأس العاملين من أجل إعادة افتتاح المعاهد العليا المغلقة، فقد استطاع الدكتور «سعيد» وبمعاونة من آزره في هذا العمل تأسيس كلية الطب، التي سميت أولاً «المدرسة الطبية العربية»، ثم أطلق عليها اسم «الكلية الطبية العربية» وذلك عام 1919، وفي العام 1920 سميت «المعهد الطبي العربي» ليحل محل المكتب الطبي التركي رغم جميع العقبات التي صادفته، وعملت الى جانب الدكتور «رضا سعيد» مجموعة من أبرز أطباء ذلك العصر، مثل الدكتور «عبد الرحمن الشهبندر»، والدكتور «أحمد العائدي» وغيرهم، وقد انتخب الدكتور «سعيد» رئيساً له نظراً لخبرته الواسعة في الأمور الإدارية وذكائه ومرونته، وكان أستاذاً للأمراض العينية فيه».
يحب الثقافة والمسرح
ولفت الدكتور وائل بركات إلى أن رضا سعيد كان يحب ثقافة المسرح وكانت علاقته جيدة بالمسرحيين جورج أبيض ويوسف وهبي، ودعاهما مراراً إلى دمشق وقاما بتقديم عروض تبرعاً بريعها إلى الجامعة بناء على طلب رضا سعيد، وأصدر «سعيد» كتابه المترجم للغة العربية «مبحث في أمراض العيون للمتمرنين» عام 1920 وهو من تأليف الدكتور الفرنسي آ. كانتونه»، والكتاب مزود باثنتين وخمسين صورة تتعلق بموضوع الكتاب، كذلك انصرف إلى تشكيل الهيئة التدريسية، وإيفاد الأساتذة إلى الخارج للتخصص، وحثهم على تعريب المصطلحات العلمية والطبية ونقلها إلى اللغة العربية وساعد في إصدار مجلة المعهد الطبي باللغة العربية.
رجل لكل الأقدار
مدير الندوة الدكتور إسماعيل مروة قام بتقديم لمحة شاملة عن حياة سعيد موثقة بالأفكار والتواريخ والانتقال من مكان إلى آخر منذ ولادته عام 1876 وحتى رحيله سنة 1945وهو أبو الجامعة السورية، وقد وصفه الدكتور «صباح قباني»: «رجل لكل الأقدار» فقد رفع شأن بلده ولغته، فكان له فضل على كل طالب سوري درس وتخرج أو مازال يدرس، فقد ظلت جامعة دمشق مرتبطة باسم الدكتور «رضا سعيد» الذي يفتخر به كل السوريين.
تحدث الدكتور مروة عن نشأته الأولى بقوله: «ولد الدكتور رضا سعيد في دمشق عام 1876 أثناء فترة الاحتلال العثماني، عندما كانت ملامح النهضة العربية قد بدأت تتضح، بكل ما تحمله من أفكار التنوير وإصلاح الأنظمة الاجتماعية والمعيشية والتعليمية، وإعادة المجد للغة والتاريخ العربيين.
تلقى «سعيد» علومه الابتدائية والثانوية في المدرسة الرشيدية العسكرية، وتخرج فيها عام 1903 حاملاً رتبة رئيس في مدرسة التطبيقات السريرية في الفلخانة، وعين بعدها مساعداً للسريريات العينية في المدرسة الطبية العسكرية، ثم معاوناً للفريق التركي «أسعد باشا».
في العام 1908 رفع إلى رتبة (قول آغاسي)، وفي العام التالي أوفد إلى باريس للاختصاص كطبيب مختص بالأمراض العينية، حيث درس في مستشفى (اوتيل ديو) مدة سنتين، نال بعدهما شهادة الاختصاص في الطب العيني من جامعة باريس، وحصل على لقب (مونيتور) أي طبيب باحث.
بعد عودته من باريس الى دمشق عام 1913 عين طبيب عيون أو كحالاً كما كان يسمى آنذاك، في المشفى العسكري المركزي في باريس، وفي عام 1914 عين رئيساً لأطباء الخط الحديدي الحجازي، ثم رئيساً للخطوط الحديدية السورية.
في عام 1925 اختير ليكون وزيراً للمعارف، فصرف كل جهده لإصلاح التعليم ووضع مشروع البكالوريا السورية، وفي العام 1926 أعيد إلى رئاسة الجامعة السورية، إضافة إلى رئاسة المعهد الطبي العربي وأستاذ أمراض العيون فيه، وعمل خلال توليه منصبه على توسيع الجامعة السورية فأسس فروعاً للمعهد في أقسام الصيدلة وطب الأسنان والتمريض والقبالة، وفي عام 1929 أصبحت البكالوريا السورية بفضل «رضا سعيد» شرطاً لقبول الطلاب في الجامعة، وبعد جهد كبير قام به «سعيد» وعدد من زملائه في تعريب الكتب والمحاضرات أصبحت الجامعة السورية وأيضاً بفضله، الجامعة الوحيدة في العالم التي تدرس باللغة العربية. ليعيد للغة العربية وهجها كلغة تدرس بها العلوم إلى جانب لغات العالم.
وبعد الاستقلال انتقل المعهد من جوار المستشفى الوطني، إلى جوار كليات الجامعة الأخرى التي أنشئت وصار اسمه «كلية الطب».
في العام 1936 وبعد سنوات من النضال في سبيل ارتقاء التعليم في سورية أحيل «سعيد» إلى التقاعد بطلب منه ليتفرغ إلى عائلته وحياته الشخصية، ومن خلال عمله كعميد للمعهد الطبي العربي والجامعة السورية نجح رضا سعيد في كسب احترام الأوساط العلمية والحكومية داخلياً وخارجياً.. ورغم انخراط طلابه في العمل الحزبي والسياسي إلا أنه حاول جهده لعدم تسييس نشاط الجامعة.
توفي الدكتور رضا سعيد في دمشق ودفن فيها عام 1945 بعد أن رفع شأن البلد ودعم اللغة العربية وورثنا ما نعتز به إلى الآن وهي جامعة دمشق وما تلاها من جامعات سورية لاحقة.
الجدير ذكره أن «رضا سعيد» المؤسس تزوج مرتين وزوجته الأولى كانت سيدة فرنسية أنجبت له «رفيق وعدنان» ثم توفيت وكان حزنه عليها كبيراً وهو والد وزير الصحة الأسبق الدكتور «رضا سعيد».. وتزوج سيدة سورية من اللاذقية وقد أنجبت له ثلاث بنات وولداً.
يشار أيضاً إلى أنه نال عدداً من الأوسمة نذكر منها:
وسام الاستحقاق العثماني، الوسام المجيدي، وسام الحرب العثمانية، وسام التاج الحديدي من حكومة النمسا، وسام باريس في جوقة الشرف الفرنسي ووسام كوماندور، وسام المعارف المصري، وسام الصليب الأحمر، وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، والوسام الأهم أن أحد شوارع دمشق الكبيرة المجاورة للجامعة يحمل اسم «رضا سعيد» تكريماً وتخليداً لذكر مؤسس الجامعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

21 مارس، 2015