نجاة العدواني في روايتها الحديثة ـ في عشّ السرطان ..

ميزات لغوية .. وإلى أي مدى؟

عصام الياسري

صدرت في ربيع عام 2020 الطبعة الاولى لرواية الشاعرة والروائية التونسية نجاة العدواني الموسومة “في عش السرطان”، اكتسبت نظرة ثاقبة بين الجمالي الأدبي للنص والعلاقة بين المحتوى والشكل.

عدد صفحاتها الميسورة بـ “واحد وعشرون فصلاً” تجاوز 200 صفحة، وبحجم متوسط يُعرف بكتاب “الجيب”، وبطباعة وحرف أنيق، جمعت بين اللغة العربية الفصحى واللهجة التونسية الدارجة أحياناً.

وعنوان الرواية كما فسره البعض، قد يظلل القاريء على اعتبار انها نبض الكاتبة، لملامسة العنوان بها. لكنها في الواقع معالجة إنطباعية ـ اجتماعية إنسانية. يندر شيوعها، نصاً واسلوباً، ومن ناحية طريقة السرد والاعتناء بالسياقات الرؤيوية وإبتكارها، كذلك ضبط الإيقاع الروائي وإختيار فصول الأحداث بإختلاف الأزمنة والأماكن. تذكرني بقصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش وهو يحاكي في “لاعب النّرد” وجدانه مقابل فلسفة الحياة.

تحوّلَ جسمُها الى نعش بارد تسيرُ به قدمان يائستان باتجاه مقبرة تتسع حولها أزيز وصفير، تحت قدميها الأرض تهتزّ وفوق رأسها طائر الموت يحجبُ سواده سماء كانت قبل الساعة العاشرة زرقاء صافية… كلما تقدّمت خطوة ازداد الإسفلت لزوجة وضاق الشارع… وجوه تطّل من نوافذ سيارات معربدة وأنوف متشككة تمتد نحوها.. تتعثر بحجر وتُرجم ببذاءات وإهانات يقذفها بها رجال أيقظ وجودها هناك على حافة ذلك الطريق شهواتهم الحيوانية التي اخترقت ملابسها لمجرد أنها لم تُكفن شعرها ” … تحب نوصلك… / ص 5 الفصل الاول.

نجاة العدواني، إلى جانب كونها شاعرة وناقدة أدبية، نشر شعرها بأهم الصحف والمجلات العربية ومواقع وإنطولوجيات عالمية، وأقيمت على هامشه العديد من الأطروحات والدراسات. وترجم العديد منه إلى لغات عالمية كالانكليزية والفرنسية والألمانية والهندية والسويدية والاسبانية، فإنها صحفية متميزة ومناضلة ثائرة – كتبت الأغنية، وأدب الطفل، والمقال النقدي و التمثيليات الإذاعية والأوبريت. تعرضت للملاحقة والاضطهاد في تونس. وضعت على اللائحة السوداء في عهد بورقيبة وتركت تونس في عام 1983 لتعيش متجولة في المنفى بين اليمن وقبرص والعراق والمغرب وفرنسا قبل أن تعود إلى تونس في 1997. في أبريل 2013 اضطرت إلى مغادرة بلدها مرة أخرى متجهة إلى ألمانيا. فهي ترى أن ثورة 2011 عرت المجتمع التونسي لتركه الحركات الرجعية تحاول القضاء على الحريات المكتسبة، خاصة المتعلقة بقضايا المرأة. نجاة العدواني ترى في نفسها مضطهدة في سبيل الكفاح من أجل حريتها كإنسان وكامرأة وتقول أن أولى تجاربها مع الديكتاتورية عاشتها وهي طفلة صغيرة داخل عائلتها، وعانت الأمرين داخل مجتمع ذكوري لا مكان فيه للفكر الحر.

إن ما يعنيها فعلاً هو أن لا يطال ذلك الصدأ الذي بدا لها يُهاجم جثتها الجامدة روحا هلعة تفرّ بها من فم تنين حديدي تُجلجل أشواك ذنبه وسط شرايينها قاذفة كرياتها بمخدر أمات إحساسها بها وبما حولها. ما أهمية أن تكون هنا أو هناك طالما أن وقتها يسير في الإتجاه المعاكس للحياة… أليس ظلما أن يُحبس الزّمن بطمّ طميمه بين عقربين ميتين، ألم تكن ظلال جدران منزل جدها العتيق أكثر دقّة في تنظيم حياة أسرة هادئة؟ ما أهمية الوقت في بلاد لا يحترم ساكنوها الوقت؟ ألم تكون مثلهم تميل إلى الفوضى والكسل برغم ظغوطات العمل؟.. ص 10 الرواية وما تحتويه من أحداث وتفاصيل قيمية مفتوحة على مصراعيها، تدفع بالقارئ نحو مقاربات سردية فلسفية من حيث مبدأ التطبيق الهائل في سياق هيمنة أو نقل الوقائع التي تتميّز بها في مجالات متنوعة، بعيداً عن أشكال المفترضات، إنما في أبحاث الذاكرة وعلم الاجتماع والنفس والقانون، على الرغم من جميع الاختلافات الزمنية وحدود توسعها.. في علم المعرفة والأنطولوجيا للروايات بالمعنى الواسع للغاية، يمكن فهم سرد القصص على أنه شكل أساسي من أشكال الوصول إلى العالم، بل إن “الطريقة السردية لخلق العالم” رفع الخيال إلى “الأداة” الأساسية للفكر البشري. ولكن من أجل فهم الوظيفة المعرفية للمحكية ونقلها، ينبغي التمييز بين نمطين أساسيين من التفكير: الأسلوب السردي في التفكير بتتبع القصص وخلق المعقولية و”الصدق”ـ والنمط النموذجي، ويشمل التفكير المنطقي العلمي أو التفسيري – المرتبط “بالحقيقة” بشكل جدلي يتجاوز إنسانياً ومجتمعياً وواقعياً، مجال الأدب وثقافة الروايات خطابياً.

في روايتها “في عش السرطان” أحكمت نجاة العدواني قبضتها على كل هذه االمفاهيم والتفسيرات، بل على كل التأويلات والفرضيات والتجارب والأفعال. وترجمتها، إلى ترتيب متماسك يجمع: بين “الحياة” و”الحدث” ـ “التفكير” و”التمثيل” دون انقطاع. كأنها أرادت أن تلخص وجهة نظرها على أن: لا تُعاش القصص بل تُروى. وليس للحياة بدايات، ولا وسطاء، ولا نهايات ولا فضاءات منفصلة. بناءً على ذلك، ليس من الممكن التحدث عن رواية “في عش السرطان” على أنها قصص غير مفصلية، لأن جوهر هيكلها السردي وصياغتها بشكل يرقى في النهاية إلى تجليات في أنماط يمكن تمييزها بوضوح على أنها نسيجاً مرجعياً للأحداث وللعلاقات الإنسانية.

دفعت سالمة الباب الثقيل فأزّ مخلفاً في روحها وحشة وازدادت دقات قلبها أضطراباً وهي تنزل إلى ذلك القبو المعتم الذي عُلق على مدخله لوح يُعلن أنه مقرّ العلاج النووي عبر درج حلزوني يسحبها من قدميها إلى حيث تتكدس هياكل نساء ورجال وأطفال ترتفع على أنينها إلى أكفان قادمة.. ص 50 الفصل الثاني../ بعد ليلة ثقيلة مليئة بالهواجس والكوابيس غادرت سالمة البيت باكراً باحثة عن دفقة هواء نقي تعيد لها حيويتها ونشاطها وسط حديقة الحي الرياضي بالمنزه حيث تعودت أن تمارس رياضة الركض قبل أن يدهمها المرض.. ص 78 الفصل الخامس…

في لقاء خاص بيننا دام ساعات ناولتني خلاله روياتها، ركن بخط يدها على الصفحة الاولى منها إهداء بسيط في ترتيب عشوائي موجز: إلى الإعلامي القدير والمناضل الثابت على مبادئه الصديق عصام الياسري مع محبتي وإحترامي.. قائلة بصوت منخفض: إنها الرواية العاشرة لي، ولكن الملاحقة والمطاردات التي حلت بيّ بسبب السياسة والتنقل من مكان لآخر فقدت جميع ما أنتجته خلال الأزمنة الغابرة من روايات ودواوين شعرية وتأليفات أغان شعبية ـ سياسية ناقدة صار يرددها الناس أينما حلوا، وتركت أثراً طيباً في الحياة الاجتماعية العامة وبين الأوساط الثقافية والأدبية والسياسية لما تحتويه من مضامين نقدية للاوضاع السياسية والمجتمعية في مراحل مختلفة.. تصفحت الرواية بسبب الفضول، ألقي على المحتوى والشكل الجمالي نظرة سريعة، بصرف النظر عن النص الأدبي والإنشاء الروائي تماماً. لكنني تفاجئت بإحتواء الرواية على أنواع عدة من المعالم الحسية وترك الخيال حراً، دون المخاطرة بالمتطلبات الأدبية بمجرد مناقشة القضايا الأخلاقية وتجاهل النص للمحيط المجتمعي.! إذ أن “السرد لا يهتم بالأدب الجيد أو الرديء” من ناحية إختيار المفردات اللغوية، كما يقول “رولان بارت” في أطروحته حول التحليل البنيوي للروايات.

تمسّك بيّ جيداً ولا تتركني لقد أقتربنا، وعندما يكون السباق بإتجاه نشوة كبرى لا يهمّ من يكون الفرس ومن يكون الفارس، إنهما واحد يركض بإتجاه نبع عذب ليشرب.

يتململ نبيل تحت إليتها:

من أين لك هذا؟

من غير أن تكفّ عن لعقه وملاعبته:

من الحب، ومن غريزتي التي لم أخجل منها يوماً.. هل عليّ أن أمارس العادة السرية مع طيفك وأنت هنا معي كابتة أحاسيسي لكي تتوهم أنني رومانسية خجولة مثل أمي وأمك اللتين عاشتا كجارتين بعقد أمضاء أبويهما أمام عدول وشهود وسط أفراح ودويّ بارود.. ص 130 الفصل الثاني عشر.. / تكشر سالمة عن أسنانها متظاهرة بالابتسام: ماذا قصدت بزمان، هل تراني سهلة المنال الآن؟ وعلياء التي قبلت بك شريكاً لحياتها واطمأنت إليك برغم عيوبك الكثيرة هل وجدت فيك ذلك الصدر الحنون الذي تستند إليه عندما كانت في حاجة إلى ذراعين قويين يأخذانها بعيداً عن المستنقع الذي تصارع تماسيحه بمفردها. يقهقه أحمد: ذراعان كذراعي نبيل، لست أدري لمَ بلاني الله بالقحاب.. ص 142 الفصل الثالث عشر

في تقديري أن نجاة العدواني، انطلاقًا من توليفها السرد الذاتي في تكوين وتحويل الهوية الشخصية لمفاهيم مختلفة لـ “الهوية السردية” المتداولة داخل المجتمع التونسي، دون أن تجردها من المضمون السياسي المباشر والعلاقات المجتمعية والروابط الفكرية. استطاعت أن تربط بين التكامل التكويني للرواية والأحداث المتباينة، بل أطرت أيضاً حدودها. وهي بالنهاية كما أعتقد، وظيفة مهمة ولها أهمية تاريخية خاصة في عمليات تشكيل الهوية الجماعية وتحويلها إلى مساحات تجانس بين الخيال والواقعية.

فمن الشائع أن يتم السرد الروائي خارج الخيالي. لكن السؤال، مع الحيطة عمداً من عدم تناولي أو الإشارة إلى المنصات السياسية التي جاءت في العديد من صفحات الرواية: إلى أي مدى تختلف رواية نجاة العدواني “في عش السرطان” منها عن الروايات الأدبية الخيالية؟. الجواب أكثر صعوبة. لأن السؤال يطرح: ليس إلى أي مدى يتوافق المحتوى مع الواقع، بمعنى آخر ـ ما إذا كان يمكن تحديد هذا الاختلاف باستخدام ميزات لغوية محددة خارج النمط السردي، وإلى أي مدى؟. فاللغة، كما يدعي”هايدن وايت” في كتابه نظرية التاريخ، ليست وسيطا شفافا، ولكنها تبني معنى كل قصة. اذن المسألة تتعلق ما إذا كان محتوى الرواية خيالياً أم حقيقياً بالإشارة إلى توقع القراء بأنهم يتعاملون مع عالم خيالي إفتراضي أم واقعي في الأساس، هنا يكمن سر السؤال، والإجابة لن يحصل عليها المتلقي دون فعل الكاتبة.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.