كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..

في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..

من السؤال – 131 – إلى السؤال 140..

 

  1. ما الدّور الَّذي قمتَ به مع الأهل بعد الوصول إلى مرحلة التَّقدُّم لخطوبة شموني لأخيك نعيم؟

شغفٌ كبير كان وما زال يراودني في تعاون الأخ مع أخيه، مع جاره، مع حيّه، مع مدينته، مع بلده ومع الحياة برمّتها، ومنذ أن شببتُ عن الطّوق، أرى أنَّ بناء أي مجتمع ينبع من بناء الذَّاتِ أولاً بناءً صافياً، ثمَّ بناء مَنْ نعلّمه ونعمل معه سواء في مجال التّعليم أو في الأسرة أو خارج الأسرة أو في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة، وهذه الرُّؤية أشبه ما تكون رؤية طوباويّة حلميّة خالصة، وحقيقة الأمر أنَّ هناك طغياناً شبه كامل على وجدانيّاتي في هذا السِّياق، حيث أراني طوباويّاً حلميّاً خياليّاً؛ لما لهذه العوالم من متعةٍ سواء عندما نطبِّقها على أرض الواقع، أو عندما نكتبها ونعالجها إبداعيّاً، أو نعيشها عبر منعرجات الحياة الَّتي نمرُّ فيها، ومن هذا المنطلق الواضح في شخصيّتي، وكما أنا واضح لنفسي وضوح الشَّمس، وجدتني مجنّحاً نحو تقديم أبهى ما لديّ لغيري؛ وهذا الغير يبدأ من أخي، ويتعانق مع جاري وابن حيِّي ومدينتي، ويصبُّ في الإنسان كائناً من كان، ونظراً لطغيان الرُّؤية الحلميّة الطُّوباويّة في آفاقي؛ جعلتني هذه الرُّؤية أن أظلَّ طوباويّاً حلميَّاً خياليّاً فيما يخصُّ عالمي الشَّخصي الأرضي المباشر المعاش، فغالباً ما تكون آفاقي العطائيّة تصبُّ في الآخر، سواء كان هذا الآخر أخي أو غيره، وهي رؤية إنسانيّة إلى حدٍّ بعيد، ولكنّها رؤية انشطاريّة في بعض الأحيان أو الكثير من الأحيان، فقد شطرتني نحو فضاءات الحلم والطُّوباويّة اللَّذيذة، وظلَلتُ منشطراً نحو هذا العالم إلى أن انفصلت تقريباً عن واقع الحياة كحياة، وهذه الرُّؤية المنبثقة في سياق الرَّد على هذا السُّؤال هي قفزة غير مبرّرة في سردها هنا والآن، لكنَّ الإشارة إليها ضروريّة؛ لأنَّ فيها ومنها الكثير من محاور الأسئلة الَّتي سأرتكز عليها للانطلاق إلى فضاءات مهمَّة في سياق حواري مع الذَّات، هذه الذَّات الغائصة في متاهات الطُّوباويَّات اللَّذيذة وتجلِّيات بوح الحلم، ولم أجنِ منها سوى طاقات حلميّة إبداعيّة، لكنّها هشّمتني، وأبعدتني عن وقائع رحيقِ الحياة؛ لهذا قرّرتُ أن أحاور ذاتي بذاتي ألفَ سؤالٍ وسؤالاً، وكما قلت في استهلال مقدِّمتي: أنّه يستحيل أن يفهمني شخصٌ آخر على وجه الدُّنيا، ويحاورني مثلما أفهم ذاتي فيما يخصُّ أعماقي الدَّفينة؛ لأنّه كيف سيصل إلى أغوار الذَّات إلّا صاحب الذَّات بعينها، وواضح جدّاً أنّني خرجت كلّياً عن سياق الرّد عن هذا السُّؤال، لكنّي أحببت أن أشير إلى بعض من يظُّنون أنَّني أوغلتُ كثيراً في عرض السِّيرة الذَّاتية، في سياق حواري مع الذّات، معتقدين أنَّ تساؤلات كهذه لا تصبُّ بعمق في فضاءات الأدب والإبداع، وأجيب كلّ مَنْ يراوده تساؤل كهذا، أنَّ حواري مع ذاتي هو لوضع هذه الذَّات على المحك، وفي الوقتِ نفسه أودُّ أن أقول عبر هذه الرُّؤية للقارئ والقارئة: لِمَ لا تضعوا ونضع أنفسنا نحن البشر على محارق المحكّ؛ كي نصفِّي شوائبنا العالقة في مرافئ ذواتنا، ونقول ما يجب قوله؛ كي نستفيد ممَّا لا ضرورة لما قلناه يوماً أو نقوله يوماً أو سنقوله، ونسحب هذه الرُّؤية على القرّاء في كلِّ زمان ومكان، كي يستفيد الآخر من هذه الرُّؤية الحواريّة مع الذَّات ذواتنا؟!

.. وهكذا رغبةً منّي في التَّعاون والتَّضامن مع أخي؛ انطلقت نحو تقديم أجمل وأبهى ما لدي، ثمَّ بدأتُ أشرح الموضوع لأمِّي وأبي وإخوتي وأخواتي فيما يخصُّ ترتيبات ما وصلنا إليه أنا وأخي نعيم؛ كي نحضّر أنفسنا بتشكيل وفد للِّقاء مع بيت العم بهنان لخطوبة ابنته شموني لأخي، وعرضتُ الفكرة برفقة نعيم مع الأهل واحداً واحداً، ووجدوا أنَّ رؤيتي سديدة وسليمة، وباركوا خطواتي من أوَّلِها إلى آخرِها، وخبّرتُ عمّي وأولاد عمِّي وبيت خالي والأهل ورتَّبتُ الأمور لتشكيل وفد رسمي؛ كوجاهة للتقدُّم إلى خطوبة شموني من أهلها خلال الأيام القريبة القادمة.

  1. ممَّن تشكّل وفد الوجاهة الّذي تقدّم لشموني بعد أن وضعتَ النِّقاط على الحروف من الطَّرفين؟

بعد الموافقة على تحديد موعد الخطوبة قريباً، خطّطتُ مع أخي نعيم بتحديد الوفد الَّذي سيلتقي مع بيت العم بهنان، فتألَّف من عمِّي يوسف شلو أبو أفرام؛ وقد ناب عن والدي أيضاً، وأخي سليمان، وأنا ونعيم! وقد اعتذرتْ أمّي وزوجة عمِّي وأختي كريمة ونعيمة عن الحضور وغيرهنَّ من النِّساء، لأنّهنَّ اكتفينَ أن يكون الوفد ممثلاً عن الأسرةبهؤلاء الرّجال، وخبّرتُ أبا سمعان أنَّنا ننوي زيارتهم؛ كي نطلب كريمتكم بشكل رسمي، فحدَّدَ لي مساء يوم الأحد القادم؛ كي تتبارك الخطوبة، وأذكر جيّداً كيف ناقشني عمِّي يوسف وهو يبتسمُ في موضوع الخطوبة والزَّواج قائلاً: يا بني، أراك متحمِّساً في خطوبة أخيك نعيم، وتعرف معزَّتكم جميعاً عندي واحدة، وتعرف أنت بالذَّات كم لديك عندي من معزّة مميَّزة؛ لما عندكَ من رغبة في التَّعاون مع إخوتك وأهلك وأغلب وقتكَ تقضيه عندنا مع أولاد عمّك، إلى درجة أنَّ هناك الكثير من الأصدقاء والمعارف يظنُّون أنّكَ ابني، فأقول لهم: صبري بمقام ابني، لكنّه ابن أخي صامو، فقلت له ما هو السّؤال يا عمّي؟ سؤالي يا بني: لماذا لا تقوم بهذا العمل والجهد والموقف لنفسكَ أنتَ، لماذا قمتَ بكلِّ هذه المهام بحسب ما شرحتها لي ابتداءً من لقاء أبي سمعان بنعيم وبك ومروراً بكلِّ المستجدّات الَّتي شرحتها، بما فيها موضوع فسخ الخطوبة، ومحاولتك إقناع أخيك بموضوع الفسخ، ووضع مقارنات بين هذه الخطيبة والأولى، وإلى ما هنالك؟ وبرأيي كان من الأجدى لكَ أن تفكّر بكلِّ هذه الأمور لك، نعم لكَ، أي تبحث لك أنتَ عن صديقة من صديقاتك، معلِّمة من المعلّمات، أو أي بنت يهفو إليها قلبك وتخطِّط لخطوبتها، صحيح أنت أصغر من أخيك نعيم بسنتين، لكن وضعك أفضل منه بكثير؛ فأنت على الأقل معلّم وتشتغل في التّعليم ولك راتب ثابت ومضمون، وعندك بيت مع والدك…. وإلخ، صحيح أنّك لم تؤدِّ الخدمة العسكريّة، وهذه ليست مشكلة عويصة، وكلّ ما في الأمر بالنّسبة لأخيك نعيم أنّه أدّى الخدمة العسكرية، طيّب ما هو عمله، ماذا سيعمل، ومتى سيؤمِّن له عملاً ومورداً ثابتاً؟ بعد شهر بعد سنة لا أحد يعلم، لكن أنت وضعك مؤمّن وأفضل منه الآن وغداً، سواء عندك خدمة عسكريّة تنتظرك أو تكون مسرَّحاً من الخدمة!

أشكرك يا عمِّي؛ لاهتمامك بي وتركيزك عليّ وعلى مستقبلي، لكنّي عندما أساعد أخي كأنّي أساعد نفسي، هذه بادرة طيّبة منكَ يا بني، لكنّها فكرة نظريّة؛ لأنّني أتساءل هل سيقوم أخوك نعيم أو سليمان أو حتَّى أولادي بما تقدّمه لهم من مواقف؟ لا أظنُّ أنّ إخوتي أو أولاد عمِّي سيقصّرون بحقِّي يوماً ما لو احتاجَ الأمر. سنرى يا بني، وآمل أن لا تظن أنّني لا أحب إخوتك؛ فأنتم بالنّتيجة أولاد أخي. لكن محبّتي لك مميّزة، لأنّك حنون وذكي ومطيع وهادئ وشخصيّة محترمة، وأستاذ، ويحبُّك الجميع، حتّى أنني مندهش كيف لا تفكِّر بأقصى سرعة أن تجد لنفسك معلِّمة من زميلاتك وتخطبها، وسأكون أوَّل من يخطبها لك ولو احتجت لأيّة مساعدة سأقدِّمها لك مثلما أقدِّمها لأولادي؟ وتأكَّد أنَّني أستميل إليك أكثر من استمالتي لبعض أولادي؛ لأنّكَ لم توجّه لي في حياتك كلمة أحلى من السُّكّر. شكراً عمِّي، أحلى عم وأرجل عم وأقوى عم في ديريك، بطل من أبطال ديريك. أم أفرام، حضِّري الأكل لصبري وشكري؛ لأنَّ أمامهما مشواراً بكلّ تأكيد، حضّرتْ زوجة عمّي طعاماً شهيّاً، تناولناه، ثمَّ خرجنا نتمشّى أنا وشكري في شارع المشوار، وفيما كنّا نتمشّى قال لي شكري: كل ما قاله والدي صحيح ودقيق تماماً، لماذا لا تخطِّط وتفكِّر بنفسكَ قبلَ أن تفكّر بنعيم وبي وبأيِّ مخلوق آخر من الأسرة؟!

كان نسيم ديريك ينعش صدورنا ونحن نسيرُ ذهاباً وإياباً في شارع الكنيسة المزدحم بالشّباب والصّبايا، وتمرُّ الأيام والشُّهور والسُّنون، وتبقى هذه المواقف ساطعةً على مسارات انبعاث حنين الذَّاكرة!

  1. كيف تمَّ إعلان خطوبة شموني على أخيك نعيم؛ استعداداً لترتيبات الزَّفاف والإكليل؟

أعددنا أنفسنا لزيارة بيت أبي سمعان أنا وعمّي ونعيم وأخي سليمان، استقبلنا العم أبو سمعانوأخوه العم يعقوب سارة وأم سمعان، وكان أفرام وميخائيل وشموني في الانتظار أيضاً، جلسنا في الكوجكة؛ أي غرفة المضافة الَّتي كانت تقع في نهاية البيت، قعدنا قعدة عربيّة كما يقال على البساط والدَّواشك والعديد من المخدّات والوسائد، مضافة جميلة في دفئها وبساطتها، رحّب بنا أبو سمعان بحفاوة كبيرة، ثمَّ أعطى الكلمة للعم يعقوب سارة الأخ الكبير في عائلة آل سارة، ورحّب العمّ يعقوب بنا بكلمة طيّبة وكان يمتاز بكلامه الرّائع وقفشاته الفكاهيّه، وهو الشّماس الإنجيلي المخضرم على مدى سنوات عمره، وبعد أن رحّب بنا معتبراً إيّانا كأهله، ويُسِرّه أن يكون بيننا مصاهرة ونصبح نسائب، ثمَّ ترك الكلمة لنا، فأجاب عمّي يوسف باقتضاب، وشكرهم على حسن استقبالهم لنا وعلى حفاوتهم في التَّرحيب والكلام الطّيب الَّذي تقدّموا به، وقال: بالنِّيابة عن أخي صامو وأولاده سليمان ونعيم وصبري، وباسمي واسم الأسرة ككلّ، يشرّفني أن أتقدّم إلى ابنتكم الغالية شموني خطيبةً لنعيم ابن أخي صامو شلو، بعد أن وجدنا فيها أنّها البنت الَّتي تناسب ابننا، ونرى أن ابننا يناسبها، ونحن من طينة واحدة، وكأنّنا أهل، وسنصبح أهلاً من خلال هذه المصاهرة الَّتي نرجو أن تتمَّ بخير، فبكلِّ فخر واعتزاز نتقدَّم نحن وكلّ أولاد أخي وأسرتي إلى طلب يد شموني لنعيم ابن أخي.

أجاب أبو سمعان، أهلاً وسهلاً بكم وبقدومكم إلى بيتنا والبيت بيتكم، والبنت ابنتكم ولكن لا بدَّ أن نسأل شموني بحضور عمّها وأبويها وأخويها وحضوركم: شو رأيك يا بنتي العم يوسف مع أولاد أخيه وباسم آل شلو جاؤوا ويطلبون يدك لنعيم، هل توافقين على نعيم خطيباً لك؟

رفعت شموني رأسها بكلِّ حياء وبصوت خفيض قالت: بابا الكلمة كلمتكم، وفي حال لو وافقتَ أنتَ، ووافقَ عمِّي وإخوتي وأمِّي؛ فأنا موافقة.

من جهتنا يا بنتي، نحن موافقون، فهل أنت موافقة؟ أيوه بابا موافقة. فزغردت أم سمعان وقالت: ألف مباركيا بنتي، وألف مبارك عليكم كنَّتكم خطيبةً لنعيم. ثمَّ أردفتْ تقول: لدينا طلب واحد؛ وهو شراء مقدار عربي، اسوارة صبّ، وزنجير ذهب، مع صليب وخاتم وحلق من نوع تختاره شموني، فوافقنا على طلب أم سمعان برحابة صدر، ثم تدخَّل عمّو يعقوب بفكاهته الرّائعة قائلاً: سمعتُ من بعض النّاس وهم يعرفونكم جيّداً، بأنّكم حتّى الآن تستخدمون البابور، وليس لديكم مسخّن الغاز، فأنا طلبي هو أن تشتروا غازاً للعروس، ضحكتُ بدوري ودخلتُ على الخطّ، عفواً عمّي أبو أفرام، اسمح لي أن أردَّ على عمِّي يعقوب حول طلبه الرَّائع، وهو طلب مستجاب على أيَّة حال، حقيقةً يا عمّو يعقوب، ليس عندنا غازٌ، لكن لدينا بابوران من أفضلِ البوابير، نطهي الطَّعام على البابور الصَّغير، ويقضي لنا حاجتنا منذ سنين، وهو بالنّسبة لنا أفضل من الغاز بكثير، كما لدينا بابور كبير الحجم؛ لتسخين الماء في برميل صغير، ولا تقلق من جهتي لا مانع من شراء غاز؛ لأنَّ الغاز قيمته بحدود (80) ليرة بهذه الحالة سيصبح عندنا غازٌوبابوران! ضحكَ الجميع وقال عمّو يعقوب: الله يعمر بيتكم، ويزيد من بوابيركم، بلكي تتحمّسوا وتقدمولي شي بابور هديّة، فضحكنا من جديد،وكدنا أن ننقلب على ظهورنا من الضّحك، فقلت له: أوعدك وعد شرف عمّو يعقوب راح أجيبلك أحلى وأقوى وأكبر بابور في ديريك، فضحكَ عمو يعقوب من أعماقه وردّ علي قائلاً: الله يعمر بيتك وبيت عمّك وإخواتك، وبيت كل آل شلو. بارك الله فيك عمّو يعقوب وبكلِّ آل سارة وآل بولص حياكي.

فرحنا لإعلان الخطوبة بهذا الجو الفكاهي الجميل، قامَ نعيم وسلّم على خطيبته، وبارك لها ولبَّسها خاتماً، ثمَّ سلّمنا على بعضنا، وباركنا بعضنا بعضاً على الموافقة على الخطوبة، ثمَّ وزّعت الخطيبة السَّكاكر علينا، وبدأنا نتحدّث بكلِّ فرحٍ ومرح، ثمَّ دخل على الخط أبو سمعان يعرض لنا بعضاً من قفشاته وقصصه الفكاهيّة، خرجت شموني مع أمّها إلى المطبخ، ورحنا نستمع إلى أبي سمعان، وخيّم علينا جوٌ حميميٌّ، دخلت شموني مع أمّها، وقالت: يا جماعة العشاء جاهز تفضّلوا خذوا أماكنكم؛ كي نصبَّ العشاء لكم، ونتعشّى معاً بهذه المناسبة السَّعيدة. جلسنا، وخلال دقائق كانت الطّاولة مُعِدّة بأشهى أنواع الطَّعام.

تناولنا العشاء ورفعنا نخب إعلان الخطوبة، وهلهلتْ أم سمعان لهذا الفرح، وتمنَّينا جميعاً أن يبارك الله في هذه الخطوبة، ويسعد الخطيب والخطيبة، كانت سهرة عامرة بالفرح والمرح والتَّفاهم، ودَّعنا أهل البيت بكلِّ ممنونيّة، وخرجنا ونحن في أوجِ سرورنا، ننتظر يوم القران والإكليل والفرح الكبير بفارغ الصَّبر!

  1. لماذا لا يتأنَّى المرء قبل أن يقدمَ على أفعال وحشيّة وكارثيّة ممكن أن تؤدّي إلى هدر الدّماء؟

غالباً ما نرى هكذا أفعال تظهر في البيئات الزِّراعيّة البدويّة الرِّيفيّة القرويّة، خاصّةً لدى بعض الشّبان الَّذين يتبجَّحون بالقّوة والعنجهيّة وحبّ الظّهور؛لأن شبَّاناً بهذه الكيفية شبّان لا يفكّرون بالنَّتائج، ولا يحسبون حساب النَّتائج الوخيمة الَّتي ممكن أن تتفاقم إلى درجة مواجهات وتصارع أُسَر برمّتها بطريقةٍ هوجاء، كأنّ الأطراف المتصارعة في حالةِ حربٍ حقيقيّة؛ لهذا برأيي تفكيركهذاهو تفكير قاصر، ولا يحملُ حكمةً، ولا يحملُ بُعداً حضاريّاً متمديناً، وليس كلّ أهل الرِّيف والمجتمعات الزّراعيّة هم على هذه الشَّاكلة، فهناك نسبة كبيرة من أهل المجتمعات الريفيّة،معروفون بالطِّيبة والتَّعاون والتَّضامن والتَّآخي في العمل وفي الحقل والمزارع والبناء وفي الكثير من الأعمال؛ لهذا فإنَّ هذه القضيّة المنتشرة لدى بعض الشّبَّان في تصعيد المواقف والمواجهاتمقتصرة على نسبة قليلة، ولكن ممكن أن تتفاقم الأمور أكثر بكثير من النّسبة الّتي بدأت في العنف والمواجهات، وتتوسَّع رقعة التَّصارعات حتّى تشمل أحياناً كبار القوم؛ لأنَّ العنف يتصاعد إلى درجة القتل؛ وبالتَّالي يتوالد من العنف عنفٌ مضادٌّ، حتَّى ولو كان العنف المضادّ ناجماً عن حالة أشبه ما تكون بالدِّفاع عن النَّفس، ولهذا أرى من الضُّروري أن تتمَّ تنشئة الأجيال على حسن المعاشرة والرَّويّة والتَّفاهم، وبثّ روح التَّعاون والهدوء فيما بين نفوس الشَّباب، وزرع قيم المحبّة والمسامحة والحكمة في قلوبهم؛ لأنَّ الشّاب الَّذي لا يتشرّب بهذه القيم أحياناً يجرفه عنفوان الشَّباب والمراهقة وحبّ الظُّهور والكثير من العوامل الَّتي تجلعه يقوم بأفعال عدائيّة ووحشيّة غالباً ما يندم عليها؛ لهذا أراني منذ يفاعتي مجنّحاً بشغفٍ كبير نحوَ فضاء الكلمة والقصيدة والمحبّة والسَّلام والمسامحة والهدوء وليالٍ محبوكةٍ بتجلّيات التَّأمُّل، لا أجيد لغة العنف، ولا العنف المضادّ، مع أنَّ شخصيّتي صداميّة، لكن صداميّتها غالباً ما تكون مرتكزة حول قضايا الفكر والرّؤية الخلّاقة والبحث عن الأفضل في قضايا الحياة؛ لهذا أراني مغامراً في الرّد على الطُّروحات الرَّجعيّة والتَّخلّف؛ مناصراً للمرأة والرّجل المظلومَين؛ مناصراً للإنسان كائناً مَنْ كان. أندهش كيف ممكن أن يقف شاب في وجه شاب ويتحدّاه لأمرٍ تافهٍ أو حتّى لأمرٍ مهم، فإنَّ أي أمرٍ على وجه الدُّنيا ممكن أن يعالج عبر الحوار؛ وما حواري مع  الذَّات إلَّا أحد أكبر الفضاءات لحلِّ مشاكل الكون عبره، عبر الحوار وليس بالضُّرورة عبر تساؤلات حواري، بل عبر الحوار كمفهوم كفكرة كدليل؛ إلى أن نصلَ عبره إلى أعمق ما نريده في الحياة!

جلستُ في صومعتي في ديريك العتيقة، أسمع فيروز، وهي تهدهد روحي، فشعرتُ أنَّ روحي تنسابُ مع سكونِ اللَّيل، أنقلُ علامات الطّلاب إلى جلاءاتهم، كنّا قد انتهينا من الفصل الثّاني، غائصاً في نقل علامات الطُّلاب إلى سجلِّ العلامات وإلى الجلاءات، كم كنتُ سريعاً في جمعِ العلامات وفي نقلها على السّجل بخط جيّد وواضح، مراراً شعرتُ أنَّ الكلمة الطّيبة، الكتابة، القصيدة، الفكر الخلَّاق هي طريقنا إلى بناء الأمم كلَّ الأمم، إلى بناءِ مجدِ البشر، إلى بناءِ مجدي وأنا غارق في هذه الزَّاوية المنفيّة من العالم!

ما كنتُ أفكِّر آنذاك أين تقع ستوكهولم من خارطة العالم، الشَّيء الوحيد الَّذي كانَ يعشِّشُ في أعماقي هو شغفي العميق لوهج الحرف، متسائلاً: متى سنعطي للكلمة حقّها، متى سنبني مجتمعاً حضاريَّاً راقياً؟ أسئلة كبيرة كانت تنتابني وأنا في مقتبلِ العمرِ، كبرتُ وكبرَتْ تساؤلاتي وغربتي وآفاق طموحاتي وتطلُّعاتي، لكنِّي ما كنتُ أظنُّ يوماً أن أضعني على المحكِّ أمامَ ألف سؤال وسؤال؛ كي أجيبَ عنها منذ أن رأيتُ النّور حتّى آخر لحظة أتنفَّسها من السُّؤال الأخير. أجل أتساءل بكلِّ أسىً وأنين: لماذا لا يفكِّر المرء بالمحبّة ويتحلّى بالصَّبر قبلَ أن يقدِمَ على أفعالٍ وحشيّةٍ وكارثيّة ممكن أن تؤدّي إلى هدر الدّماء؟ ربّما لأنّه يحتاج إلى مَنْ يزرع في نفسه حبَّ الحياة وحبَّ الذَّات وحبَّ الآخرين؛ كي يكونَ إنساناً مفيداً حكيماً عاقلاً، يقدِّم لنفسِهِ وأهله وجيرانه وأصدقائه وأحبَّائه كلَّ الخير والحبّ والفرح، كي يعيشَ سعيداً وفي حالةِ وئامٍ مع ذاتِهِ ومعَ كلِّ الأحبّة الَّذين يعيشونَ حوله، كي ينامَ نوماً هنيئاً معَ عوالمِ رحلته الفسيحة في الحياة!

  1. بماذا كنتَ تفكِّر في مقتبلِ العمرِ وأنتَ في أوجِ حالاتِ التَّأمُّل؟!

كنتُ غائصاً آنذاك وما أزالُ في طموحاتٍ تزلزلُ عرشَ الجبال، وإذ بهذه الطُّموحات تقذفني في مهبِّ الحياة من بابها المجهول، وتزلزلُ ما في أعماقي من رؤى وآفاق موغلة في شهقات التَّجلّي، أنبشُ منها وميض حرفي، عابراً وعورةَ القدر، كأنّي في حالةِ مواجهة مع تربّصات الغول اللَّعين، الحياةُ شراعٌ مفتوح على أزاهيرِ الدّنيا، لكنّنا نواجه شوكاً يدمي الرّوح وسيوفاً مسمومة لا تخطر على بال، وحده الحلمُ ينتشلني من أدغالِ الاشتعال ومن غدر الزّمان، وحدَها الكلمة الطّيبة قادرةعلى أن تنقذني من قباحات الحياة؛ لهذا أراني فارشاً أجنحتي لنسيمِ اللَّيل؛ كي أستلهمَ من بهائِهِ إشراقةَ حرفٍ رغمَ دكنةِ اللَّيل، شغفي في الإبحار في مروجِ الحرف لا يضاهيه شغفٌ آخر، حرفي هو سفينةُ خلاصي من شفيرِ الانكسار، وهوَ محرابُ أملي في أبهى حالات التَّأمُّل، دائماً كنتُ أراني كلّما نامَ اللَّيل، في حالةِ انغماسٍ معَ هدهداتِ القصائد، أحلِّقْ عالياً؛ كي ألتقطَ من ضفائرِ الرّوحِ أشهى تدفّقات انبلاج الحرف، كنتُ أهمسُ في سرّي وأنا في أوج حالات التَّأمل: نعمةُ النِّعمِ أن نستلهمَ من دواخلنا الشَّفيفة بسمةَ الرّوحِ وهي في أوجِ عناقِها معَ قبِّةِ السَّماء، فجأةَ أراني أمسكُ قلمي، وأرسمُ مخطّطات بوحِ الحلمِ، كانَتْ وما تزال أحلامي تناطحُ غمامَ اللَّيل رغم كلّ ما كانَ يحيقُ بي من شراهاتِ الاشتعال، مهدهداً تلألؤات نجوم اللَّيل على إيقاعِ حبورِ اخضرارِ القلب، يغمرني شوقٌ لا يُضاهى إلى حبرِ القصيدة، وحدَها القصيدة تعانقُ روحي على إيقاعِ تلألؤاتِ النّجوم وهي تخرُّ بكلِّ وميضها فوقَ هلالاتِ حروفِ الحنين، وحدَها الكلمة وهي في أوجِ انبعاثها تخفِّفُ من لظى الاشتعال، وحدَها الكتابة صديقةُ ليلي ونهاري، وحدَه حلمي احتضنَ مراراً تدفُّقات انبعاث الخيال.

أفكِّرُ وأنا في أوجِ التَّأمُّل كم هي جميلةٌ بسمةُ الأطفالِ، كم تشبهُ تلألؤات النُّجوم كركرات ضحكة الأطفال، كم تشبهُ السَّماءُ حنيني العميق إلى أحضانِ أنثى من نداوةِ المطر، أفكِّر بكيفيّة الفكاكِ من غدٍ متشابكٍ معَ هديرِ الزَّمهرير، أفكِّرُ بكلِّ هذه الرّحلة المحفوفة بوعورةٍ منفلتةٍ من جحافلِ النّارِ، أفكّرُ في أوجِ تأمُّلي بمصيرِ دقَّاتِ قلبي الّتي تحصي شهقات أنثاي وهي تهفو إلى مناغاةِ ضياءِ القمر، أفكِّر بحروفٍ منسابةٍ فوقَ ضفائرِ الرّوحِ، شوقاً إلى عناقِ تلالٍ تنضحُ اخضراراً بأشهى تجلّيات بهجةِ الاحتضان.

أفكِّرُ بإشراقة الفجرِ وهي تعانقُ ندى الصّباح؛ كي أنسجَ من بهاءِ الإشراقِ دفءَ تهاطلاتِ حبرٍ منسابٍ من ماءِ الحياةِ، أسمعُ موسيقى حنونة منبعثة من رهافةِ حناجرِ الأطفال، كأنّ موسيقاهم منبعثة من نسائم اللَّيلِ الحنون، تناجي سطوعِ هلالاتِ القمر، أشعرُ بغبطةٍ عميقة، تزدادُ روحي تجلِّياً فأرسمُ فوقَ خدودِ اللَّيلِ أهازيجَ جامحة محبوكة من عناقِ الأرضِ لزرقةِ السَّماءِ، ثمَّ أزهو فرحاً؛ كي أشعلَ شموعَ الحنينِ فوقَ أسوارِ بيتي العتيق، حبري من رحيقِ القرنفل، وحرفي من لونِ الخبز المقمَّر، تشمخُ أمامي اخضرارُ قاماتِ السنّابل، تتناهى إلى أسماعي هدهدات بوح الحبيبة الّتي هامَتْ على وجهِ الدُّنيا، أشعرُ وكأنَّ وهجاً استلهاميّاً يتهاطلُ بكلِّ ابتهالٍ فوقَ مآقي حرفي، فيمتزجُ ألَقي وابتهالات حبورِ العناقِ معَ هديلِ اليمام!

  1. ما رأيكَ بالتَّعاون ومساعدة الآخرين؟

التَّعاون موقف نبيل ومهم ولا بدَّ منّه؛ كي تكتمل دورة الحياة في التَّعامل مع بعضنا بعضاً، لكن يبقى الأمر متعلِّقاً بحسب نوع التَّعاون والمساعدة الّتي يتوخّاها كلّ منَّا للآخر، فلو طُلِبَ منِّي مثلاً تعاوناً ما ومساعدة ما غير قانونيّة، أو تعاوناً ما وأنا غير قادر على تقديمه، فهل أُعَدُّ في هذه الحالة متخاذلاً ولا أحبُّ التَّعاون، أم أنَّ القضيّة فوق طاقتي ولا تتعلّق بماهيّة التَّعاون؟ وهذه المسألة فضفاضة جدّاً ومتشعّبة، وهي خاضعة أيضاً لنوع التَّعاون والمساعدة والقدرة على الاستجابة له ضمن ظروفي وظروف المتعاون معه، وبكلِّ الأحوال هذا الأمر يتعلَّق أيضاً حتَّى ولو كانت كلّ السُّبل والظُّروف تساعد وتسهمفي التّعاون، بمزاج المتعاون ومدى انسجام المتعاون مع المتعاون معه، ولهذا أرى أنَّ موضوع النَّظر إلىتساؤل كهذا هو موضوع حسّاس ودقيق، ولا يمكن أن يرسو المرء على قناعة واحدة؛ حيث يتغيَّرُ مزاج الشَّخص من لحظة لأخرى، وأحياناً نطلب من شخصٍ ما موقفاً يتطلَّب فيه نوعاً من التَّعاون والتَّعاضد والمساعدة، وإذ به بأمس الحاجّة لمن يساعده في مِحَنه وهمومه ومشاكله؛ وبالتّالي نتساءل، هل سيقف الَّذي طلب المساعدة ويقوم بواجبه تجاهه حتَّى ولو كان موقفاً معنويَّاً، أم أنّه سيتوارى عن الأنظار؛ لأنّه لم يحقِّق طلبه وأهدافه منه ويختفي عن ناظريه بلمح البصر، كأنّه في ورطة من أمره ولابدّ أن يتوارى بعيداً؟ وهكذا فإنَّ هذا التَّساؤل ممكن أن يجيب عنه كلَّ شخصٍ بحسب ظروفه وتفهُّمه وقدراته على التّعاون أو اللَّاتعاون وهذا أيضاً يخضع لظروفه النّفسيّة والمزاجيّة، كما يخضع لموضوع التّعاون نفسه؛ لأنّه ممكن أن يكون غير قادر على تنفيذ ما يحتاج إليه الآخر، أو يكون الطَّلب غير قانوني وتتداخل الأمور، وتصبح ربّما مشادّات فيما بين الطَّرفين، خاصَّة لو كان بينهما علاقات وطيدة، ولهذا أرى ضرورة أن نفرش كلَّ المواقف على مصراعيها، وندقِّق في كافَّة العوامل الَّتي تقودنا إلى التّعاون بحسب ما تقتضيه الأمور أو الإحجام عنه!

تساءلتُ نفسي هذا التَّساؤل؛ تمهيداً للسؤالي الَّذي يليه؛ والَّذي ينجم عنه سلسلة من التَّساؤلات قد تكون مرتبطة مع بعضها بعضاً بطريقةٍ أو بأخرى؛ وقد نجمَ عنها جملة من العوامل الَّتي لعبت دوراً كبيراً في تفاقم المواقف بشكلٍ دراماتيكي، وأدّت إلى نتائج لا تُحمَد عقباها، وما كانت تخطر على بال الجنّ الأزرق! ولهذا قلتُ في إجاباتٍ سابقة: من الضُّروري جدَّاً أن يتحلَّى المرء بالتَّروِّي، وعدم التَّسرّع حول موضوع العنف والعنف المضاد، سواء كان بين شخصين أو أكثر، أو بين أُسرةوأخرى، أو بين حيٍّ وآخر، وبين مدينة وأخرى، إلى ما لا نهاية من التَّصارعات العنفيّة الَّتي لا ضرورة لها، طالما لدينا فكرٌ وعقلٌ وحكمةٌ، حيثُ نستطيع من خلال العقل والفكر الخلّاق والحكمة أن نحلَّ كلَّ مشاكلنا وصراعاتنا مع بعضنا كبشر؛كي نبرهن لأنفسنا أولاً أنّنا بشر ومن فصيلة طينيّة راقية، وإلَّا سيرتكب المرء حماقات لا يتحكّم بنتائجها الوخيمة، وسيندم في وقتٍ لا يفيده النّدم! .. إنَّ حواري مع الذَّات هو حوارٌ مع الآخر بصيغةٍ أو بأخرى وفي الوقت نفسه هو مماحكة حواريّة عميقة مع الذَّات، والهدف من هذه المماحكة الحواريّة هو أن أقدِّمَ رؤيةً وئاميَّةً إنسانيّة عميقة للآخر من خلال تجاربي وآفاق رؤاي المتنوّعة في الحياة!

  1. مَن طلبَ منكَ أن تساعد أحد الطلّاب في مادّة التَّربية الدِّينيّة، ومواد أخرى صيف (1977)؟

طلبَ منِّي صديق عزيز عليَّ مساعدة أحد الطَّلَّاب في مادّة التَّربية الدِّينيّة في نهاية الفصل الثَّاني من عام (1977)؛ ونظراً لأنَّ هذا الصَّديق كان صديقاً غالياً وأعرفه معرفة عميقة من خلال زمالتنا وصداقتنا عبر المرحلة الإعداديّة والثّانويّة؛ فوعدته خيراً فيما إذا كان بالإمكان، وتصوّرتُ بحسب طلبه أنّني مدرّس المادّة الّتي رسب فيها الطَّالب، حيث جرت العادة آنذاك أن يدرِّس مادّة التَّربية الدِّينيّة المسيحيّة الموجّهون وبقيّة الإداريّين: كأمناء السّر والمكتبة، وما شابه، وبعد مراجعة اسمه؛ لعلَّ وعسى أكون قادراً على مساعدته بحسب ما هو ممكن؛ تلبيةً لطلب صديقي، خاصةً أنَّ مادّة التَّربية الدِّينيّة أصلاً ما كانت من المواد المهمَّة، فأحببتُ أن أعيد النّظر في جمع العلامات أو إعادة تصحيحها، والوقوف معه ما أمكن، وإذ بي أجد أنّه من عداد الشُّعب العائدة لزميلي الموجّه؛ ولهذا لم أتمكّن من مساعدته نهائيَّاً؛ لأنَّ ورقة الامتحان كانت بحوزة الموجّه الزّميل وليست بحوزتي، ولا عائدة إليّ نهائيّاً، وقد عرضتُ على بعض المدرِّسين أن يتساهلوا مع الطَّالب إلى حدٍّ ما، بحيث يقدّموا له نوعاً من المساعدة، أو إعادة جمع العلامات؛ لعلَّ وعسى هناك خطأ ما بالجمع، ولكن أغلب المدرِّسين كانوا قد انتهوا من تصحيح المواد، وثبّتوا العلامات وسلّموها إلى المدير ووقّع عليها، ثمَّ سيزوِّدها إلى الموجّهين؛ كي ينقلوا بدورهم العلامات إلى جلاءات الطُّلَّاب، وأجابوا فيما يتعلّق بجمع العلامات: يحقُّ لكلِّ طالب لو شكَّ بعلاماته أن يراجع إدارة المدرسة، وهكذا نقلت الصُّورة لصديقي بعد أيَّام قائلاً: يا صديقي العزيز، هذا الطّالب ليس من عِداد طلَّابي في مادّة التَّربية الدِّينيّة، وزميلي الموجه الآخر هو أستاذ المادّة، ولا يستطيع أن يساعده بدرجة واحدة؛ لأنّه صحّح الأوراق وسلّمها للإدارة، وتمَّ نقل العلامات إلى سجل درجات الطُّلَّاب ووقّع عليها المدير؛ ولهذا يستحيل التَّلاعب بدرجة واحدة، إلَّا إذا كان هناك خطأ ما في الجمع، وقد راجعنا الورقة مع مدرّس المادّة للتأكُّد من جمع العلامات؛ وبعد المراجعة تبيّن أنّه حصل على درجته المستحقّة، ومع كلّ هذا أعتذر؛ لأنّني لم أتمكَّن من مساعدة الطَّالب بحسب الوضع الَّذي شرحته لك بكلِّ أمانة، وشكرني صديقي بدوره، وحسبتُالموضوع انتهى من جانبي وليس لي أيّة علاقة به، علماً أنّني حاولت جهدي بما هو مُتاح لمساعدة الطّالب، لكن الأمور كانت منتهية وخارجة عن نطاق المساعدة، إلَّا عبر التَّلاعب والتَّزوير، وهذا ما لم أقُمْ به يوماً طوال اشتغالي بالتَّوجيه والتَّدريس، وطوال بيعي سلال العنب وأنا في العاشرة من العمر!

  1. ما الغاية من نشر هذه المحاور الحساسة في مشاجرة عنيفة وقعت معك منذ (40) عاماً؟!

بادئٍ ذي بدء أرجو من كافّة القرّاء والقارئات، الأصدقاء والصّديقات والمتابعين والمتابعات عدم التَّطرُّق كلّياً عبر تعقيباتهم وردود فعلهم إلى الجهة الّتي تعرّضَتْ إلى ابن عمِّي ولاحقاً لي ولأخي، وعدم شخْصَنْة المواقف، بل الوقوف عند تساؤلاتي وردودي كنصوص سرديّة وحواريّة، وكبحث عميق في أدب الحوار؛ لأنّ حوار مع الذَّات، ألف سؤال وسؤال، هو حوار أدبي فكري سِيْروي إبداعي خالص، خاصّة في مقاطع الإجابات القادمة الّتي سأنشرها تباعاً فيما يخص المواجهات الّتي تمَّت ونتائجها الكارثيّة، لكن حكمتي وحكمة أصحاب الخير -آنذاك- حالت دون تصاعد المواقف، وتمَّ حلّ المشكلة من جذورها، وتعمّدْت عدم ذكر الأسماء من الجانب الآخر؛ احتراماً لمشاعرهم ومشاعر الكثير من الأحبّة الأهل والقرّاء والقارئات! لأنَّ هدفي ليس ذكر الأسماء في هذا الجزء من الحوار، بل أن نأخذ عبرةً ممّا حصل؛ ولهذا فإنَّ الهدف من عرض ما حصل في سياق تساؤلات وإجابات ليس من باب عرضها كأحداث، بل  من باب عرضها كعبرةٍ وتجربةٍ وأدبٍ وحالاتٍ إبداعيّة في أدب الحوار مع أعماقِ الذّات، فقد سبق وأغلقت هذا الموضوع وتمَّت المصالحة منذ قرابة أربعين عاماً؛ لهذا تفادياً لأيّة حساسيّة من أيِّ طرفٍ آمل من كافّة المتابعين والمتابعات، عدم التَّطرّق نهائيّاً إلى موضوع الحقِّ على فلان وفلان أو التَّهجُّم على فلان وفلان، وربّما هناك من يراوده أن يتهجَّم على الطّرف الآخر، والَّذين أصلاً هم أصدقائي وبمثابة أهلي وخلّاني؛ لهذا فكّرت طويلاً قبل أن أدرج محاور هذا الحوار الخاص لحساسيّته المفرطة، ولكن إنصافاً للتاريخ ولهذه الذّاكرة المحبوكة بالحنين، حتّى ولو كانت مجبولة بالأسى والأنين، أحببتُ الوقوف عند مفاصلها العميقة؛ لكي تكون عبرةً لنا وللأجيال القادمة، حيثُ غصتُ عميقاً في ذاتي؛ كي أواجهها بأسئلة حارقة من العيار الثَّقيل؛ كي أتطهَّر كلِّيّاً من كلِّ الشّوائب العالقة في الكثير من محطّات الحياة، وأنّني وجدتُ بعد دراسة الأسئلة الَّتي صغتها في هذا الملف الشَّائك، أنّها مادّة غنيّة ومهمّة للغاية لإدراجها في حوار مع الذَّات؛ لما لها من علاقة مباشرة وعميقة مع الذّات، وقد كانت مدرجةً في برنامجي مادةً لعملٍ روائي، لكنّي وجدتها مادَّة غير مناسبة لعمل روائي؛ لحساسيّتها، مع أنّني كنتُ أميل جدّاً لكتابتها عملاً روائيّاً؛ لما فيها من تشابكات عميقة في عمليات السّرد الرِّوائي؛ ولهذا أحببتُ الآن أن أصيغ من معالمها بعض الأسئلة الّتي تغطِّي الجزء الأكبر من الأحداث الّتي وقعت منذ أربعةعقود من الزّمن، وأعرضها هنا من باب مواجهة الذَّات ذاتي، وليس من باب نبش الماضي؛ فأنا كما يعلم الجميع أنّني كنتُ وما أزال رجل سلام ومحبّة ومصالحات، وعلى يدي وبقرارٍ منّي تمّت المصالحات كلّها، وبالاتِّفاق والتّنسيق مع أهلي طبعاً، كما سأعرض كيفية سير المصالحة الّتي تمّت في سياق الحوار القادم عبر الكثير من التَّساؤلات!

أشكر هؤلاء الشَّباب الَّذين تعرّضوا لي يوماً، وتعرّضوا لأولاد عمّي وأخي، ولولاهم؛ لما ولدَتْ هذه الأجزاء من الحوار والَّذي أرى بين طيّاتهعبرةً عميقة لأقدّمها للأحبّة القرّاء والقارئات في كلِّ مكان!

  1. لماذا وقعت مواجهات بين بعض الشّبان وابن عمّك وديع يوسف شلو وكان برفقته يعقوب متّو؟

في بداية صيف (1977) كنّا نتمشَّى في شارع المشوار، الممتدّ من زاوية البلديّة ولحدو نعمان حتّى كنيسة السّريان وكنيسة الكلدان، كم لشارع المشوار ذكريات طيّبة في حياتنا وخيالنا، ومع كلّ ذلك البهاء، أتساءل بكلِّ أسى كيف كان لبعض شباب أيام زمان أدنى رغبة للمشاجرات مع أصدقائهم ومعارفهم، ونحن نتمشّى بكلِّ فرح في شارع المشوار وفي يوم الأحد والَّذي يعتبر يوماً مقدّساً؟ تتراءى أمامي مواقف أنينيّة، كنتُ في حينها برفقة الأصدقاء بالقرب من أستوديورازاي، وإذ بأحد الأصدقاء يقول بلهجة استنجاديّة عاجلة: يا أستاذ الحق وديع ابن عمّك؛ علقانين معه مجموعة شباب عند زاوية الكنيسة، استأذنت من الأصدقاء، وسرتُ مسرعاً؛ لعلّ وعسى أفضُّ المشكلة قبل أن تتفاقم، فوجدتُ هناك عشرات الشّبان، صرختُ ودييييع! فرفع يده مباشرةً، لا تقلق أبو نزيه ما في شيء، ملاسنة حادّة ومواجهة خفيفة انتهت على خير، مرحباً شو صار؟ صدّق فلان وفلان وفلان .. حاولوا يتعنتروا علينا، كنتُ أنا ويعقوب متّو فقط، لكنّنا تصدَّينا لهم وتدخّل بعض الشَّباب وفضّوا المشكلة. وما هي المشكلة؟ أجابني: لا أعرف أي شيء عن المشكلة، وليس عندي أيّة مشكلة معهم، فتصوَّرتُ أنّهم تذرَّعوا بأيّة حجّة ربّما جكارةً بي، هكذا خُيّل إليّ، انتهت المشكلة على خير، تابعنا المشوار ثلاثتنا بحذرٍ؛ تحسُّباً لأي تدخُّل طارئ، كانَ الجوُّ بديعاً، الصَّبايا يملأن الشَّارع فرحاً وبهجةً وجمالاً، أندهش جدّاً كيف شاب في أوج شبابه يطاوعه قلبه أن يعكّر مزاج النّاس والصَّبايا الجميلات والشَّباب يتمشّون في الشَّارع وهم في قمّة فرحهم ويتمتَّعون بمشوارهم؟! أتخيّل تلك المشاوير كأنّها أحداث في زمنٍ غابر بعيد أكثر من بُعدِ الواقع، يا إلهي، كم كنّا نتمتّع بمشاويرنا، نسير عشرات المرّات في الشّارع ولا نملُّ، عرّجنا إلى ماميكون مرطَّبات أديب الشَّهيرة، أخذنا قسطاً من الرَّاحة، وطلبنا الضُّونضرمة والهيطليّة والكلاسة، على أنغام بعض الأغاني والهواء العليل ينعش صدورنا، قلت لوديع ابن عمّي ويعقوب متّو؛ وهو ابن خالة وديع: عليكما الحذر أثناء المشوار، وحاولا أن تكونا أكثر من اثنين أو اثنين اثنين قريبين من بعضكما، وحاولا دائماً أن تتحاشا المشاجرة والعنف، انزعج منِّي وديع ومن طرحي واقتراحي، وقال: شو بدّك نعمل إذا كنّا ماشيين بالمشوار وتحرّشوا فينا؟ تعرف لو لم نستطِع الدّفاع عنّ أنفسنا كان راح يضربونا قتلة محترمة، ولهذا لا تطرح علينا طروحاتك في استخدام الهدوء والصَّبر والحكمة، يا بن عمّي نحن كنّا ماشيين في الشّارع وقطعوا علينا الطّريق وهم جاهزون للمشاجرة، يعني شو راح يعمل الحوار والهدوء في موقفٍ كهذا؟ الحل الوحيد هو ردّ الصَّاع صاعين. ولكن يا عزيزي وديع، في هذه الحالة ستقع مواجهات عنيفة وتعرف نحن أسرة شرسة وعنيفة، وخاصّة لو وقعت مشاجرة في شارع المشوار وتدخّل أخي سليمان ونعيم وأخوك أفريم وجميل وشكري وابن خالتك كريم متّو وأنت ويعقوب وكابي ومتّي، صدّقني لو تدخَّلت هذه المجموعة مع مجموعة من الجهة الأخرى، يصعب على دورية شرطة مسلّحة فضّ مشاجرةكهذه، طيّب إذا تحرّشوا بنا مرّة أخرى صدّقني سأضرب ضربة القتيل، أنتَ تعرف ضربة بوكسي تخلع الرّقبة والفكّ على الخالص! يا أخي يا بن عمّي، لا أرى بينكما مشكلة نهائيّاً، هي قضيّة سوء تفاهم، وممكن معالجة الأمر، سألتقي بهم؛ كي نغلق الموضوع. أوعى تلتقي بهم لوحدك؛ سيضربونك ضرباً مبرحاً وينتقموا منك؛ لأنّهم لم يتمكَّنوا منّا، يا أخي، أنا أحاول تخفيف الموقف وأنت تزيد العيار، فأجابني وديع: الحل الوحيد هو وضعهم عند حدّهم؛ وإلّا سيتحرّشون بنا كلّما استفردونا، على كلٍّ أنا مع فكرة المصالحة والتّفاهم، ونحن مع المصالحة والتّفاهم، ولكن لو تعرّضوا لنا مرّة أخرى؛ سيرون بأمِّ عيونهم من هو وديع يوسف شلو؟ تدخّل يعقوب وقال: نحن لن نتعرّض لهم نهائيّاً، وما في مشكلة من جانبنا أبداً، ولكن لو تعرّضوا لنا؛ بصراحة سنردُّ عليهم بطريقةٍ حاسمة، وأخي كريم سمع بالأمر وجنّ جنونه، وقال: سنسير في الشَّارع مجموعات مجموعات، بحيث لا تقل المجوعة عن أربعة أشخاص، هل هذا رأي كريم؟ أيوه هذا رأي كريم، إذاً كريم أيضاً يصعّد الموقف، لا ما يصعّد الموقف بالعكس كريم يهدّئ الموقف؛ لأنَّ برأي كريم عندما يروننا على أهبة الاستعداد مئة بالمئة سينسحبون من المواجهة؛ لأنَّنا نستطيع كل أربع منّا أن نصدَّ العشرات منهم! فتحت يديّ وقلت: بحسب تخطيطاتكم وعنجهيات هؤلاء الشّباب المعركة قادمة لامحال! إذا هم ينوون للمعارك فنحن لها، ردّ وديع وأكّد كلامه يعقوب، وفيما كنّا نتناقش، دخل كريم متّو على الخطّ، وسلّم علينا وقال: صار لي ساعة أبحث عليكم وأنتم تأكلون الضُّونضرة هنا، كان حادّاً للغاية، تحدّث بصوتٍ عالٍ وبغضبٍ كبير، نشكرُ الله ونحمدُه لم يكُنْ أحد من طرف الشَّباب في الماميكون؛ وإلَّا كانت كارثة الكوارث ستقع؛ لأنّ استعداد وديع وكريم ويعقوب للمواجهة كان في أوجه، وعندما حاولتُ تهدئة الوضع، تدخّل كريم وقال: رجاءً يا أستاذ صبري هكذا وضع لا يهدأ إلّا إذا خافوا منّا ووضعنا حدّاً لهم! الله مطوّل روحك يا روح، قلتُ وأنا في أوج انفعالي: طوّلوا بالكم يا جماعة، القضيّة بسيطة جدّاً، وبعدين الجماعة هم أصدقاؤنا ومن معارفنا؛ فلماذا تصعِّدون الموقف، نحن لا نصعِّد الموقف، قال وديع لكنَّنا سنأخذ احتياطاتنا وأي تدُّخل منهم وتحرّش؛ سنردُّ عليهم ونضعهم عند حدّهم! طيّب شو رأيكم لو أغلق الموضوع وأتحدَّث معهم؛ لأنّهم أصحابي وأعرف كيف أتفاهم معهم؟ تصرّف كما يحلو لك، ولكن لو تعرّضوا لك تذكّر كلامنا بأنَّ النّقاش معهم لا يفيد!

كنتُ غائصاً في نقل علامات الطُّلاب على الجلاءات، حاولتُ اللّقاء مع الشّباب الَّذين تحرّشوا بوديع ابن عمّي، وهم شباب من جهة الطَّالب الَّذي طلب أحد أصدقائي مساعدته، لكنِّي لم أفلح، وفيما كنتُ أسيرُ نحو المدرسة، التقيتُ به، فقلت: كنت أبحث عنك، فقال: خير، الشّباب تحرشوا بابن عمي وابن خالته منذ أيّام، قلت لك بالنِّسبة لموضوع الطَّالب ليس لي أيّة علاقة في رسوبه، وحاولت مساعدته كما تعلم، لكن الأمور خرجت عن نطاق المساعدة؛ لأنَّ المحصّلات؛ أي النّتائج النّهائيّة موقّعة من الإدارة والمدرِّسين، فلماذا يصعِّدون الموقف وكأنِّي ضدّهم؟ بالعكس يا أستاذ أنتَ لستَ ضدهم وخبّرتهم حرفيَّاً بكلِّ ما حصل معك، وليس لهم أي موقف منك، فلماذا إذاً تعرضوا لابن عمّي؟ يا صديقي، هذه المرّة انتهت على خير ومرّة أخرى ربّما تقع كوارث، وأنت تعرف أولاد عمّي شرسين للغاية، وكذلك أخي سليمان عنيف جدّاً، وأولاد خالة أولاد عمّي تعرف أنت هم على أتمِّ الاستعداد للمواجهات، فرجاءً خبِّر الشَّباب وبلّغهم تحياتي، وقُل لهم: نحن أصحاب ومعارف وأصدقاء، والموضوع غير محرز لتصعيد الموقف إلى حدِّ المواجهة؛ لأنّني قلق جدّاً من استعدادات إخوتي وأولاد عمي وأولاد خالتهم، لا تقلق يا أستاذ سأغلق معهم هذا الموضوع نهائيَّاً! أرجو أن ينتهي الموضوع على خير، يا رجل نحن أصدقاء، ولا يهمّك يا أستاذ، سأبلّغهم رغبتكَ وتحيَّاتك! لا أعلم لماذا راودني القلق؟ شعرتُ أنّ الأيام القادمة تنبئ بما لا أرجوه، هواجس كثيرة راودتني، بدا لي طرح وديع وأولاد خالته بحسب المستجّدات أكثر منطقيَّاً من طرحي، لكنَّ شخصيّتي المجنّحة نحو الصّلح، جعلتني مصرّاً على إغلاق الموضوع مع أنَّه مغلق من جانب أهلي لو لم يتعرَّضْ لهم هؤلاء الشُّبّان!

  1. بماذا كنتَ تفكّر بعد المناوشات الَّتي نشبت مع ابن عمّك وديع ويعقوب؟

ما كنتُ أنامُ مرتاحاً، انتابتني حالة قلق غير مسبوقة، ليس من باب الخوف من الشَّباب الَّذين تعرّضوا لابن عمّي وديع وابن خالته؛ بل كنتُ قلقاً من تفاقم المواقف وتصاعدها ومواجهة عشيرتين شرستَين، وتربطنا مع بعضنا بعضاً الكثير من الصَّداقات وتداخل في المصاهرات، إضافة إلى أنَّ شخصيّتي وئاميّة يقلقها جدّاً قضايا العنف والمواجهات، خاصّة أنّها على مسائل قشوريّة سخيفة للغاية، وقد قرأتُ النّتائج فيما لو حصل اشتباكٌ ما؛ فلا بدَّ من وقوع ضحايا بلا أدنى شك، لهذا شعرتُ بقلق كبير على الأسرتين؛ لأنَّ أسرتناكعشيرة كبيرة وأسرتهمكعشيرة كبيرة أيضاً، فما كنتُ أتخيَّل نفسي أن أكون طرفاً بشكل مباشر أو غير مباشر لتصارع أسرتينينتميان إلى عشيرتَين كبيرتَين، وفيهما ما فيهما من الشّبان الّذين لهم هواية في العنف والتّحدّي واستعراض العضلات، ولا بأس أن يستعرض المرء عضلاته؛ لكن شريطة أن يكون الاستعراض يستحقُّ العرض في إبرازه وظهوره، فليس من المعقول أن أرى تصاعداً خطيراً يتمُّ بين أسرتي وأسرةأخرى وأظلُّ صامتاً ولا يكون لي دور في حلِّ أو إخماد نار الصّراع والمصادمات.

ناقشتُ الموضوع مع العم بهنان فكان مناصراً لفكرتي، منحازاً إلى لغة المصالحة والتَّفاهم والحكمة وعدم تصعيد المواقف، وطلبتُ منه التَّدخّل كوننا نسائب، ومن جهة أخرى كانوا هم أيضاً نسائب مع الأسرةالمتشاحنة معنا، وهكذا صرنا نشعر بضرورة أن نشتغل على إخماد نار الحريق الّتي من الممكن أن تحرق الطَّرفَين من دونِ سببٍ يستحقُّ الذّكر، وهذه الصِّراعات في العمق قائمة على البطر؛ ولهذا على الحكماء من الأسرتَين التَّدخُّل والضَّغط والتَّفاهم معَ أبنائهم؛ كي يتمَّ حلّ المشكلة الّتي لا ترى بالمجهر أي لا يوجد (1) % من خلاف بيننا سوى الحساسيّة الّتي تولّدت من جانبهم، وتعرُّضهم أكثر من مرّة لأولاد عمّي، وهكذا تحوَّلت المشكلة من حالة تحسُّس منّي، متذرِّعينبأنّني كنتُ قادراً على مساعدة الطّالب ولم أساعده، علما أنّني حاولت قصارى جهدي، لكنّي لم أستطِع، ويستحيل أن أقوم بعملية تزوير النّتائج؛ لهذا سرتُ مع القوانين مع ميلي العميق لمساعدته لو ما كانت النَّتائج قد تثبّتت، حيث كان بإمكان المدرِّسين مساعدته بعض الشَّيء؛ كونهم هم الَّذين يقرِّرون علاماته بالشَّفهي والوظائف ومسائل أخرى، ولكن كلّ شيء كان قد انتهى. كم تبدو لي تلك الأيام أنّني كنتُ في مجتمعٍ غريب عنِّي، وبعيد عنّي بُعد الأرضِ عن السَّماء، والمشكلة الأقوى أنَّ شباب أسرتي نحن وبيت عمِّي وبيت خالتهم بالإجماع كانوا شرسين جدّاً، حقيقة الأمر كانوا أكثر عنفاً وشراسة للمواجهات، وهذا ما كان يقلقني أكثر، مع أنّه من جهة كان موقفهم يمنحني الحماية وحماية الأسرة، لكنِّي ما كنتُ أؤمن بحماية بهذه الطّريقة ولا باستخدام هؤلاء الشَّباب منهج القوة والغطرسة والعنف في حلِّ المشاكل، علماً أنّ لا مشكلة سوى سوء تفاهم بسيط لا يعدو عن كونه نكتة سمجة مقارنة بالمشاكل الَّتي تحصل أحياناً بين بعض الأسر، كان والدي يميل إلى المصالحة أيضاً، وكذلك عمّي؛ لأنّهما لم يرَيا أيّة مشكلة؛ كي يعدَّا العدّة للمواجهة، أندهش كيف ترعرعتُ في أوساط أسرويّة وبيئويّة كهذه، وظلَلْتُ أحمل فوق أجنحتي حتّى الآن شغفاً وهدفاً عميقاً بأبجدياتِ السَّلامِ والوئامِ بينَ البشر كلَّ البشر؟!

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.