اسم المؤلِّف: صبري يوسف

عنوان الكتاب:حوار مع الذّات، ألف سؤال وسؤال

الجزء الأوَّل – حوار

الطَّبعة الأولى: ستوكهولم 2017

الإخراج، التَّنضيد الإلكتروني، والتَّخطيطات الدَّاخليّة (المؤلِّف)

تصميم الغلاف الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو

صور الغلاف للأديب التَّشكيلي صبري يوسف

 حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف

 دار نشـر صبري يوسف

[email protected]

الإهداء

أهدي هذا الحوار الموسوعي:

“حوار مع الذّات، ألفُ سؤال وسؤال”،

إلى كلِّ إنسانٍ يسعى إلى تحقيق

السَّلام والوئام بين البشر

في كلِّ بقاعِ الدُّنيا

 

مقدّمة

 

أحاور ذاتي بذاتي؛ لأنَّني لن أجد محاوراً على وجه الدُّنيا ممكن أن يفهم ذاتي مثلما أفهمها، ولا يستطيع أيُّ صحافي في الكون أن يضع أسئلة تغوص في عوالمي العميقة الّتي ممكن أن أقدّمها أنا نحو ذاتي؛ لهذا قرّرتُ – وأنا أعبر عتبات السّتين – أن أحاور ذاتي ألفَ سؤالٍ وسؤالاً، ألخِّصُ عبر تساؤلاتي آرائي وتطلُّعاتي وآفاقي في الحياة، ما دام لم ولن أجد من يحاورني بهذا الإيقاع، ولا من يحاور بهذه الطَّريقة الشَّاملة الشَّفيفة العميقة الرَّهيفة، ولا يمكن أن تخطرَ على بال أيِّ صحافي أو محاور؛ لهذا وجدتُ نفسي مندفعاً لهذا الحوار بكلِّ تفاصيله، الَّذي سيكون خلاصة فهمي لنفسي أولاً، وللحياة ثانياً، ولأدبي وفكري وفنِّي ثالثاً وأخيراً، ويبدو لي أنّنا نحنُ البشر لا نفهم أغلب الأحيان ذواتنا، كما لا نفهم ذوات الآخرين في الكثير من الأحيان؛ لأنّنا غامضون عن أنفسنا؛ وبالتَّالي سنكون غامضين عن الآخرين أيضاً.

من هذا المنطلق أودُّ أن أغوصَ عميقاً في حيثياتِ حواري مع الذّاتِ؛ ذاتي، وأحاولُ كشْفَ المستورِ إلى أقصى الحدود، خاصّةً ما يتعلَّقُ بالحياةَ، والكونِ، والطُّموحِ، والآمالِ، والأحلامِ، والأهدافِ، والإبداعِ، والحبِّ، والطُّفولةِ، واليفاعةِ والشَّبابِ، ورحلتي الفسيحة في الحياة، تاركاً نفسي تحلِّق في أقصى ما يمكنُ أن يُقالَ؛ كي تكونَ مكنوناتي عبرةً لغيري على مرِّ الزّمان؛ لأنَّ البشرَ عبارة عن آمال وأهداف وطموحات متماثلة في الكثيرِ منها مع البشر، لكن الكثير من هذه الآمال تنمو في دواخلنا، تكبرُ وتكبرُ وتبقى حبيسةً في داخلنا، نرحلُ عن الحياةِ وتبقى غارقة في دواخلنا، فلماذا لا نكشفها قبل أن نرحل، ونعرضها للأجيال؛ كلِّ الأجيال القادمة عبر كلّ العصور؟!

صبري يوسف

 حوار مع الذَّات

ألف سؤال وسؤال

الجزء الأوَّل

 

  1. وُلِدْتَ على يد “دادي زومي”، ماذا تعني لك الدّاية دادي زومي الّتي وُلِدَ على يديها مئات الأطفال؟

تعني لي دادي زومي تاريخاًطويلاً من حبورِ الطُّفولة، تعني لي الولادة الأمينة بين يدينِ مباركتَين، مزدانتَين بأبهى أنواعِ العطاء، مسروجتَين بعناقيد الفرح، مشبّعتَين بينابيع الأمومة، ومتدفِّقتَين بدفءِ الحياة وإنسانيّة الإنسان. زرعَتْ دادي زومي في قلبي غابة من الذّكريات الطَّافحة ببهجة عارمة على مساحات الطُّفولة واليفاعة والشَّباب، تعني لي بسمة مبهجة للروح والقلب؛ لأنّها سرْبلَت حياتي بأزاهير المحبّة والهدوء فمنحتني سلسلة متعاقبة من العطاءات الخلّاقة والنّجاحات الموصولة على مدى رحابة الحياة!

دادي زومي تعني لي الحياة برمَّتها، فقد أعطت للحياة أبهى معانيها، وَوُلِدَ على يديها المباركتَين مئات مئات الأطفال.

كم من اللَّيالي والصّباحات والمساءات المعتمة كانت توجّه أنظارها نحو مخاض الأمّهات، وتولّد الأطفال على إيقاع زخّات المطر، كي تمنحَ الأطفال بركة السَّماء، كم من المرّات ركبتْ فوق ظهورِ البغال في “أنصاص”: اللَّيالي، موجِّهة أنظارها نحو القرى البعيدة الَّتي لا تصلها سيارات ذلك الزَّمان، بسبب تراكم أكوام الطِّين في الطُّرقات الطِّينيّة، فكانت تعبر الطّريق على ظهور البغال تارة، وعلى رفاريف التراكتورات في أيّام الرّبيع، كي تستقبل شهقات الأطفال وهم في أوج الحنين إلى نور الحياة، فتزرع البسمة على وجوه الأمّهات والآباء.

دادي زومي أسطورة امرأة شامخة في كرم العطاء، حيث قدّمت على مدى سنوات عمرها أجمل ما يمكن أن يقدّمه إنسان في الحياة! .. ستبقى دادي زومي حلماً جميلاً متلألئاً في ذاكرتي على مدى انبعاث الحرف عبر مسارات انبلاجِ أشهى إشراقات بوح الذَاكرة عبر انبعاث تجلّيات الخيال!

  1. مَنْ أطلق عليك اسم صبري، ماذا يعني لك هذا الاسم، وهل استمدّيتَ منه الصَّبر في رحلةِ الحياة؟

والدي أطلق عليّ هذا الاسم، ربّما عرف بحسِّه الأبوي الفطريّ أن هذا الوليد سيواجه صعوباتٍ وهموماً ومشاكلَ ومتاهاتٍ وبحثاً متواصلاً عن أعماقِ جوهر الحياة، ويتطلَّب من وليده أن يكون لديه صبرٌ فسيحٌ، بحيث يناغي صبر أيوب في بعض محطَّات الحياة، لهذا أطلق عليّ هذا الاسم الّذي استمدّيتُ منه كل معاني الصَّبر بكلِّ هدوء وفرح واطمئنان، ولولا اسمي لفقدتُ الصّبر والانتظار بآلاف المواقف والانكسارات والتّشظِّيات الَّتي مرَرْتُ فيها عبر مراحل عمري؛ ولهذا أعتبر أنّ والدي ورّثني ما لا يورّثه لبقيّة إخوتي وأخواتي، فقد انتشلي من الكثير من المآزق والهزائم والمعارك الحياتيّة، من خلال الصَّبر الَّذي كنتُ وماأزال أتحلَّى به؛ لأنّني في كلّ مرّة كنتُ أمرُّ في حالة صعبة، وصعبة للغاية، سرعان ما كنتُ أعدُّ للمئة والألف، ثمَّ أعودُ وأعدُّ من جديد؛ كي أنطلق من الصِّفر؛ كي أخوض أصعب المواقف حرجاً، وأحقِّق بناء الذَّات ذاتي من جديد، حيث سبق وقلت في سياق شعري في منعطفات غربتي ما يلي:

دائماً كنتُ أنطلق من الصِّفر

هذه المرّة سأنطلقُ

من تحتِ الصّفر!

وقد كتبتُ هذا المقطع الشِّعري مدخلاً لديوان يتضمّن مئة مقطع شعري ومقطعَين، ترجمت هذه المقاطع إلى اللُّغة السُّويديّة، وحمل الدِّيوان عنوان: “روحي شراع مسافر”، وسلْسَلْتُ ترقيمه على الشَّكل التَّالي:

ناقص واحد ـــ 1

صفر 0

1

2

3 . إلخ

وهكذا، معتبراً أنَّ الخطوة الأولى في دنيا الاغتراب لا تبدأ من الصّفر أو الواحد، بل من تحتِ الصّفر في بعضِ الأحيان، وربمّا أحتاج لبعض الوقت أو لكثير من الوقت؛ كي أصل إلى مرحلة الصّفر؛ لأنّه كما يُقال بالكرديّة: “عَرْد هِشْك وعوظمان بلندْ” أي “الأرض يابسة والسَّماء عالية”، بمعنى لا حول ولا قوّة؛ لأنَّ اللّغة جديدة، والثَّقافة جديدة، وكل ما يتراءى من حولي عالم جديد، فلا بدَّ أن أنطلق من تحت الصّفر بكثير؛ كي أؤسِّس لمرحلة البحث القويم وأنا أضع الخطوة الأولى بعد أن أجتاز مرحلة التَّوهان لأبدأ من الصّفر بثقة وأساس متين، وهذا ما تحقَّق فعلاً في مسار الكتابة من جهة، ومسار توازني مع متاهات الغربة، إلى أن وصلتُ إلى مرحلة الانسجام مع الأجواء الجديدة من أغلب النَّواحي، حتَّى شعرت في الكثير من الأحيان أنَّ الغربة أصبحت أليفة لدي، ولا أشعر بالغربة في سماء الغربة مثلما كنت أشعر بها في الكثير من المواقف الّتي كنت فيها في الوطن الأم أو في مسقط رأسي! وكلّ هذا يعود لفضل والدي عندما أطلق عليّ صبري ، فصبري طويل، أطول من أنشودة الحياة بآلاف صفحاتها؛ لأنّ كل تلك الصّفحات الشِّعريّة وغيرها من الصَّفحات السَّرديّة والحواريّة، انبعثَتْ من واحة الصَّبر الَّتي قمّطني بها والدي بسنابله المخضوضرة بأشهى أنواع العطاء!

  1. ماذا تعني لك الولادة، الشَّهقة الأولى، وسط باقات السَّنابل؟

تعني لي الفرح، الاخضرار، التَّجلِّي، التَّأمُّل، .. تعني لي كَرَمَاً باذخاً متهاطلاً عليَّ من السَّماء؛ لأنَّ الشَّهقة الأولى وأنا أترعرع وسط السَّنابل، جعلتني أن أشعر طوال عمري، وكأنّني سنبلة معطاءة تبرعمت في أحشاء أمِّي في ليلةٍ قمراء، من خلال حالة عشقيّة فريدة مع والدي الَّذي كان هو الآخر سنبلة شامخة على وجنة الزَّمن منذ أن تبرعمَ فوق تراب آزخ، فتنامت هذه السُّنبلة وسط اخضرار الحياة، وهكذا فإنّ الولادة الأولى بشهقتها الخيّرة المبلَّلة بألق السَّنابل، منحتني روحاً جامحة نحو نِعَمِ الحياة، تنمو بين مروج الكروم، وسهول القمح، ونسيم الصَّباحات النَّديّة، وسط أسرة فلَّاحيّة محبوكة بعبق الأرض وخصوبة الحياة والماء الزُّلال، فتعرَّش بين أجنحتي حرفٌ من نكهةِ الحنطة، ثمَّ تنامى حرفي معانقاً منعرجات العمر بكلِّ ضيائه وعتمته وتفرّعات سطوع شمسه واسترخاء ليله، إلى أن حلَّقَ عالياً بين أحضانِ زرقة السّماء، مستمدّاً من حفاوة الأرضِ وبهاء السَّماء مسار بوح القصائد، وحفاوة الكلمة من خلال ابتهال تجلّيات الخيال المندَّى بألق الدَّاليات وأزاهير الخطميّة وعبق النّرجس البرِّي، إلى أن غدا حرفي رسالة مبرعمة من وهج الأرضِ المنبعثة من شهوة السّماء المتناثرة فوق هفهفات بوح السَّنابل، هكذا تبدو لي الولادة، وهكذا بدأتُ الشَّهقة الأولى وأنا في غمرة ابتهاجي بين باقات السَّنابل!

  1. ما رأيك بحنان الأمومة، بالأم الّتي حملتكَ بين أحشائها تسعة شهور، ثمَّ أرضعتك من حنانها طويلاً؟

لا يضاهي حنان الأمومة أي حنان آخر على وجه الدّنيا، يروي عطشنا الأبدي للحبِّ للحياة لهدهدات الرّوح، يمنحنا طاقة ابتهاليّة عشقيّة فرحيّة اغتباطيّة مبهجة للقلب والحلم والنَّوم العميق، ولا يمكن لأيِّ حنان آخر أن يعوّض عن حنانِ الأمّهات. إنَّ أنهار حنان الأمومة هبة كبيرة تهاطلت علينا من لدن الآلهة، من لدن السّماء، من ينابيع المحبّة ؛ لأنَّ في بهاءِ حبورها تشدو أنغامِ الأعالي، وتبزغ في مروج الرُّوح وردة وارفة بعبق الحياة، وتزهو في مرافئ القلب تغاريد الطُّيور وأصفى أنغامِ الأغاني. يغمرنا حنان الأم  كاحتضان نبتة في أحشاء القداسة، الأم أيقونة مقدّسة، وهبتها لنا الآلهة منذ الأزل، الأم مبعثُ فرحِ الكائنات، ينبوعُ عطاءٍ مفتوح على شساعة الكون، يتهاطلُ خيراً علينا من مآقي السَّماء.

الأمومة صديقة البحار الدَّافئة، عطاءٌ مجنّح نحو أرخبيلاتِ النّعيم في صباحٍ مبلَّل بحبقِ الأرجوان. أمِّي حبقُ حرفي ولوني وشموخ كياني وألق مخيالي منذ أن تبرعمتُ بين أحشائها، ثمَّ وهبتني إلى ضياء الحياة، فتناثرتُ حروفاً متلألئة بألقِ الشّعرِ على وجهِ الدُّنيا، أناغي جمال الطَّبيعة وروعة الكائنات؛ كي أحقِّقَ ما كانت تطمحُ إليه بسمة أمِّي، لأنّني أراني شهقة رهيفة منبعثة من حنين أمّي عبر تجلِّياتِ حرفي الهائم في زرع بذور المحبّة والفرح والوئام بين البشر فوق مروجِ الدُّنيا!

5 ـ وُلِدْتَ في ديريك العتيقة، حارة دافئة بالمحبّة والتَّعاون، ماذا تتذكّر من الطُّفولة الأولى؟!

ديريك العتيقة مسقط رأسي، ومنبع فرحي وألقي وشوقي إلى زقزقات العصافير، حارة مجبولة بالطِّينِ الأوَّل، طين المحبّة المعجون بقهقهات براءة الطُّفولة، حيث الأصدقاء بين رحاب أزقّتها يلهون بألعاب الطُّفولة، أتذكّر من الطُّفولة الأولى ما يبهرُ الرّوح، ويبهج القلب، أحنُّ إلى فضاءات طفولتي بكلِّ ألوانها وبهائها وفرحها ومرحها وتعاساتها، حيث تبدو لي دموع الطُّفولة دُرَراً شفيفة منسابة فوق خدّي، طفولتي منبع إبداعي، لو حذفتُ معالم الطُّفولة من مخيَّلتي بكلِّمنعرجات تلاوينها، لما كتبتُ ورسمتُ وغصتُ عميقاً في مسارات بوح الإبداع، لهذا أراني مديناً لعوالم طفولتي وأزقَّتي وحارتي الَّتي ترعرعت فيها، ولولا الطُّفولة الأولى بكلِّ ذكرياتها الملوَّنة بألوان الحياة، لما جاءت كتاباتي معبَّقةً بنكهة الحنطة وهديل اليمام، فقد كان بيتنا العتيق مطرَّزاً بأجنحة الحمام، وهديلها كان يملأ صباحي ونهاري بهدهدات حنين الرّوح إلى نقاوةِ المطر، لهذا تولد كتاباتي متهاطلةً بغزارةٍ شفيفة كتهاطلِ براعم ذكريات الطّفولة فوق لجين الخيال!

” .. تعانقني طفولتي عبر حفاوةِ حرفي ولوني، مضمّخةً بأصفى شهقات الخيال وأشهى تجلِّيات بوح الرُّوح، فلا أجد أشهى من ولوجي في متاهات الذّاكرة البعيدة وأنا أغوص بكلِّ انتعاشٍ في مرافئ الطُّفولة، حيث كركرات الطُّفولة البكر تنفرشُ فوقَ أكوامِ الحنطة ونحن نركب النَّوارج مع أقراننا، طفولة محبوكة بأريج الحياة رغم شظف العيش الَّذي كان يلازمنا بين الحين والآخر، لكن براءة الطُّفولة كانت تسرج في يومنا فرحاً من أبسطِ الأشياء، حيث كنّا نتوه خلف الفراشات الجميلة، وكم كنت أفرح عندما أمسك فراشة مبهرة في جمالها الخلّاب، متمعِّناً في ألوانها ووبرها الرّهيف، كنت أبوسها من شدّة فرحي، ثمَّ أتركها تحلِّق في الهواء، وحالما كانت تطير بعيداً عن أنظاري، كنتُ أشعر بغصَّة ترافقني، فتنسابُ دمعتي شوقاً إلى بهائها الجميل، طفولتي معرّشة بأبهى مروج البراري، حيث المرح كان يقمّط قلوبنا، نلعبُ بين أحضان الطَّبيعة، نمسكُ الجراد الأخضر وفرس الأمير، وهي نوع من الجراد الجميل، تسير مثل الأمير، ونلمّي “شوقلّة العصفور وشوقلة الشّايك، والحَرشف والحِمْحِم”، ونقشّر “القيڤارات”، ونأكلها بلذّة عميقة كأنّها نبتة الحياة!

طفولتي هي حرفي المفتوح على فراديس النَّعيم!” ..

  1. 6. ديريك أيام ولادتك وطفولتك كانت بلدة بسيطة تعجُّ بالعطاءات بكلِّ عفويّة، ماذا تعني لك ديريك بكلِّ حفاوتها وعطائها وجغرافيّتها وأهلها؟

ديريك مدينة محفورة في الذَّاكرة، وغافية بين مروج الرُّوح، ومفروشة فوق شواطئ القلب، إنّها هديّة منبعثة من السّماء؛ لما فيها من خيرات وبركات وقداسة المكان، حيث الأديرة المقدَّسة الَّتي ظهرت فيها منذ مئات السّنين، ثمَّ انبعثت من جديد، وظهر فيها الكثير من العجائب، وتنامَتْ فيها العطاءات الخلَّاقة من شتّى أنواع الإبداع، والتَّحصيل العلمي والأدبي والفنِّي والمعرفي والموسيقي. ديريك حرفٌ مقدَّس لكلِّ الأجناس والأقوام الّذين عاشوا وما زالوا يعيشون فيها. إنّها مسقط رأسي وقلبي وروحي وبؤرة حنيني ووهج انبعاث حرفي بأقصى تجلِّيات الخيال، وستبقى هذه التَّجلِّيات منسابة على مدى الأيَّام والشُّهور والسِّنين.

تزورني ديريك مراراً في الحلم، وتعانقني عناقاً عميقاً، كما تتراءى لي في أحلام اليقظة، وتموج برهافة عميقة في أعماق بوحِ القصائد، وفي حنايا سردي ولوني وحنيني، أشبه ما تكون عاشقة مسروجة بحبورِ السَّنابل وعناقيد العنب في أوج عطاءاتها، وهي صديقة مبلَّلة بأرقى خيوطِ الحنين، لهذا أراني غائصاً في تفاصيل بهائها وعطائها وأزقّتها وكلّ ما يدور في محرابها، وأحنُّ بكلِّ اشتياقٍ إلى بيادرها ومواسم حصادها، فتنفرش أمامي سهول القمح وأكوام الحنطة وقوشات الجراجر وشالات التِّبن وأكياس الحنطة والعدس والخيرات الَّتي كانت تتهاطل علينا من كلِّ جانب، وتشمخ قامات الفلّاحين والعمّال واحداً واحداً، تتراءى أمامي حفلات الزّفاف، واحتفالات الأعياد فترتسم البسمة على وجوه الأطفال والكبار والآباء والأمّهات، تقمّطني براريها وكرومها وسهول قمحها بالغبطة والبهجة؛ فتمنحني طاقة رهيفة في تدفُّقات انبعاث الحرف، كأنّها ينبوع عميق الأغوار في انبعاث أشهى خيوط السَّرد وروعةِ الألوان وشموخ أبهى القصائد!

ديريك أسرة كبيرة متناغمة في الألفة والبسمة والتَّعاون والعطاءات المتبادلة، أنجبت آلاف الأزاهير ثمَّ غدوا شبّاناً ورجالاً ونساءً، وتبعثروا كحبّات القمح على وجه الدُّنيا، وأينما تلتقي بالأحبّة الَّذين أنجبتهم ديريك في سماء الغربة ومدائن العالم، ترَ دموع الفرح والحنين تطفح من مآقيهم، ويتعانقون بودادٍ عميق كأنَّ ديريك أمّهم الرّؤوم تجمعهم تحت أجنحتها كأسرة واحدة موزّعة بكلِّ خيراتها وعطاءاتها فوق ربوع الدُّنيا!

7 ـ ماذا تعني لك الطُّفولة، كيف تنظر إليها الآنبعد عقودٍ من الزَّمان؟

الطُّفولة كنوزٌ ثمينة تنعش مسارات العمر، ترافقني ببهجة غامرة عبر محطّات غربتي الفسيحة، لما اكتنز في عوالمها من ذكريات مخضوضرة بأبهى أنواعِ العطاء والفرح والبهجة والوئام.

ترتسم أمامي معالم الطُّفولة كشريط فيلم سينمائي محفور في مرامي الخيال بأصفى حبوره وتجلِّياته، فتمنحني ذكريات الماضي البعيد طاقات عميقة في التَّأمُّل، تكفي لاستلهام عشرات الكتب والرِّوايات والأقاصيص والقصائد والحوارات واللَّوحات الرَّهيفة، تبدو لي الطُّفولة كأنَّها حالة حلميّة مفتوحة على منائر الكون، لا أصدّق نفسي أنّني عشتُ تلك الأيَّام والشُّهور والسِّنين المفعمة بذكريات لا تنسى إلى الأبد، حيث ظلَّت معلّقة بكلِّ حميميّة بين مروج الرُّوح وشواطئ القلب. كم تنعشُ ذكريات الطُّفولة حاضري وحرفي ولوني وآفاقي المجنّحة نحوَ منارات بهجةِ الكتابة.

أنظرُ إليها بعد عقودٍ من الزّمان بحبورِ طفلٍ يلعب في أزقّة الطّفولة، كأنّني ما أزال طفلاً أطوف في محرابها ألعب مع أقراني، تشمخ أمامي مرابع الطُّفولة بكلِّ تفاصيلها وبهائها وصفائها، كأنّها ظلِّي المرافق لمحطّات عمري أينما حللْت ورحلْتُ، فأستلهمُ من أريجِ حبورها الكثير من تجلِّيات دُرَرِ الحرفِ وبهاءِ الألوانِ، وأجسّدها فوقَ نصاعةِ الورقِ وبياضِ قماش اللَّوحات.

الكتابة والطُّفولة صنوان متعانقان عبر خيوط الحنين، يرفرفُ حرفي فوق أغصانِ الطُّفولة المعرَّشة على مساحات كينونتي، فيبزغ من وهجِ الحرف مذاق ذاكرة منقوشة فوق منعرجاتِ الأيَّام الَّتي قضيناها في ربوع نسائم ديريك سنوات الطُّفولة، والَّتي ستظلُّ قلادة ساحرة متربِّعة فوق صدورنا، تغدق على مخيَّلتنا دندنات أعذب الأغاني، وتلهمنا بأقاصيص اللَّيالي القمراء، ونحن نناجي نُجيمات الصّباح وهي في أوج تلألؤاتها، كم من الذِّكريات والأفراح والدِّفء الحميم قضيناها هناك بين أحضان الأحبّة، حيث القهقهات تملأ قلوبنا فرحاً. يكبر الإنسان وتكبر معه الطّفولة، وتظلُّ ترافقه كأزاهير الغاردينيا كأنّها بلسم الحياة!

  1. 8. فتحتَ عينيكَ في غرفةٍ فسيحة من الحجر والطِّين وسقفٍ من الخشب، وحوشٍ كبير، وعائلة فلَّاحيّة بسيطة، ماذا تعلَّق في الذّاكرة من هذه العوالم الطُّفوليّة وما أثرها على الحرف والكتابة والإبداع؟

أجل فتحتُ عيني في غرفة دافئة، مبنيّة بوهج المحبّة، بناها والدي من الحجرِ والطّين، واشترى خشب السَّقف وعواميد الخشب الغليظة والمتينة من كنيسة السَّيدة العذراء، بعد أن عمَّروها بالإسمنت، وسقفوا سقفها بالإسمنت والحديد، وهكذا أصبح سقف الكنيسة سقف بيتنا في ديريك العتيقة، فتبارك بيتنا بسقف الكنيسة المبارك. ترعرعتُ في حوشٍ كبير، تلهو فوق سطحه الحمام الّتي كان يربِّيها والدي بشغفٍ كبير، كانت فراخ الحمام والحمام تهدل حولي، تلتقط حبّات الحنطة الَّتي ينثرها لها والدي بحبٍّ كبير، فأنظر إلى الحمام بفرحٍ وأنا طفل، وإذ بعصافير الدُّوري تحطُّ على الأرضِ،وتلتقط بمناقيرها الصَّغيرة حبَّات الحنطة، كانت الحمام والعصافير هائمة بالتقاط الحبّاتِ، وأنا أزدادُ حبوراً في مشاهدةِ بهاءِ الطُّيورِ.

أتذكّر مثل الغمام، فيما كنتُ غائصاً في عوالم الحمام، كم تمنَّيتُ في حينها لو كنتُ حمامةً؛ كي أطير عالياً في قبّة السَّماء، وظلَّت هذه الرّغبة تراودني بين حينٍ وآخر، إلى أن توَّجْتُ هذه الرّغبة عبر مخيَّلتي وحرفي، وحلَّقتُ في أجواء السَّماء، أجوب البحار والمحيطات، وأنسج ما يموج في خيالي وأحلامي من رغباتٍ ظلَّت كامنة في مخابئ الرُّوح منذ أن كنتُ طفلاً، وكأنّي حمامة بيضاء تبحث عن هديلِ السَّلام!

آهٍ .. مراراً جرفني الحنين إلى والدي وهو يعبر حوشنا القديم ببغلتيه، آتٍ من الفدَّان ورائحة الأرض المباركة مضمّخة فيه، حيث كان يحرث الأرض طوال النّهار، عائلة فلّاحيّة معطاءة ومعجونة بطين المحبّة. تشمخ أمّي أمامي وهي تسرج التَّنّور، ثمَّ تخبز لنا أشهى خبز التّنُّور، يا إلهي كم كان لذيذاً عندما كان يخرج مقمّراً من تنّورنا الكبير، فتعطيني أمّي قطعة ساخنة منه، أحياناً كانت تبلِّله بالماء الزُّلال؛ كي تخفّف من سخونته، فآكله بلذّة عميقة كأنّه خبز الحياة، أجل الخبز هو نعمة من نِعَمِ الحياة، أمِّي وخبز التّنور نعمتان من أسمى نِعَمِ الحياة الّتي هطلَتْ عليّ من جفونِ الحياة، تشطحُ بي الذَّاكرة نحو الماضي البعيد، فأرى جبلة الطِّين المخلوطة بالتِّبن النَّاعم، وأمّي تستلم سطول الطِّين من أخي الكبير، وهي تسيّع بيديها سطح المنزل في كلِّ عام، كي تغلق شقوق السّطح، تفادياً من انسياب المطر في سطح البيت؛ ومنعاً من الوكفِ وقطرات الدّلف الَّتي كانت تدلف في أيَّام الشِّتاء، ومع أنَّ أمِّي كانت تسدُّ كلَّ الشُّقوق في سطح بيتنا الكبير، عندما كانت تسيّعة في نهاية كلّ صيف، إلَّا أنّ السَّقف كان يستقبل بوداعة طيّبة بعض حبَّات المطر فكانت تجد طريقها إلى سقف البيت، وتنقّط في البيت كأنّها هدايا السَّماء، وسرعان ما كنّا نجلب الصّحون الكبيرة واللِّكان والتّناجر؛ كي تنقّط فيها حبّات الماء المتسرّبة من السَّقف، وكانت تصدر هذه القطرات المتهاطلة أنغاماً في الصُّحون والأواني الموزَّعة في أركان الغرفة، وكم كان إيقاع صوتها يعطي حياةً وحيويةً في المنزل، وأحياناً كنت أحدّد إحدى قطرات الوكف، وأقف تحتها كي تنقِّط على رأسي، وكنت أشعر بفرح وأنا أتلقَّى تهاطل القطرات فوق رأسي، وكانت أمّي تقول لي: هذه القطرات المباركة ستسقيك وستطول كما تطول الحنطة، وكنّا نضحك، فيما كان إخوتي الكبار يحضِّرون قليلاً من الطِّين، ويخلطونه بالتّبن والملح، ويصعدون فوق سطح المنزل، ويملَؤُون الشُّقوق الصَّغيرة والكبيرة؛ تفادياً من ازديادِ الوكف في المرّات اللّاحقة من هطول المطر، ثمَّ كان والدي يُمندر سطح المنزل بمندرونتنا، وهي حجرة اسطوانيّة مدوّرة وبحدود (60) سم؛ وفيها قَيْس من الحديد الغليظ مشبوك من الجانبين عبر فتحة صغيرة، ومربوط من نهايته بحبلٍ قصير، ويتمُّ جرّ المندرونة فوق السّطح؛ كي يترصرص، فتُردم الشُّقوق الصَّغيرة والكبيرة، والسَّطح يصبح مقاوماً لانسياب”الوكف”، مع أنّني كنت أجد متعةً أثناء نفاذ بعض الوكف إلى السَّقف؛ لأنّ قطراتها كانت تعطي حركةً ومرحاً في المنزل!

إنَّ أثر عوالم الطُّفولة على الكتابة وفضاء الإبداع كبير للغاية، وقد كتبتُ عشرات القصص والقصائد من وحي هذه العوالم الحميمة، وانبثق من مخيَّلتي عام 2015 تدفُّقات رهيفة منبعثة من عوالم الطُّفولة؛ فولدت روايتي الأولى “تجلِّيات في رحاب الذّات”، رواية محبوكة ومُستلهمة من فضاءات عوالم الطُّفولة الرَّحبة!

  1. 9. لم تَحْبُ مثل سائر الأطفال، كنتَ تحبو جلوساً، تجرُّ نفسك زحفاً على كعبيك، ماذا يعني لك هذا؟

فعلاً، لم أحْبُ على أربعة، بل حبوتُ قعوداً، وكأنّي منذ طفولتي كنتُ أريد أن أكون رافع الرّأس، لا أحنيه أبداً، مخالفاً أولى أبجديات الطُّفولة في الحبو، أجرُّ نفسي عبر كعبي زحفاً وأنا في حالة قعود، كانت حالة الحبو طريفة، أحبو مترإلى مترين ثمَّ أتوقّف، كانت هذه الطَّريقة في الحبو تساعدني على بقاء يديَّ متحرَّرتين؛ وبالتَّالي كنت أستطيع أن ألعب بأيّة لعبة أصادفها في طريقي، أو أمسك ملعقة أو طابة صغيرة وأدحرجها، ثمَّ أتوجّه نحوها، وكنتُ في وضعيّة الحبو مُهيَّأً للوقوف، حيث كانت حركة استخدام القدمين تساعدني في تقوية السّاقين؛ وبالتّالي النّهوض ومحاولة المشي مبكّراً، وصمّم لي أخي الكبير عربة صغيرة من الخشب بثلاثة دواليب صغيرة خشبيّة، لها مقود أمسكه من اليمين واليسار واستند عليه وأقف، ثمَّ أسير بها وتساعدني في الوقوف، وتحافظ على توازني وقوفاً، وكنت أمشي في حوشنا الكبير في العربة الصَّغيرة متدرّباً على المشي، وأحياناً كانت العربة تتعرقل في غَرَضٍ ما جاء في طريقي، فأترك العربة، وأمشي بضع خطوات من دونها ثمَّ أقع وأتابع الحبو على كعبي زحفاً، ثمَّ أحاول الوقوف وأمشي خطوات أخرى، وأسحب عربتي، ثمَّ أمسكها من مقودها وأعاود المشي في الحوش، وكانت أمّي تفرح عندما تراني أتفادى شيئاً ما يأتي في طريقي، فأقود العربة بعيداً عن اصطدام دواليبها، وكان إخوتي يصفّقون لي وأختي تحملني وتبوسني من شدّة فرحها؛ لأنّني كنت أحقّق نجاحاً بعدَ ارتطام دواليب العربة بما أصادفه في طريقي، وهكذا تمكَّنتُ بعد أسابيع من التَّدريب على المشي بالعربة الخشبيّة، من أن أمشي بدون العربة لمسافة أمتار، ثمَّ تمكّنتُ من السَّيرِ في الحوش كلّه برفقة أختي أو أحد إخوتي، طفولة بريئة طافحة بالمرح والحنان والدِّفءِ والحبورِ.

كانت أختي بين الحين والآخر تمسك يدي وتدرّبني على المشي، ونسير خارج الحوش في الشّارع المطلِّ على بيتنا، والجيران يروني أسير خطواتي الأولى ويدعون لي وهم يبتسمون، وعندما كنت أتعب كانت أختي تحملني على كتفها، وهذه الوضعية كانوا يطلقون عليها: “قربوجة” أي الحمل على أحد كتفيها، وأحياناً تضع ساقيَّ حول رقبتها وتمسك قدمي وأمسك رأسها، فرحٌ عميق كان ينتابني، وبعد أن آخذ قسطاً من الرَّاحة، كانت تنزِّلني وتمسك يدي وأبدأ بالمشي، وتترك أحياناً يدي؛ كي أمشيَ بدون مساعدتها، إلى أن تمكّنتُ أن أسير وحدي، بدون العربة وبدون أن يمسك أحدٌ يدي.

أكثر من ربع قرن قضيته في السُّويد، دون أن يمسك أحدٌ بيدي، غربتي واحةٌ فسيحة مفتوحة على مسار ابتهالات القصائد، كانت طفولتي تتراءى لي من بعيد وأنا في سماء غربتي، مراراً تبرعمَتْ مشاهد من الطّفولة في مخيَّلتي وأنا في أوج تأمُّلي، غربتي وطفولتي وحرفي إشراقات انبعاثٍ في اندلاعِ حبقِ الإبداعِ، الكتابة معبّقة بألقِ الطُّفولة، بكلِّ حلاوتها وشقائها وبهائها، غربتي صديقة حرفي، وحرفي شوقٌ مفتوح على متاهاتِ الذَّاكرة المعتّقة بأبجديات الحبو، بعكس تقاليد حبو الأطفال، وحدها الكتابة انتشلتني بكلِّ انتعاشٍ من ضجر الحياة وآهات الشّوق، تعالي يا طفولتي أُغَطّيكِ بين تلاوين بوحي وأشواقِ الرُّوح إلى حمائمِ البيتِ العتيقِ، يراودني أحياناً، بل مراراً، هل أنا أنا، الطُّفل نفسه، الَّذي حبا بطريقة مغايرة لمغامرةِ العبور، وإلَّا كيف عبرتُ البحار بحثاً عن أبجديّات جديدة للإبداع، تاركاً بهاء الطُّفولة وحميميّات ثلث قرن من الزّمن خلف ظهري، دون أن أعرف شيئاً عن محطَّاتِ الانتظارِ بعد عبوري أعماق عوالم المجهول؟!

حوار مع الذّات، ألف سؤال وسؤال، هو أقرب ما يكون من السِّيرة الذّاتية، لكنّه أكثر عمقاً من السِّيرة الذّاتية ذاتها؛ لأنّني عبر حوار مع الذّات أغوص عميقاً في تساؤلاتي، للولوج في أعماقي الدَّفينة، ولا يمكن أن يستطيع المرء عبر كتابة السِّيرة الذَّاتية أن يغوص بهذا العمق كما هو الأمر عبر طريقة الحوار مع الذَّات، لأنَّ الطَّريقة الَّتي أشتغل عليها عبر حواري، هي طريقة ممنهجة، حيثُ أتبع أسلوباً مدروساً ودقيقاً، أعتمد على الكثير من الحيثيّات والمشارب عبر أهم وأبرز محطّات عمري في صياغة ووضع السّؤال، ممّا يساعدني على تعميق هذا الحوار، وقد بدا لي الحوار منذ التَّساؤلات الأولى أنّه أكثر عمقاً ممَّا لو كتبت السِّيرة الذّاتيّة، لأنّ طريقة البوح مجنّحة نحو فضاءات مفتوحة عبر توهّجات الخيال في الكثير من منعرجات الحوار، ولا يمكن الإمساك بتفاصيل خيوط الحوار خلال كتابة السّيرة الذَّاتية، وهذه الطّريقة تحمل بين جوانحها منحىً إبداعيّاً حديثاً، لا أظن أنَّ هناك من طرقها قبلي بهذا العمق، وهذا الشّمول مع الذَّات، ذات المحاور نفسه، وسوف يتلمّس المتابع والقارئ والباحث والكاتب والنّاقد والمتخصِّص فيما بعد، عندما أستكمل فضاءات الحوار مع الذَّات، أن وضع الأسئلة هو جوهر الحوار، وحقيقة الأمر أنّني أشتغل على كيفية وضع الأسئلة بطريقة تضاهي كتابة عمل روائي متشابك يتضمَّن مئات الشَّخصيّات، حتَّى أنّني أعتبر حواراً كهذا بمثابة نص روائي في الكثير من فضاءاته، وممكنببساطة استلهام فضاء روائي من الحوار؛ لأنَّه يتضمَّن أسلوباً سرديَّاًّ قصصيَّاً، …

أشعر بسعادة غامرة وأنا أقضي ساعاتٍ طوال بوضع أسئلة حوار مع الذَّات، وعندما آخذ قسطاً من الرَّاحة أجيب عن بعض التّساؤلات خلال فترة الاستراحة؛ لانعاش وهج الذَّاكرة والخيال، فأشتغل على الجهتَين، وضع الأسئلة وبنفس الوقت الإجابة عن بعض الأسئلة، بعد أن أمسكت بالخطوط العريضة والمهمّة؛ من محاور الحوار، فقد وصلتُ حتّى الآن إلى السُّؤال رقم (400)، ومخطّط بحثي في وضعِ الأسئلة يسير بدقّة عالية، إلى درجة أنَّني أرقص فرحاً من توهُّجات غوصي في بهجة إشراقات السُّؤال!

  1. 10. لم ترتدِ البنطلون والقميص خلال الطُّفولة، بل كنتَ ترتدي الفستان على شاكلة الكلّابيّة، تحدَّث عن مرحلة ارتداء الفساتين/ الكلَّابيّات وكيف كانت تنقطع حزام الفساتين أثناء اللُّعب مع أقرانك؟!

هذه المرحلة الطُّفوليّة تعدُّ من المراحل الغنيّة بالألعاب والطَّرائف الَّتي كانت تحصل معنا أثناء اللُّعب، فقد جرت العادة أن يرتدي الأطفال آنذاك الفساتين الّتي كانت على شاكلة كلّابيات مقلّمة، فقد كان للكلّابيّة قشاطٌ من نفس القماش في أسفل منتصف الظَّهر على مكان قشاط الخاصرة، كان القشاط بحدود (20)سم طولاً، بعرض بضع سنتمترات، وقد كان يتعرّض هذا القشاط للتمزّق عندما كنّا نلعب ونركض خلف بعضنا؛ كي نلمس ظهر اللَّاعب الهارب، أو نلمس أقرب ما نصل إليه من جسمه، فأحياناً كثيرة كان الَّذي يركض خلفي يمسك بالقشاط وأنا في أقصى سرعتي؛ فيتمزّق القشاط ويتمزَّق معه قسمٌ كبيرٌ من الكلَّابيّة، ممّا تضطرّ أمِّي أن تخيّطه من جديد، وبعد أيَّام يتمزّق من جديد، وهكذا كنت أجد نفسي إزاء مشكلة عويصة في موضوع تمزّقات القشاط المتكرّرة، فما وجدت بدَّاً من أن أجد حلّاً يجنّبني من تمزّق قشاطي بين الحين والآخر، فقلت لأمّي: يا ماما أفضل حلّ في تجنُّب موضوع تمزّق قشاطي هو أن تخيّطي فساتيني في المرّات القادمة والقشاط، مخيّط مع الفستان من دون أن يكون مفتوحاً، أي أن يكون مصمَّماً كقشاط، لكن بحيث يكون ملتصقاً ولا يمكن إمساكه، لأنّه سيصبح جزءاً من الكلّابيّة، وبهذه الحالة سيكون من المستحيل تمزّقة أو الإمساك به، وفعلاً اقتنعت أمِّي بفكرتي وعرضَتْ على الخياط أن يخيِّط قشاطاتي القادمة لكلّابياتي ملتصقةً؛ تفادياً للإمساك بها ويصبح كديكور قشاط، وهكذا نجحت في تفادي تمزّقه، وسرعان ما بدأ بقيّة أقراني يقلِّدونني، ويخيِّطون فساتينهم بقشاطات مخيّطة وملتصقة على خواصر ظهورهم.

تتراقص أمامي الآن ذكريات تلك المرحلة البديعة، وكأنّي أسمع قهقهات الأصدقاء وهم ينظرون إلى قشاطاتنا الممزقة، ويظهر جزءاً كبيراً من ظهورنا، فنضحك ونضحك دون أن نعتبر تمزقات الفستان مشكلة بقدر ما كنّا نغوض في عالم القهقهات، طالما كانت أمّهاتنا تخيِّط تمزُّقات الفساتين برحابة صدر. كم كانت تلك المرحلة غنيّة وطافحة بالمرح والحبور والبهجة، وأجمل ما كان يبهجنا لعبة “الپرو پرڤانو پري وا چاوايا”، وألعاب عديدة كالمختبوية والصّلّابة والمزاعير والكلل والعديد من الألعاب، طفولة بريئة حافلة بالعفويّة والبهجة، صورٌ عديدة لا تبارح ذاكرتي، تنفرش على شرِّيط الذّاكرة كأنّ أحداثها حصلت منذ أيام!

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.