عن معتصم الدالاتي.. سأبدأ كلمات وداعك بطرافتك اللاذعة، حين كنا نجتمع في بيتك في أواخر تسعينيات القرن الماضي وكان أغلبنا شعراء، إن دللنا الشاعر «فلان» على بيتك، فكنت تقول: «شو هالشاعر إذا ما بيعرف وين بيتي؟!»، فنضحك ملء قلبنا. ومن طرفتك أزعم أن معظم مبدعي مدينة حمص بتفاوت أجيالهم وتعدد حقول إبداعهم دخلوا بيتك ينشدون البهجة التي كنت تصنعها ببداهتك اللافتة، ويشغفون بكيفية تواصلك مع كل أنواع الإبداع والفنون. وليس هذا فحسب بل إن كثيرين من مدن سورية أخرى شاركوا في فعاليات ثقافية في حمص زاروك وتزودوا من طرائفك ضد البؤس الكامن في هذه الحياة.
أعترف بأنني لم أشارك في تشييعك، كما كل مرة أهرب فيها من تشييع الأحبة والأصدقاء الذين رحلوا قبلك، لأبقيكم أحياء فيما تبقى لي من ألم. وستبقى يا صديقنا معتصم منارة حب وفرح، وصاحب بسمة لم تغب عن وجهك حتى عندما عدناك قبل رحيلك في المستشفى بأيام قليلة أنا وصديقنا مصمم الديكور أنور إلياس، اعتذرت لنا ببسمة وكلمة طيبة وتابعت نومك بسبب كثرة الأدوية التي أسكت بها الأطباء لك آلام المرض. وكل من عرفك يدرك أنك كنت لا تكترث بأي قانون أو عرف حين تأتيك الطرفة حتى خلال إلقاء أي محاضر محاضرته، سواء كانت الطرفة لمصلحته فتكسر بعض الشيء من دسم محاضرته، أو ضده فتعوضنا مما أصابنا من جفافها.
لمن تتراقص الألوان؟
درس معتصم الدالاتي الفن التشكيلي في مصر ومارس الرسم سنوات قليلة، لكنه غادره إلى كتابة النقد التشكيلي الذي لم يمارسه طويلاً أيضاً، مختاراً الحياة بكل تفاصيلها وألوان فنونها، فكان من المشاركين دائماً في الجلسات النقدية التي كانت تعقد عقب عروض مهرجان حمص المسرحي في الدورات التي اتبعت هذا النهج، يقول رأيه وفق طريقته في إلقاء الطرفة، فلا يغضب منه مخرج العرض كثيراً، ووثق جهده النقدي في نهاية القرن المنصرم بمادة نقدية لبرنامج «لمن تتراقص الألوان» للتلفزيون السوري تناول فيها التجربة الإبداعية لبعض الفنانين التشكيليين في حمص، كتب له السيناريو المخرج رضوان الزهراوي، وأخرجه أسامة الحسيني.
قبسات محبة
في صباح رحيلك يوم الإثنين الماضي نعاك أصدقاء كثر، أدباء وباحثين وفنانين تشكيليين وموسيقيين ومسرحيين، نقتطف منها لنقدم بعضاً من أطياف شخصيتك التي سنفتقدها:
كتب الباحث في الفكر عطية مسوح: معتصم دالاتي.. أحد نجوم الثقافة والظُرف في حمص.. وداعاً. لروحك السلام والعزاء لذويك وأصدقائك. وكتب القاص والسيناريست نور الدين الهاشمي: فقدنا بغيابه البسمة والفرحة والضحكة الصافية والابتسامة والكلمة الجريئة والتعليق الذكي الساخر .. ما أحوجنا إليك الآن يا أبا نوار في زمن العبوس والحزن والتجهم والبلاء. سيغيب في غيابك جزء من أرواحنا. في حين كتب الموسيقي سمير عازار: ستحزن عليك شجر الأكاسيا التي تُحب. واكتفى د. منقذ عبد المعين الملوحي الذي كان يزورك كل يوم في المستشفى ويطمئننا عليك، بعد الترحم عليك بتدوين آخر ما كتبتَ من نص شعري:
علمني الحبُ أنْ أنزعَ / عن قلبيَ أوراقَ التوتْ / وبأنَّ القلبَ آنَ يَفيضُ / بالعشقِ ضياءً/ يَتَجلَّى وجهُ اللاهوتِ / في جسدِ الناسوتْ/ فَتَيَقَّنْتُ بأَنَّ الحبَّ / غِوايَتُهُ أن أولِّيَ وجهيَ /قِبْلَةَ العشقِ / وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الحبُ / ثم في نَشوتـهِ أموتْ. أمّا الشاعر د. سعد الدين كليب فتساءل: كيف يمكن أن تنعى البشاشة والمحبة والوعي في شخص كالمعتصم! لروحك الأُنْس والبهجة بقدْر ما زرعتَهما في القلوب والوجوه، يا فنّان العين واليد والسلوك. معتصم دالاتي الحمصي العتيد يرحل برشاقة المحبّين.
وكتب الصحفي والناشر سعيد البرغوثي: كم أنا حزين لعدم تمكني من تلبية دعواتك المتتالية، لم أكن أتوقع أن السرطان اللئيم سيخطفك غيلة ذات ليل. بحرقة أعزي ذويك، وبحرقة أعزي الأصدقاء الذين اعتادوا الطريق إلى منزلك الجميل صباحات أيام الجمعة، بل بحرقة أعزي حمص التي ستفتقدك بيوتها وشوارعها وأزقتها وناسها… كم هو صعب أن أقول وداعاً… لروحك الطيبة السكينة والسلام، ولمسيرتك المجد وطيب الذكرى.
الشاعرة قمر صبري الجاسم كتبت: معتصم الدالاتي الفنان المبدع صاحب أجمل قلم في الكتابة الساخرة.. إلى رحمة الله أبو نوار صديق الجميع صاحب أجمل روح.
وكان الشاعر حسان الجودي قد كتب عنه وهو لا يزال في سرير المرض: هو روح تلك المدينة التي تشتهر بالسخرية. لكنه أضاف إلى تلك السخرية الذكاء المتقد، والثقافة الأدبية والفنية الرفيعة، وأضاف إلى ذلك ذوقاً وحساسيةً إنسانيةً وموهبة في التقاط النكتة وإطلاقها في هواء حمص، لتلتقط عبق الأكاسيا الفريد. لا يجامل، يشير بأناقة إلى ما لا يعجبه. وتراه قادراً على تذوق القصيدة واللوحة والحياة بكل تفاصيلها. سلاماً لأجمل ذاكرة صنعها لأبناء حمص.
وتستعيد لنا القاصة وفاء خرما قبساً من روحه المرحة ذات حوار بينهما عقب أمسية في اتحاد الكتاب العرب: (- ست وفاء اكتشفت إنو في بيني وبينك رابط مشترك.- شو هوي أستاذ معتصم؟- طلعتْ انا وياكي منكره الرجال!). ثم تقول: وداعاً للابتسامات والضحكات من القلب التي كانت تحتاجها كثيراً حمص،مدينة الحرب والحزن!
ويسلط لنا الزميل الصحفي والناقد الفني ساطع الأزهري الضوء على الراحل قائلاً: عرفته في أواخر الستينيات مدرساً وناقداً ورساماً تشكيلياً يكتب في الصحف، منها صحيفة العروبة، وفي مرحلة لاحقة في صحيفة الثورة، كتب في المجال الاجتماعي، كما كتب مقالات نقدية، درّس التربية الفنية في إعداديات حمص، ثم عمل مع منظمة الطلائع منشطاً ومشرفاً على المعارض وأعمال المهرجانات. كانت له مداخلات وانتقادات في الأنشطة والمهرجانات الثقافية التي يحضرها، تلقى الإعجاب والاستحسان.
واستهل الشاعر عبد القادر الحصني كلامه بالقول: لم تكن صديقاً. كانت بيننا علاقة يصعب أن تُسمّى. كانت واحة من الفنّ التشكيليّ والموسيقا والشعر والحبّ ومن أصدقاء الفكر والفنّ والحوارات التي لا تنتهي في الدين والسياسة والمجتمع والحياة، ولكنّ الأجمل من كلّ ذلك أنّ هذه الواحة كانت محمولةً على أجنحة من ظرفك ومحبّتك وألق روحك الساخر حتى الجدّ، والجادّ حتى السخرية. واختتم الحصني بالقول: لن تفقدك حمص فناناً وأديباً وعاشقاً… كلّ ما في الأمر أنّها سترى إلى اسم من أسمائها الجميلة، وقد صار نجماً في سمائها. ورأت الشاعرة والقاصة سوزان إبراهيم أن حمص فقدت حمص برحيلك الكثير من نكهتها وتوابل ضحكتها وحميمية صداقاتها. وستفتقدك مقاهي حمص ودمشق وكل جمال ينتظر أن تقول فيه كلمتك. سنفتقدك أكثر مما كنا نتصور.
كنت هنا وما زلت
الشاعر والباحث مظهر الحجي سجل لنا رغبة الراحل في آخر «مشوار» له يوم هتف له: اليوم جميل ومشمس، تعال وخذني «مشوار». كان في أواخر أيام مرضه ،كان واهناً منهكاً. إلى أين ستأخذني؟ إلى البساتين والوعر لنتمتع بجمال الطبيعة .لاح برأسه المجهد: تجوّل بي في شوارع حمص أريد أن أرى الناس والحياة. كان هذا آخر «مشاويره» مع المدينة التي أحبها بحجارتها وبشرها. أعترف الآن بأنني مرتبك أكتب ما أكتب بضرب من التداعي، فهل أتذكر ابتسامتك الهادئة، بيتك الدافئ ملاذ الأصدقاء المشرع بابه لكل وافد، وكأنك آثرت الخروج من هذا الزمن الرديء؟ فوداعاً. وباختصار كتب المخرج المسرحي حسن عكلا: كنتَ هنا، ومازلت ذاك الحاضر دائماً في قلب المدينة، وذاكرتنا، لروحك السلام. وكتب الفنان التشكيلي د. بشير السيوفي: في بيتك الضيق صديقي كنا نشعر بأننا في رحاب قصر واسع لا جدران له، حيث القصص الشائقة، الشعر،الرسم والموسيقا كانت تلك أبعاد فضاءات جلساتنا مع عديد من الأصدقاء.. لروحك الظريفة المرحة الرحمة والسلام الأبدي.
وأخيراً وليس آخراً هذا المقطع الذي نشره على صفحته الشاعر محمد علي الخضور من قصيدة الجنوبي لأمل دنقل يليق بحزننا عليك يا أبا نوار:
لم يمت
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصباً، بينما
ينحني القلب يبحث عما فقد.
ليت «أسماء»
تعرف أن أباها الذي
حفظ الحب والأصدقاء تصاويره
وهو يضحك
وهو يفكر
وهو يفتش عما يقيم الأود .
ليت «أسماء» تعرف أن البنات الجميلات
خبأنه بين أوراقهن
وعلمنه أن يسير
ولا يلتقي بأحد.

نتيجة بحث الصور عن معتصم دالاتي

نتيجة بحث الصور عن معتصم دالاتي