ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏لقطة قريبة‏‏‏لا يتوفر وصف للصورة.

الأماكن كلها… (4):

بنميمون في المعاريف ومعطف طفلة مليء بالرقع الملونة

عبد الرحيم التوراني

قرب قاعة سينما “مونديال” كانت مقهى صغيرة باسم “لاليكانتينا” تسيرها حسناء شابة مع أخيها الذي يقربها في العمر، كانت المقهى تحت بيتهما الذي من طابق واحد. وغالبا ما كان مدخل المقهى الصغيرة يمتلئ بأصدقائهما وزملائهما في الدراسة.

لكن أشهر زبائن “لاليكانتينا” بالنسبة لي، واحد اعتاد الجلوس بها لارتشاف فنجان قهوة وللتدخين وقراءة الصحف في صباحات الآحاد وأيام العطل. أتحدث عن الشاعر أحمد بنميمون. لعله كان مأخوذا ببساطة جمالية المكان وهدوئه التي تذكره بأماكن في مدن الشمال المغربي، هو القادم من شفشاون المدينة الأندلسية الرائعة. كان أحمد بنميمون يقيم بزنقة ابن النفيس في شقة صغيرة تقع بالطابق الأرضي. لما زرته أول مرة لفت نظري آلة بيانو كلاسيكي من حجم كبير ببهو الشقة.
أحمد بنميون رجل دمث الأخلاق، من ألطف الأصدقاء الذين تعرفت عليهم في معاريف السبعينيات والثمانينيات. سلوكه وكلامه وإحساسه يدلان على شاعريته ونبله. عكس آخرين لا تتذكر أنهم ينتسبون إلى قبيلة الشعراء إلا عندما ينشرون.

في سنة 1980 أصدر أحد أصدقاء بنميمون في كلية الآداب بظهر المهراز (فاس)، على حسابه الخاص ديوانه الرابع، جاء الصديق الشاعر من مدينة المحمدية إلى المعاريف ممتطيا راحلته الرونو 12 بيضاء، ليبحث عن أصدقائه في الشعر والإبداع والحياة ويهديهم إنجازه غير المسبوق في طباعة دواوين الشعر المغربي. (ما صدر منها حتى ذلك الوقت كان قليلا جدا). ديوان كتبت قصائده بخط مغربي أصيل، وفق تصميم خاص للشاعر وإنجاز خطاط اسمه عبد الوهاب البوري. عندما طرق محمد بنيس الباب كنت عند أحمد بنميمون، فحصلت على نسختي من “في اتجاه صوتك العمودي”، بغلاف للتشكيلي الصويري الحسين الميلودي مع كلمة رقيقة: “إلى الصديق التوراني.. من أجل إبداع جماعي…”. أتذكر الصديق بنيس بحماسته، هي نفسها ظلت معه لم تفارقه ولم تتبدل رغم السنوات والعقود.

مرة حدثني محمد زفزاف متعجبا كيف يتخاصم بنيس مع أحدهم حتى ضفاف العراك، وفي الغد تجده جالسا معه يحدثه ويتبادلان معا الضحك كأن شيئا لم يحدث بأمسهما. ولعمري هي خصلة إيجابية تسجل لحساب صاحب “الثقافة الجديدة”، المجلة الطليعية التي ظهرت في خريف سنة 1974، وكانت في البدء مشروعا أشرف على تهييء تصوره الأولي بعض مثقفي اليسار السبعيني، منهم عبد القادر الشاوي ومصطفى المسناوي وعبد السلام التازي وعبد الصمد بلكبير وغيرهم، قبل أن يستفرد بنيس بالمشروع ويحسب كله له. وكنت واحدا ممن ساهموا في البيع النضالي للعدد الأول من مجلة “الثقافة الجديدة”. كان سعر نسخة العدد لا يتجاوز أربعة دراهم.

كان بنميمون قد نشر ديوانه الأول (تخطيطات حديثة في هندسة الفقر) بغلاف جميل لصديقنا الفنان أحمد الجوهري عن دار النشر المغربية التي كان على رأس إدارتها في بداية السبعينيات الصديق عبد الغفار العاقل، مناضل اتحادي وقائد طلابي كان بارزا في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وقد نشر في نفس الفترة لعبد الكريم الطبال ولمحمد المومني (شقيق أحمد بنميمون) ومحمد زنيبر وإبراهيم بوعلو وآخرين.

سيستفيد أحمد بنميمون أستاذ اللغة العربية بثانويات الدار البيضاء من الحركة الانتقالية ويعود سالما إلى قواعده بمسقط رأسه الشاون أو شفشاون، لينقطع تواصلي مع بنميمون، لكني بقيت أتابع ما ينشره بين الحين والآخر في ملحق “المحرر الثقافي”. ثم بدأت تصلني أصداء الشاعر الوديع الهادئ، ونشاطه النقابي بالنقابة الوطنية للتعليم، وقد أصبح مسؤولا حزبيا في الكتابة الإقليمية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بمدينته الهادئة، قبل ن نلتقي في المؤتمر السابع لاتحاد كتاب المغرب بقاعة عبد الصمد الكنفاوي بمندوبية الشبية والرياضة “لاكازلانكيز”..
وشكرا للفيس بوك الذي رمم ونسج كثيرا من العلاقات، وأعاد صداقات أخرى إلى انسيابها ومجراها الطبيعي، في سنة 2008 أصبحنا بنميمون وأنا صديقين افتراضيين.

في 2013 سيرسل بنميمون إحدى بنتيه، ربما بيسان، لألتقي بها. وكان اللقاء في مقهى “موزارت”، قلت لها في الهاتف لما تصلي إلى المعاريف اسألي أي أحد عن مكتب البريد فالمقهى بمحاذاته، وجاءتني بهدية كريمة من والدها صديقي الشاعر الجميل، نسخ من ديوانه الأخير (تأتي بقبض الجمر) أهداني نسخة وطلب مني أن أوصل أخرى إلى أصدقائه في كازا، مثل الشاعر أحمد صبري والشاعر إدريس الملياني. فوجدتها فرصة لأحدثها عن بعض ذكرياتي مع والدها. قلت لها كان لديه في المعاريف بيانو من حجم كبير، فأخبرتني أنه أخذه معه لما انتقل إلى مدينته الجميلة شفشاون. بعد أن تلقاه هدية من صاحبة البيت الفرنسية أو الاسبانية. ولما زرت مدينة “سيدي علي بن راشد” (2014) كانت فرصة رائعة جالست فيها صاحب “نار تحت الجلد” بساحة “وطا حمام”، رفقة الشاعر الكبير والإنسان الرائع الصديق عبد الكريم الطبال، والتشكيلي والموسيقي المقيم بهولندا الصديق نجيب الشرادي، الذي يملك بيتا بشفشاون، وقد علمت منه أنه سبق له أن عمل في شبابه بمطبعة دار النشر المغربية، التي كانت في ملكية الاتحاديين قبل أن يتم بيعها في السنوات الأخيرة.

لا يجب أن أنسى الصديق الشاعر محمد الشيخي المبدع الحيي والخجول. كان وسيما ذا بنية قوية وطويل القامة. قليل الكلام، لكنه دائم الابتسامة، وقد تشرفت بتصميم غلاف لديوانه “فاتحة الشمس” عن منشورات “فضاءات مستقبلية” التي يديرها ويشرف عليها صديقنا الناقد والباحث في اللسانيات د. محمد البكري.

وأتذكر الصديق علي الأجديري الذي غاب من مدة طويلة عن نشر إبداعه في القصة القصيرة. لم أعد ألتقي به وأصادفه في أزقة الحي. كان متزوجا من امرأة انجليزية. كانت المسكينة لا تطيق أن يتركها زوجها في البيت ليسهر خارجه، وغالبا ما كان علي يسهر معنا رفقة زفزاف في فضاءاتنا المعمدة. وليبرر لها تأخره وغيابه كان يخبر الانجليزية أنه على موعد مع عمر بنجلون مدير جريدة “المحرر”. الذي كان استشهد قبل ذلك بسنوات.
سألت الأجديري ألم تجد غير رجل مغدور لتوظف موته في كذبتك الزوجية؟ رد علي وهو يضحك:
– لم يخطر ببالي أي اسم، وقد ذكرت اسم الشهيد لما رأيت أمامي نسخة من صحيفة “المحرر” وتظهر بترويستها صورة لعمر شهيدا لصحيفة “المحرر”.

لما وصلتنا أغنية Coat With Many Colors للمطربة دولي بارتن. كان علي الأجديري هو من ترجم لي كلماتها الانجليزية، فأحببت الأغنية بعدما كنت معجبا بلحنها الموسيقي.
تقول كلمات الأغنية الجميلة:
“في أعوام طفولتي تذكرت صندوق الأقمشة البالية الذي قدمه لنا رجل ما، وكيف قررت أمي ان تستخدم تلك القطع البالية. في حينه لم أكن املك معطفا، فقامت والدتي بخياطة هذه القطع الصغيرة المختلفة الألوان مع بعضها لتصنع لي منها معطفا، فكان معطفا من ألوان مختلفة.
وبينما كانت امي تخيط لي المعطف، كانت تتحدثت لي عن قصة قرأتها لمعطف من ألوان مختلفة في الكتاب المقدس. يقول فيها يعقوب، المعطف بالألوان المختلفة قد يجلب لك الحظ والسعادة.
على الرغم من كوننا لا نملك المال الا اني ارتديته بكل فخر، وشعرت انني غنية بهذا المعطف المتعدد الألوان.
أسرعت به الى المدرسة، لكني فوجئت بزملائي يضحكون من المعطف.
لم افهم لماذا. فأخذت أتحدث لهم كيف أمي خاطت كل قطعة صغيرة مع بعضها. وتحدثت لهم عن كل القصة التي تحدثت بها أمي وهي تخيط هذه القطع مع بعضها، وكيف أن معطفي ذا الألوان المختلفة أفضل من كل ملابسهم.
لكنهم لم يفهموني وأنا أحاول إقناعهم.. إن الواحد لا يكون فقيرا إلا عندما يختار هو أن يكون كذلك.
الآن علمت أننا لم نكن نملك المال، لكنني كنت غنية بالقدر الذي أستطيع، بذلك المعطف الذي صنعته لي أمي من ألوان مختلفة.
أمي صنعته لي، صنعته لي فقط”.

لا يتوفر وصف للصورة.
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏لقطة قريبة‏‏‏
  • أحمد بنميمون شكراً لذاكرتك القوية أيها الصديق العزيز، المبدع المتعدد: عبد الرحيم التوراني، لكن اسمح لي أن أصحح شيئاً بسيطاً في مقالتك هذه المحببة ، يتعلق باسم ابنتي التي حملت إليك نسخاً من بعض دواوييني، فلقد كانت ابنتي يُمنى التي انهت دراستها في الجامعة الأمريكية بنيويورك التي تعلق بها عقلها لوجود كرسي إدوارد سعيد بها.
    مع مودتي الثابتة
  • Hamid El Hail

    My coat of many colors و الزمن الجميل
    تحية لعبد الرحيم و الذاكرة الجميلة و الحية و المنعشة