حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 31 – إلى 40

للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

 

  1. كان الوالد يربّي الأرانب، ماذا كان ينتابك أثناء ولادة الأرانب وهي تمرح في حوشكم الفسيح؟

قبل أن أتحدَّث عن مرح الأرانب، سأتحدّث عن مرحي ومرح بعض الأصدقاء، فيما يخصُّ الأرانب، أتذكّر عندما كنّا نعمل في سلك التَّعليم، كانت أسعار بعض السّلع بالارتفاع بين حين وآخر، وإذ بي في يومٍ من أيام شتاء ديريك، أسمع بارتفاع سعر اللّحم، فضحكتُ مستهزئاً من ارتفاع هذه السّلعة، فقال لي الأستاذ سمعان بهنان أبو بهنان:  يا أخي أنت ما يهمّك بارتفاع سعر اللّحم؛ لأنَّ لديك موسم وزراعة وما شابه. فقلت له: لا لا، لا يهمُّني ارتفاع سعر اللّحم لأسباب أخرى أقوى بكثير ممَّا يتعلّق بالمواسم، فقال: ما هي الأسباب الأخرى القويّة الَّتي تجعلك غير مكترث بارتفاع سعر اللّحم؟ فقلت إنّني قرَّرت اعتباراً من اليوم أن أصبح نباتيّاً؛ وأستغني عن شراء اللّحم نهائيّاً، خاصَّة لحم الخروف والأبقار والعجول، فقال: كيف ستعيش؟ فقلت له: سأعيش كأنّي إنسان نباتي، وهذه الحالة أكثر صحّيّة. فضحك هو والكثيرون ممَّن سمعوا تصريحاتي، وفعلاً منذ ذلك اليوم استغنيت عن شراء اللُّحوم، وليرتفع سعرها إلى أن يصبح سعره سعر الرَّاتب كله، وحقيقة الأمر لم أستغنِ عن شرائه من باب البخل أو الفقر، بل من باب أنَّني أستطيع الاستغناء عن هذه السّلعة، وحلّيت المشكلة بطريقة طريفة، فقد التقيت مع والدي السّيد صامو شلو المعروف بفكاهاته، وناقشت معه قضيّة ارتفاع أسعار اللّحوم، والتّركيز على تصنيع لحوم داخل البيت، ولا يبعد عن شقّتي (15) سم، وذلك بالتَّركيز على تربية الأرانب، ووالدي كان شغوفاً بتربية الأرانب والحمام، ولكن ظروف حوشنا الجديد ما كانت مناسبة إلّا بتربية الأرانب، وقلت له: يا بابا أنا ألغيت شراء اللَّحم من السُّوق نهائيَّاً، وما عليك سوى التَّركيز على تربية الأرانب، بحيث يكون لدينا شهرياً ما بين (10 ــ 20) أرنبة جاهزة للدعم اللّحمي. ضحك وقال: هذه الفكرة حلوة جدّاً، وهكذا ضاعف اهتمامه بالأرانب، ووسّع المكان المخصَّص لتربيتها، وخلال أسابيع، وفيما كنتُ عائداً من الدَّوم، وإذ به يفتح باب “الكوزكة” كوخ صغير، فخرج عشرات الأرانب الصّغار والأرانب الكبار تمرح في فسحتهم الصَّغيرة، وقال لي: سأذبح لك للغذاء أرنبتين من الأرانب التي عمرها قرابة شهرين، فقلت له: عندي ضيوف، ولم يتناولوا أرنباً في حياتهم، ويصعب عليهم الاقتراب من محلّات اللّحوم هذه الأيّام إلّا بمغامرة، فضحك وقال: إذاً سنذبح أربع أرانب، وهكذا أعدَّ لنا الوالد وليمة من الأرانب، ومن يومها حتَّى تاريخ عبوري البحار لم أشترِ كيلو غرام واحداً من اللّحوم، متحوِّلاً إلى كائن نباتي، وأقصى ما آكله من اللُّحوم هو لحوم الأرانب، حتّى أنّني كنت بين الحين والآخر أتبرَّع بأرنبة أو أرنبتين لبعض الزّملاء، وكنتُ أتندّر أحياناً في المدرسة قائلاً: ما رأيكم بعزيمة من الأرانب؛ لأنَّ الأرانب تقوم ركباً في حوشنا، وعندما شرحت نظريَّتي الأرنبيّة المبرمة مع الوالد أوشك بعض الزّملاء أن يقعوا أرضاً من ضحكهم، وتعالت القهقهات. ثمَّ دخلت إحدى الزّميلات قائلة: أستاذ صبري أنا ما يطلع لي شي أرنبة، وإذ بي أردُّ عليها بكلِّ براءة وعفويّة: لا، فقالت: ليش لفلان وفلان يطلع له أرنبة، وأنا ما يطلع لي؟ فقلت لها: أنت يا عيني أحلى أرنبة، فلا تحتاجي إلى الأرانب نهائيّاً! أحمرّ وجهها خجلاً وضحكت وتعالت القهقهات في جوٍّ طغى عليه نظرية تربية الأرانب في مواجهة ارتفاع أسعار اللُّحوم!

  1. في فترات متقطّعة كنتم تربون الدّجاج أيضاً، كم كنت تفرح وأنت تجد بيضة في أحد أكواخكم؟!

كنتُ أفرح كثيراً، ربّينا الدُّجاج في بيتنا العتيق، في ديريك العتيقة، هناك كان لنا الكثير من الأكواخ و”كوزكة” قنّ الدّجاج، إلَّا أنَّ تربية الدّجاج عندنا لم تدُمْ طويلاً، وما كان والدي يحب هذه الهواية، بل كانت أمّي تميل إلى تربية الدّجاج أكثر من والدي، أثناء ذلك كان تركيز والدي على تربية الحمام، ونجح في تربية الحمام كثيراً، كم كنت أشعر بالفرح عندما كنت أبحث في “حَضْرة” التّبن، كوخ كبير، وأجد بيضة حارّة باضتها دجاجة من دجاجاتنا منذ دقائق، وأركض نحو أمّي وأقول لها: ماما ماما وجدت بيضة في إحدى زوايا حَضْرة التّبن، انظري ما تزال البيضة حارّة، فكانت أمّي تقول: بس ما يسيروا البيض أربع بيضات سنطبخهم مع البندورة الحمراء وقليل من البصل المفروم، وكانت هذه الوجبة من أسهل الوجبات الّتي تعلَّمناها ونحن صغار، وكنّا نطلق عليها “الجظّ مظّ”، وكم كان الأستاذ سمعان بهنان شهيراً في إعداد هذه الوجبة، وتحدَّث مراراً للصديق الفنّان النّحّات عبد الأحد برصوم عن نكهة “الجظّ مظّ” وكيف يشعر بسعادة عندما يعدُّ هذه الوجبة البسيطة، قائلاً لصديقه: إنّ السّعادة يا عبد ممكن أن تكون من أبسط الأشياء حتى ولو كانت إعداد وجبة لذيذة خفيفة مثل “الجظّ مظّ”، كم كانت أيّام زمان جميلة بمراحلها الطُّفوليّة والشَّبابيّة، أيام الجامعة والخدمة الإلزامية، ولقاء الأصدقاء في دمشق وحلب وفي دنيا الاغتراب.

وفي اليوم الثّاني عثرتُ على بيضتين، وأخذتهما إلى أمِّي بفرح كبير، وكانت هي قد وجدت بيضة صبيحة ذلك اليوم، فقالت: أصبح لدينا الآن أربع بيضات، وعندنا الكثير من البندورة، سأفرم بصلتَين وأعدُّ وجبة “الجظّ مظّ” الشَّهيّة مع خبز التنّور اللّذيذ، تستطيع يا ابني أن تذهب وتلعب مع رفاقك، وتعود حوالي الظّهر ستكون الوجبة جاهزة، فأخرج إلى الشَّارع وهناك التقي من رفاقي، ونلعب معاً الكثير من الألعاب، ونبذل طاقة كبيرة أثناء اللّعب إلى أن نجوع تماماً، وأعود خائر القوى وبأشدِّ الشَّوق لتناول وجبة “الجظّ مظّ”.

الآن وأنا في أعماق غربتي الطَّويلة، ترتسم أمامي مشاهد الطُّفولة والشّباب أيضاً، وأرى كم كان الأستاذ سمعان بهنان صائباً في رأيه بأنّ السّعادة تنبع من قناعاتنا، وممكن أن تكون من خلال تناولنا وجبة لذيذة من “الجظّ مظّ” مثلاً، بحيث أن يعدّها بنفسه، وكنَّا نضحك بكلِّ فرح ومرحٍ وعفويّة، رغم أن شظف العيش كان طاغياً علينا، مقارنةً بما يتوفّر لجيل هذا الزَّمان، ومع هذا لا “الجظّ مظّ” ولا ألذ وجبات الغرب والشَّرق تسعدهم في الكثير من الأحيان، حيث “نظنظاتهم” وتأفّفهم قائمة ركباً على الطّالع والنّازل.

لماذا كنّا سعداء ونحن أطفال وشبّان أيّام زمان رغم احتياجنا إلى الكثير الكثير من احتياجات الحياة؟ .. كم أنا بشوق إلى لمّة الأصدقاء والصّديقات بحيث أن يقوم الأستاذ العزيز سمعان بهنان بإعداد وجبة شهيّة من “الجظّ مظ”، في هذه المطابخ العصريّة، ويأخذ مجده في إعداد الوجبة بطريقته والبسمة مرتسمة على وجهه البشوش، ونحن نتناول معاً، وتتعالى قهقهاتنا، ونعيد مجد ذكرياتنا الدّافئة الّتي كانت تغمر قلوبنا بكلّ ما كان يوشّح حياتنا من براءة وسعادة أيّام زمان!

  1. على فترات طويلة كنتم تربّون الأبقار، كنتم تخصِّصون سطلة لبن لتناولها وسطلة لبيعها، تحدّث كيف كنتَ تبيع سطلة اللَّبن وأنت طفل بحدود العاشرة أو أكبر بقليل؟

أجل ربّينا الأبقار فترة طويلة من الزّمن، إلى أن أصبحتُ في حدود الخامسة عشرة من عمري، كنتُ ماهراً في بيع سطلة اللّبن في سوق المدينة، كانت السّطلة بحدود (2) كيلو، وكنت أبيعها ما بين ليرة وليرة ونصف كأقصى حد! وبهذه اللِّيرات كنّا نشتري السّكّر والشّاي والرّزّ والفاصولياء والملح والزّيت والسّمنة وغيرها من حاجات المنزل!

كنتُ أحمل سطلة اللَّبن وأنا بين العاشرة والثّانية عشرة من عمري، كم كنتُ أجيد بيع سطول اللّبن، حيث كانت في البداية أمّي ترافقني، لكن بعد أن بعنا معاً العديد من سطول اللّبن، قلت لأمّي: ماما من الآن وصاعداً لا داعي أن ترافقيني في بيع سطلة اللّبن؛ لأنّك ممكن أن تعملي الكثير من الأعمال في البيت بدلاً أن تضيِّعي كلّ هذا الوقت من أجل بيع سطلة لبن. لم تقتنع أمِّي في البداية بفكرتي، فاقترحت عليها أن ترافقني يوماً يومين ثلاثة، وتراقب كيفية بيعي لسطلة اللّبن، وتبقى هي كمشرفة على عمليّة البيع من بعيد لبعيد؛ لتتأكّد من أنّني قادر على بيع اللّبن دون أيّة مشاكل مع الزّبان الَّذين يحبُّون شراء اللّبن!

سألت أمِّي في اليوم الأوَّل الّذي بدأت أبيع سطلة اللّبن: أقل سعر بكم يناسبنا أن أبيع هذه السّطلة اليوم؟ فقالت لي ما بين ليرة وليرة ونصف؛ لأنها مملوءة بشكل جيد!

جلستُ على رصيف البيع، وكنَّا مجموعة من البائعين والبائعات، وكنتُ أصغر البائعين سنّاً، وكان هناك بعض الصَّبايا أكبر منّي بقليل. وكذلك بعض الأطفال أكبر منِّي بسنتين ثلاث، جلست أمِّي قريبة منّي بضعة أمتار تراقب طريقتي في البيع، وحالما بدأ الزَّبائن يلقون نظرة على سطول اللَّبن، كنت أستقبل الزّبون بابتسامة، فكان يسألني عن سعرها فأقول له: هذه السّطلة حقّها ليرتان لكنّي ممكن أن أحسم لك ربع ليرة، وتستطيع أن تشتريها بليرتين إلّا ربعاً، فبعض الزبائن كان يدفع بها ثلاثة أرباع اللّيرة، ومنهم مَن كان يدفع ليرة، وهو الحد الأدنى من السِّعر المسموح لي ببيعها، ومع هذا ما كنتُ أبيعها، وحالما كنت أجد من يدفع لي ليرة وربع كنت أبيعها له، فجاءت زبونة ممتلئة القامة في حدود الخمسين من عمرها تقريباً، فاستقبلتها ببشاشة، أهلاً خالة، قالت لي: هذه السّلطة هي لك؟ فقلت لها: نعم إنّها سطلتي، وفيما كانت تسألني عن سعرها، قلت لها: هذه السطلة حقها ليرتان، ولكنِّي سأبيعها لك بليرة ونصف فقط، وقد حسمت لك نصف ليرة؛ لأنّك تشبهين أمّي كثيراً، ابتسمت لي وقالت: الله يخلِّيك يا ابني ويخلِّيلك أمّك، سأشتري سطلة اللَّبن، لكن شريطة أن ترافقني وتحملها إلى البيت. بكلِّ سرور خالة، أصلاً بشكل طبيعي أحمل سطلة اللّبن للزبائن الّذين يشترونها منّي!

حملت سطلة اللَّبن، وتوجَّهنا نحو بيتها، فرّغت سطلة اللَّبن في جاط كبير، وسلَّمتني ليرة ونصف، وأعطتني ربع ليرة “بخشيش”، وقالت: أنّني أحببتك وساعدتني في حمل سطلة اللّبن، فعدتُ وأنا في غاية السُّرور.

كانت أمّي تنتظرني، وحالما شاهدتني تقدّمت نحوي وباستني وقالت لي: كنتَ شاطراً يا ابني، فأخرجتُ الفلوس من جيبي، وأعطيت لها ليرة ونصف وقلت لها: أعطتني ربع ليرة “بخشيش” أيضاً. قالت أمِّي: طلعت يا ابني أشطر منّي، اعتباراً من الغد تستطيع فعلاً أن تبيع سطلة اللّبن لوحدك، ولا داعي أن أرافقك كي أختبرك في طريقة البيع؛ لأنّ طريقتك ناجحة، وتعرف كيف تفاوض أثناء البيع بابتسامة، وتقنع الزّبون بطريقة سريعة. وهكذا أسندت لي أمِّي مهمّة بيع سطلة اللّبن، وتوجّهنا إلى أحد الدّكاكين، واشترينا كيلو سكّر ونصف كيلو شاي. وقالت لي تفضّل بقي معي ربع ليرة ومعك ربع ليرة البخشيش خبّيهما في القمبرة؛ أي حصالة النّقود. عدنا إلى المنزل، وتوجّهتُ إلى القمبرة، وعدّيت فرنكاتي، كان لدي سبعة فرنكات، ووضعت نصف ليرة فيها، وخبّأتها بين الألحفة، وبدأتُ أبيع سطول اللّبن وأتابع دراستي بنفس الوقت.

  1. تحدّث كيف كنت تفرح وأمُّكَ تضع لك “السِّيْر” قشطة اللّبن، تتناوله مع خبز التّنُّور بلذة عميقة؟

كم كنتُ أشعر بلذّة “السَّير” قشطة اللّبن، وأنا أتناوله بمتعة ولذّة عميقة فعلاً، لماذا لا أشعر بنفس المتعة وأنا أتناول كلّ أنواع القشطة هنا في ربوع ستوكهولم منذ أكثر من ربع قرن، هل قشطة لبن أمّي كان فيه لمسة أمِّي الحنونة، أو حنين أبقارنا؟

أعتقد أن شعورنا بالفرح وتلذُّذنا بمتعة الطَّعام الَّذي كنّا نتناوله بين أحضان الأسرة والعائلة، يعود إلى دفء العائلة نفسه، وبالتَّالي ينعكس دفء الأسرة على متعة الطَّعام الَّذي كنّا نتناوله، ويبدو أنّه ينقصنا ذلك الدِّفء الحميمي والوئام بين أفراد الأسرة، ويبدو أيضاً أن عصرنا في ذلك الزَّمان كان له قناعاته وحبّه ومتعته، على عكس ما نراه الآن في الغرب وفي أيِّ مكان من العالم، حيث لا يعجب العجب لأطفال هذا الزّمان ويستهلك كل طفل أضعاف مضاعفة لما كان يستهلكه أطفال جيلنا، ومع هذا أرى أنَّنا كنَّا أكثر سعادة وقناعةً بما هم عليه أطفال هذا الزّمان، وما كنّا نتذمَّر من الطّعام والشّراب الّذي كان الوالدان يقدِّمانه لنا، وأرى أنَّ الألعاب الّتي تستهلك على طفولة أي طفل في الوقت الرّاهن تعادل استهلاك مصاريف عشرة أطفال من أطفال جيلنا عندما كنّا أطفالاً، مع هذا أراني أكتب نصوصي وأشعاري، وأستلهم من طفولتي أبهى اللَّحظات، وأتساءل هل أطفال هذا الزَّمن والأزمان القادمة سيستلهمون من طفولتهم الوارفة والمدلّلة والباذخة إلى درجة الإفراط أحياناً، هل سيكتبون قصصاً وأشعاراًوروايات عن عوالم وفضاءات طفولتهم، أم أنَّ الإبداع والكتابة وتجلّيات الحرف ستصبح طموحات في جعبة النّسيان؟!

إنّي أرى حالة انفكاك أُسَري ما بين أفراد الأسرة الواحدة؛ لما لكلِّ فرد من خصوصيّة وفردانيّة مخيفة، حيث أغلب الأوقات يقضيها كل طفل ويافع ومراهق مع عوالمه، فلا يجد الفرد وقتاً لأبيه وأمّه وأخته وأخيه بقدر ما يقضي ساعات طوال عبر شبكة التَّواصل مع أصدقاء وصديقات ومعارف غالباً لا يعرف عنهم سوى أسمائهم والقليل القليل عنهم، فهل من المعقول أن يتقبّل بمتعة عميقة لو قدّمت له أمّه قشطة اللّبن من ثدييها وليس من ضرع البقرة؟! هل يسير عصرنا نحو عبور الأفراد والأطفال في خبايا المجهول؟!

  1. كانت الوالدة معروفة بإعداد الجبنة والجبنة المثوَّمة والسِّيركة والجاجيق، تحدّث عن هذه الأجبان؟

كانت أمّي ماهرة فعلاً في إعداد كل أنّواع الجبنة، حيث كانت تعدُّ لنا سنويّاً سدّاً كبيراً من “السّيركة”، وهي جبنة ناعمة مع حشيشة “السِّيركة”؛ وهي نبتة صفراء وخضراء نلمُّها من حقول القمح خلال الرّبيع، تعدّها بطريقة ناجحة، وتغلق فتحة السّد، وتقلبه على رأسه، وتضع قسماً منه في باطن الأرض، ويُترك جزءٌ منه خارج الأرض، حيث يحتاج السّد إلى وقتٍ كي يصبح جاهزاً لتناوله، ونخرجه بعد أن تصبح السّيركة جاهزة، ونتناولها بلذّة عميقة، كما كانت تصنع الجبنة البيضاء الصّافية مع حبّة السَّوداء، والجبنة المشلّلة أو بالأحرى المجدولة، والجبنة المثوّمة وهذه الجبنة كانت تتطلّب مهارات خاصّة؛ كي تحافظ على نكهتها المطلوبة، وتُعِدُّ الجاجيق أيضاً، وهو مصنوع من الجبنة ومواد أخرى، وكل هذه الأجبان كانت تعدُّها أمّي بطريقة ناجحة؛ ممّا جعل نساء الحارة يقصدونها كي تعدّ لهنَّ أجبانهنَّ، لأنَّ الكثير من النّساء ما كنَّ قادرات على إعداد هذه الأجبان، حيث كانت تفسد وتصاب بالدِّيدان البيضاء الصَّغيرة، فتضطرُّ النِّساء أن ترمي كلّ الأجبان، لهذا كنت أرى أسبوعيَّاً أثناء وقت إعداد الجبن بعض النّسوة يرتادون بيتنا، ويطلبون من أمِّي أن تعدَّ لهنَّ أجبانهنَّ، ويحضِّرون الأجبان والمواد الّتي يخلطونها مع الأجبان، وبعد أن تُعِدَّها وتضعها في السّدود والقطرميزات الكبيرة الخاصّة بالأجبان، وتعدّها لهنَّ أمّي مجّاناً وعلى مدى ساعات، وكانت تنجح الأجبان الّتي تعدُّها أمّي مثل أجباننا تماماً، ومع أنّ النِّساء كنّ يتبعن نفس الخطوات الّتي تتبعها أمِّي، إلّا أنَّ الكثير منهنَّ ما كانت تنجح معهنَّ، فتفسد ويرمونها، فيضطرَّون لـلعودة من جديد إلى إعداد أمّي لهنَّ، حيث يقال أن أمّي كان في يديها بركة في إعداد الجبن بكلّ أنواعها! وأتذكّر كيف كانت النّسوة تقبّل يدَي أمّي بعد أن تنتهي من إعداد الجبنة؛ كي تنتقل البركة إليهنّ على حدِّ قولهنَّ!

كما أنّ والدتي كانت ماهرة في إعداد المكدوس، والمخلّل، والكشك والزّيتون، والمربّى بكلِّ أنواعه، مربّى التِّين، والعنب والقرع، لماذا رحلتِ بعيداً عنِّي يا أمّاه؟ مَن سيُعِدُّ لي كل هذه الأجبان والمربّيات والمخلَّلات والزَّيتون والمكدوس؟!

ستبقين يا أمّاه شجرة وارفة في أريج حرفي ولوني، تعطّرين ليلي ونهاري وتجلِّيات حرفي حتَّى آخر رمقٍ في حياتي، منك أستمدُّ نضارة حرفي وشموخ لوني، ستبقى روحك مسكونة في كينونتي إلى الأبد!

  1. ماذا بقي معلّقاً في الذّاكرة عن مهارات الوالدة في تقطيعِ الشِّعيريّة مع أختيكَ وبقيّة الأهل؟!

كم كانت ورشة تقطيع الشّعيريّة جميلة ومسلّية، صورة وذكرى الوالدة مطبوعتان في ذاكرتي ومخيَّلتي وكياني، كانت أمّي سريعة في تقطيع الشّعيريّة، وتتشكّل ورشة تقطيع الشّعيريّة مرّة في كلِّ عام، أغلبهم من الأهل فانضمّت مارو ابنة خالي مع أختي كريمة ونعيمة إلى الورشة، يتمُّ تحضير العجين أولاً، ثمَّ يقطّعن الشّعيريّة باليد، يعملن العجين فتيلات رفيعة، ويقطعنه بين الإبهام والسّبابة، كنتُ فضوليّاً ومتعلِّقاً بأمِّي، أجلس بجانبها حول الطَّبق وهن يقطِّعنَ الشِّعيريّة، أنظر إلى أمّي، وأقبِّل يدها وهي تفرك الفتيلة وتوزّع فتيلات الشّعيريّة على العاملات، دقّقت وأنا بحدود العاشرة من العمر، كيف تقطّع أمِّي بطريقةٍ سريعة وناعمة حبّاتها الّتي تقطّعها على أطباق كبيرة، وأحياناً على السّفرة الكبيرة، ثمَّ تعرضها للشمس إلى أن تجفّ، وبعد أن تجفَّ يتمّ عرضها للشمس على شرشف كبير، وبعد أن تجفَّ جيداً، يتمّ قَلْيها في الدَّوق بعد أن نقلب الدَّوق، ويصبح كإناء؛ لأنّ الدّوق يتمُّ استخدامه لتقمير الخبز السَّاج عليه، وأحياناً كانت أمِّي تقلّي الشّعيرية في اللّكن الألمينيوم/ “البافون”، وفي إحدى المرّات أحببتُ أن أنضمَّ إلى ورشة الشِّعيريّة؛ كي أقطّع مع أمِّي وبقيّة العاملات رحَّبن بي، وعلّمتني أمّي أولاً كيف أمسك الفتيلة، وأقطع جزءاًصغيراً منه، وأبرمه بين الإبهام والسّبابة، ثمَّ أرميه على الطَّبق، كانت حركة أصابع أمِّي والصَّبايا سريعة، ولكن حركة تقطيع أمِّي للشعيريّة كانت أكثر دقَّةً ومهارةً وسرعةً، تبدو وكأنّها آلة خاصّة لتقطيع الشّعيريّة، حيث يتمُّ تقطيع الحبّات بالقياس والحجم نفسه، حضّرتْ أمِّي لي فتيلة صغيرة بحدود شبر، وبدأت أقطّعها بحركة بطيئة، وكانت حبّاتي تختلف عن حبّاتهنَّ، وشجّعتني أمِّي بينما أختي علّقت عليّ قائلة: أنّها غليظة حبّاتك، حاولْ أن ترفّعها أكثر؛ كي تصبح مثل حبّاتنا، وحاولت أن أقطّعها مثل حباتهنَّ وخلال فترة قصيرة تمكّنتُ أن أقطّع معهم الشِّعيريّة، صحيح كنتُ بطيئا،ً لكنِّي تمكّنتُ من تقطيعها بشكلٍ مقبول.

أتذكّر التقطتُ لأمّي صورة في بلكون بيتي الجديد وهي تقطّع الشّعيريّة، وكانت تلك الصُّورة ناجحة جدَّاً وعندما عبرتُ البحار أخذت معي أغلب أرشيف صوري الخاصّة بما فيها هذه الصُّورة، وأرسلت حقيبتي بكلِّ محتوياتها إلى الصَّديق نعيم إيليا في برلين؛ لأنّني كنتُ في حالة شبه تشرّد في أزقة أوروبا، أنتقل من دولة إلى أخرى، أقطع الحدود الدَّوليّة من دون أي باسبور أو وثيقة سفر، وما كنت أعرف أين سينتهي بي المطاف، وبعد أن استقرَّت قليلاً أوضاعي، أرسل صديقي نعيم إليَّ حقيبتي، وعندما تفقَّدتها، تبيّن لي مباشرةً أن تلك الصُّورة ناقصة من صور أرشيفي؛ لأنَّ الصُّورة كان لها أهمِّيتها عندي؛ لهذا تبيّن لي مباشرة أنّها مفقودة، ولا أعلم حتّى الآن مَنْ أخذ تلك الصُّورة، ويبدو أنَّ الذّي شاهد ألبوم صوري أحبَّ أن يحتفظ بالصُّورة؛ لما كان للصورة من معنى وتعبير للموروث الشَّعبي، لقطة جميلة للغاية، آهٍ لو حصلتُ عليها الآن، إنّها بالنّسبة إليّ ما كانت تُقدّر بثمن، أشعر بحزن عميق لأنّني فقدتها؛ لأنّها كانت أوضح وأجمل صورة من الصُّور الّتي احتفظتُ بها من صور أمِّي قبل رحيلي وعبوري البحار.

  1. ماذا كنتم تموِّنون لمؤونة الشّتاء، وما هي أبرز وجبات الطّعام الدَّارجة آنذاك؟

كنّا نموّن أكياساً عديدة من الحنطة، نغسلها بالماء الزُّلال، ثمّ ننشِّفها وننقِّيها على السّفرة حبّة حبّة، نخصّص قسماً منها للسليقة، ونسلقها في قاقبة، دست كبير خاص بالسَّليقة، ما أجمل طقوس السَّليقة، كم كان يوماً بهيّاً عندما كنّا نسلقها، كنت أحبُّ تناول السّليقة ساخنة يعلوها البخار، وبعد أن نسلقها كنّا ننشِّفها طويلاً على سطح المنزل، كانت العصافير تأخذ حصّتها من حبّاتها اللّذيذة. نصنع منها البرغل الخشن والنّاعم والنّاعم جداً، ولكلِّ هذه البراغل وجباتها الشَّهيّة، كما كنّا نموّن العدس المقشّر الأحمر، ونصنع منه الشُّوربة ونطلق عليها العدسيّة، وهي أكلة لذيذة للغاية، والعدس غير المقشّر ونعدُّ منه وجبة المجدّرة، وأحياناً كنّا نموِّن قليلاً من الفريكة، وتخزين تنكة كبيرة من الحنطة الخضراء وهي في مرحلة الفريكة، أي قبل أن تصبح حبّات يابسة، ثمَّ نموّنها حبات خضراء، ونتركها تجفُّ ونعدُّ منها وجبات الفريكة مع الدّجاج، كانت لذيذة جدَّاً هذه الوجبة. وكم كنت مولعاً في أكلة الشَّمبورك/ السَّمبوسك المصنوع من لحمة مفرومة مع بصل مفروم وبقدونس، ويتمُّ حشوه في رقائق العجين بعد طبخ حشوته، ثمّ يتمُّ تقميره أحياناً على مدافئ الحطب أو على السَّاج أو قَلْيه بالزَّيت، وكذلك كنت أحبُّ وجبة الكتل، أي الكبّة خاصة عندما كنّا نقليها بالبيض بعد طبخها، وهناك وجبات خفيفة وطيّبة كالبلّوع والإيچ، وأغلب الظّن أن البلّوع أطلق عليه اسم البلّوع لسهوله بلعه! وكم من الأكلات الشَّهيّة كالأبرخ/ الملفوف بكلِّ أنواعه، والفاصوليا الخضراء والبيضاء اليابسة، والبرغليّة والمدفونيّة، والمركة، والباميا، والقرع والمطبّق، والخضرة المشكّلة، والمحشي بأنواعه، والكبّة صينية، والرّأس، والصّمّكات والجوقات، والعديد من الوجبات والأطباق الشَّعبيّة المحلِّيّة الَّتي لا يمكن حصرها ضمن هذه الإجابة السَّريعة، كما أنّنا كنّا نعدُّ الكثير من الحلويات كالشّلّكات والزلوبيا والمشبّك/ الطيبوناهي والبوخينة الّتي كنّا نعملها خلال عيد نينوى/ “صميميكي”، وغيرها من الحلويات اللَّذيذة، كما كنّا نصنع العديد من أنواع المربّيات: كمربّى العنب والتّين، والقرع، والورد، والباذنجان، وبعض الفلّاحين كان لهم مناحل ويربّون النّحل، فينتجون أقراصاً شهيَّة من العسل، وقد كان العم عيسى أسمر أبو صهري كورية مشهوراً بمنحلته الَّتي كانت تنتج تنكات عديدة من العسل الصَّافي بأقراصه الشَّهيّة، كما كنّا نصنع من العنب الحليلة والباستيق والعقود مع الجوز، والزّبيب بأنواعه والعرمش وهو ما تبقّى من العنب الّذي كنّا نتركه في الدَّاليات حتّى ينشف ويصبح عرمشاً، كما كنّا نصنّع الانبيت الأحمر/النّبيذ من عنب الدَّار كڤنار والمسبّق، إضافة إلى إعداد التِّين المجفّف، والقديد الَّذي كنّا نجفّفه من البطيخ الأحمر والبطّيخ الّذي فيه نكهة حموضة خفيفة أخضر فاتح نطلق عليه القاوان، وكنّا نركّز على إعداد القليّة أي اللّحمة بعد أن نربّي ربيطة/ “دَرْمَالاْ” على مدى شهور ونذبحها، ونحوّل لحمها الصَّافي إلى قليّة، ونخزّنها للشتاء الطَّويل، وكم كانت لذيذة على البرغل أو مع قليها بالبيض، إضافة إلى إعداد عدّة أنواع من المخلّل، كالكشك المصنوع من الحرشف والبونكة والحنطيّة وغيرها من الحشيشيّات، ونعدُّ سدّاً كاملاً من الكشك كي نتناوله في الشِّتاء، وكان يتميّز بحموضة لذيذة، والمخلّل الذي كنّا نعمله من اللّهانة والقتّي/ التَّرعوز، والعجّور/الفنجكات والخيار وغيرها من الخضار، وقد كان العم الرّاحل داؤود متّو شهيراً بزراعة السّمسم، ومنه كنّا نصنع الطّحينة ونستخدم السّمسم فوق الخبز؛ فيعطي نكهة طيّبة للخبز وغيرها من المعجّنات كالكليجة في أيّام الأعياد.

أندهشُ تماماً كيف كان آباؤنا وأمّهاتنا وأجدادنا رغم بساطة حياتهم الفلّاحيّة أن يعدّوا كل هذه المـأكولات والحلويات والمخلَّلات وكلّ ما كان يتوفّر لهم الأرض وسواعدهم، مع هذا كانوا يصنعون من الأرض المباركة، كل هذه العطاءات بأيديهم وبمعدّات بسيطة، بعيداً عن معالم ومصانع هذا الزّمان، ولِمَ لا طالما هم من سلالة حضاريّة تضرب جذورها في أعماق التّاريخ الحضاري الإنساني في الشَّرق؟ إنّهم أحفاد سومر وأكّاد وكلدو آشور السّريان وآرام، شعبٌ حضاري عريق يقال أنّه أوّل شعب اكتشف الحنطة واستخدمها كخبز منذ آلاف السّنين!

  1. لعبة الخاتم/ الخوصة، وبيت لبيت، ماذا تتذكّر من هاتين اللُّعبتين وأنتم حول المدفأة؟

لعبة الخوصة، الخاتم ولعبة بيت لبيت كانتا من الألعاب الشَّعبيّة الدَّارجة في ليالي الشّتاء في الأزمنة البعيدة، حيث لا تلفاز في ذلك الحين ولا أيّة وسائل ترفيهيّة أخرى، فكنّا نلعبها ونتسلَّى في جوٍّ من الفرح والمرح والفكاهة، وننقسم إلى فريقين، مثلاً كل فريق أربعة أشخاص، ونقوم بعمليّة طير نقش، أو “تسطو مسطو” كي نحدّد مع مَنْ ستكون الخوصة كي يبدأ اللّعب، فعندما يحزر أحد الفريقَين في عمليّة طير نقش، أو “تسطو مسطو” يبدأ باللُّعب، واللّعبة عبارة عن توزيع الخاتم بين اللّاعبين وتركه مع أحدهم، ثمَّ يُطلب من الفريق الثَّاني أن يحزر مع مَنْ هو الخاتم، فيتمُّ أحياناً “تپويچ”أحد اللّاعبين بمعنى أن نقول اللَّاعب الفلاني: “پوچ” أي ليس معه الخاتم فيخرج من اللُّعبة، ويتمُّ اختيار الّذي يحمل الخاتم من اللَّاعبين الثَّلاثة الباقين ويستمرُّ الفريق الثَّاني بمعرفة الشَّخص الَّذي يحمل الخاتم، فغالباً ما يوحي اللَّاعب الَّذي لا يحمل الخاتم على أنّه قلق وخائف في حركات وجهه وجسمه؛ كي يوهم الفريق الخصم بأن يختاره، ويتوّه عنه الَّذي يحمل الخاتم، وفي الوقت نفسه الّذي يحمل الخاتم يحاول أن يتجاهل الأمر، وكأنَّ الخاتم ليس معه نهائيّاً؛ كي يتم “تپويچه”، أي أنّه لا يحمل الخاتم، فلو تمّ اختيار شخص لا يحمل الخاتم على أساس أنّه يحمل الخاتم يخسر الفريق الَّذي لا يحزر وهكذا، لو تمَّ “تپويچ” شخص على أنّه لا يحمل الخاتم وكان الجواب صحيحاً، يستمرُّ اللُّعب ويتمُّ اختيار أحد اللَّاعبين الباقين، فلو عرف الشّخص وحدّده يربح الفريق نقطة ولو خسر تحديد الشَّخص الّذي يحمل الخاتم من اللّاعبين، يخسر اللُّعبة وهكذا يستمرُّون على جمع النِّقاط، وفي حال حزر وعرف الفريق مَن يحمل الخاتم؛ يتحوَّل الخاتم إلى الفريق الَّذي حزر حامل الخاتم، ويتمُّ الاتِّفاق على عدد النِّقاط الَّتي يجمعها الفريق الرَّابح، ويتبدّل الخاتم من فريق إلى آخر عندما يحزر الفريق الَّذي هو في موقع أن يحزر مع مَنْ هو الخاتم، وهكذا كنّا نقضي أوقاتاً مسلِّية في جوٍّ من المرح ونحن نلعب لعبة الخاتم، وكم كان بارعاً لطيف حدّاد أبو رباح في لعبة الخاتم، وكذلك أبو عزيزة، وأمَّا لعبة بيت لبيت أيضاً فتعتمد على الانقسام إلى فريقين، وكل فريق يسأل الآخر عن عدد الأشخاص في بيت ما كي يحزر الفريق، وعندما يحزر الفريق يكسب نقطة إلى أن يربح أحد الفريقين، وهكذا على ضوء مصابيح الكاز كنّا نقضي أوقاتاً طيّبة ومسلّية عبر هكذا ألعاب، أو عبر سرد القصص والحكايات من قبل روائي شفهي تتضمَّن قصصه الكثير من المعاني والحِكم والفكاهات!

  1. كان عمّك يوسف شلو معروفاً برواياته الشَّفهيّة، ماذا يعني لك عمّك في هذا الفضاء الرِّوائي؟

يا إلهي كم كان عمِّي الرّاحل يوسف شلو أبو أفرام رائعاً في سرد رواياته شفهيَّاً على مدى أيَّام وأسابيع وشهور في ليالي شتاء ديريك! روائي بديع في تقديم قصصه وأحداثها المتشعّبة ويقفلها في كلِّ سهرة عند نقطة تشويقيّة؛ كي يتابع قصّها وسردها علينا في اليوم الثّاني، كأنّنا إزاء متابعة مسلسل تلفزيوني ونحن نتلملم حول مدفأة الحطب، وهنا أريد أن أشير إلى أنّ معلِّمي الأوّل في تعليمي الأبجديات الأولى في السّرد القصصي والرّوائي هو عمِّي الرَّاحل يوسف شلو، حيثكان له الدَّور الأكبر في زرع حفاوة وحبّ السَّرد القصصي والرِّوائي في آفاق مخيّلتي؛ لما كان يمتلك من شخصيّة جذَّابة في سرد أحداث قصصه، بصوتٍ أخّاذ يستحوذ على اهتمامنا بكلِّ ما لدينا من مخيّلة وتركيز وشغف، وأجمل ما في طريقة عرضه لأحداث قصصه الرِّوائيّة هو أنّه أحياناً كان يقول: هنا يوجد “بَسْتِة” غنائيّة، ويغنّي مقطعاً غنائيّاً حول أحداث القصّة، فيعطي لطريقة سرده عرضاً سينمائيّاً بهيجاً، وأجمل رواياته الشَّفهيّة كانت: “رستمي ظال خُيي شوري كران” أي رستم العملاق صاحب السَّيف الكبير، ويبدو من العنوان أنّه باللُّغة الكرديّة، لكنّ عمِّي كان يسردها ويتلوها بالعربيّة مع أنّه كان يجيد الكرديّة الكرمانجيّة بطلاقة كسائر أفراد أسرتنا، وهناك قصّة “فيلزور وفيروشاه، وكلي وچوكو والأربعين حرامي، وهاديكو صاحب البستان” الفكاهيّة وغيرها من القصص الَّتي كانت من أهم تسلياتنا في شتاءات ديريك الطَّويلة!

“قدّم عمّي عملاً دؤوباً محفوفاً بعطاءات من القلب، ديريك يا زينة المدائن المشيَّدة بقلوبٍ عامرة، يا قطرات العرق المتناثرة فوق جاكوج عمِّي “يوسف شلو” الاثني عشر كيلو وهو يشقُّ الصُّخور الكبيرة شقّاً، كأنّها منشورة بمنشارٍ كهربائي، ديريك يا أمَّ العطاء برجالاتها وأمّهاتها، يا قصيدة منقوشة على جباه الفلَّاحين والفلَّاحات، يا همّة شعبٍ مجبول بطينِ المحبّة. ديريك يا حلم الرُّوح المنساب فوق خدود العشّاق، كم من العطاء حتَّى تربَّعْتِ شامخةً فوقَ وجنةِ الزّمن!

ديريك، أيّتها المبلَّلة بنسيمِ الصَّباح، تستقبلين دبّورة عمّي كي ينحتَ أحجار “الشّيِبين” المستطيلة ويبني تريتوارات ديريك. كم كان لديه رغبة ومهاراتٍ فريدة في نحتِ الأحجار وبنائها على مدى ساعات الصَّيف القائظة، وعلى مدى الشُّهور والسِّنين، كم من البيوت بناها عمّي معَ أصدقائه شمعون بولو وحدي أبو سامي ولحدو هيلانة وآخرين، كم من الأحجار نحت دون كللٍ أو ملل، وبنى مع أصدقائه عشرات بل مئات البيوت الشَّامخة حتّى الآن في ربوع ديريك. ديريك عرقٌ يتصبَّب من جباه العمّال ومعلِّمي البناء في أيَّام الصَّيف القائظة. كم من التِّريتوارات والأرصفة والبيوت بناها عمّي مع صديقه لحدو هيلانة وحَدَي أبو سامي؟ عملٌ دؤوب محفوف بعطاءات من القلب، يبنون أرصفة ديريك وبيوتاً من اللِّبن/ الطّين المجفَّف، من حجرٍ وطين ومن حجرٍ وإسمنت، ثمَّ من البلوك والقرميد، أصدقاء من لونِ المحبّة والعطاء البديع!

هل ستتذكَّر الأجيال القادمة كلّ هذه العطاءات، هل ستنحتُ أسماء هؤلاء على ناصية الشَّوارع مثلما نحتوا تلك الحجارة وبنوا مئات البيوت على مدى سنوات أعمارهم؟!

عمّي من لون القمح الصّافي، بنى مئات البيوت في ديريك العتيقة وفي ديريك وقرى ديريك، بنى قرى جديدة خلال شهور، أرضٌ جرداء تراها بيتاً بعد أيَّام، سرعةٌ من حفاوة بناء القصيدة!

عمّي رحلةُ عطاءٍ مجبولة بالوفاء، كحَّل مآقي ديريك بمحبّة كبيرة من خلال جاكوشه ودبّورته، ومهاراته في بناء عشرات البيوت الّتي ستظلُّ شامخة وشاهدة على جدار الزّمن إلى أمدٍ بعيد!”.

  1. كيف رويت لعمِّكَ قصة من وحي خيالك، في سياق سؤالٍ وجّهه لك عن سرد قصّة ما له؟

فيما كنّا في سهرة عامرة، وبعد أن انتهى عمّي يوسف شلو من سرد إحدى قصصه المسلسلة على مدى أيَّام عديدة، سألني كي أحكي له قصّة من قصصي الّتي أعرفها، وكنت في حينها بحدود العاشرة أو أكبر بقليل، وإذ بي أجهّز نفسي لأروي لعمّي قصّة فيها بعض الشَّخصيَّات، رويتها بطريقة قصصيّة مشوّقة، تشابكت فيها الأحداث واستغرق عرضها بضع دقائق على عمّي والحاضرين من أسرتي، والدي ووالدتي، وبعد أن انتهيت من تقديمها، قال لي: صدّق قصّتك حلوة، ولأوّل مرّة أسمعها، أتساءل من علّمكَ إيّاها؟

وهل أعجبتك القصّة يا عمّي؟

أيوه أعجبتني، لكن من علّمك القصّة؟

بالحقيقة يا عمِّي هذه القصّة لمَ أتعلّمها من أحد.

طيّب كيف حفظتها وحكيتها لنا؟

إنّها من خيالي يا عمّي، فقد نسجتها من خيالي الآن في هذه اللَّحظات الّتي عرضتها عليكم.

ابتسم عمِّي لي وقال: صدّق يا ابني ستصبح روائيّاً وراوياً ماهراً في المستقبل طالما في هذه السّن المبكِّرة تؤلّف من خيالكَ قصّة كهذه، فيها الكثير من عناصر القصّة المشوّقة، حتّى أنّني تصوّرتك حفظتها من قاص معيّن وترويها لنا كما سمعتها.

الآن تيقّنتُ من ثقة عمّي بي، ومن البناء المتين الّذي بناه في مخيّلتي وأنا طفل، ولم تذهب تلك الشِّتاءات الطَّويلة سدىً وأنا أسمعه برهافة، وكنتُ أحفظُ ما يقصّه علينا، وقادر على سرد قصصه الطِّويلة بكلِّ تشعّباتها، ما عدا المقاطع الغنائيّة، ما كنت أستطيع حفظ كلمات الأغاني بحذافيرها، لكنِّي كنت أحفظ الأفكار العريضة لما جاء فيها، وكلّ هذا يجعلني متيقّناً من كلِّ ما قاله عمِّي بأنّني سأصبح قاصّاً روائيّاً في مستقبل الأيام، وإلّا كيف كتبتُ خلال العام 2015 على مدى ستة شهور ثلاث روايات وكتاب ديريك معراج حنين الرُّوح بما يقارب (800) صفحة إبداعيّة قصصيّة وسرديّة وروائيّة، وكلّ هذه الطَّاقة تمَّ تشييدها وزرع البذرة الأولى من قبل عمّي، ثمَّ بنيت عوالمي خطوة خطوة من خلال قراءاتي المتواصلة وخبرتي الطَّويلة في الحياة، إلى أن وصلت إلى مرحلة تجسيد بوح هذه التَّجلِّيات السَّرديّة والقصصيّة والشِّعريّة.

سأبقى أتذكّرك وأذكرك وأحتفي بك يا عمِّي ما حييت، وإلى ذكراكَ وروحِك الطَّيبة أقدِّمُ محبَّتي العميقة، وسيبقى حرفي بكلّ أجناسه الأدبيّة يحتفي بك عالياً إلى آخر حرفٍ من تجلِّياتِ جموحِ الخيال!

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.