اضاءآت على قصيدة الحدباء

للشاعر عصمت شاهين دوسكي

* الموقف والمسؤولية حينما يكون الشاعر شاهدا على عصره.

* حدائق البيوت أصبحت مقابر للأجساد

* ما أجهل الظالم إذا اعتقد يوما أنه بقتل البشر سيبقى خالدا.

* قصيدة  الحدباء وثيقة تاريخية هامة عن المجزرة الوحشية.

بقلم الأكاديمية كلستان المرعي – سورية

كالندى تتجلى الروح والإحساس فتشعر بجمال الحياة رغم آلامها وتشعر بالوجود الخلاق رغم ضبابه وترتقي نحو السماء رغم غيومها فالأزمات تخلق أجواء جديدة في محراب الشاعر عصمت شاهين دوسكي فلا يكل ولا يمل من تجديده الروحي والحسي والفكري في عوالم الواقع والخيال المتقد بالحب والحنين والموقف والمسؤولية حينما يكون الشاعر شاهدا على عصره .. قصيدة ” الحدباء ”  لوحة إنسانية بألوانها القاتمة وظلالها الحياتية الواقعية والحدباء هي مدينة الموصل وتسمى نينوى وأم الربيعين التي جرت على أرضها أبشع إرهاب في العصر الحديث ، في أول قراءة لها  تحس انك مع الحدث مع الخوف مع الشقاق شاهدا على الموت مع فراق الأحبة مع الدموع الحزينة للثكالى . كيف تدفن الأجساد في الحدائق ..؟ يا الهي ما هذا الإرهاب والوحشية والويلات , من وحوش لا رحمة بقلوبهم ولا شفقة…؟

وصف الشاعر عصمت دوسكي الحدث حتى أصبح القارئ يشاركه في كل ما يجري على أرض الواقع بكل أنة وزفرة ,أدب إنساني وجداني صادق نابع من معاناة عاشها الشاعر فأشعلت نارا وبركانا في أحشائه وفي كل مسامات جسمه فعبّر عنها بكلمات ودلائل  حزينة صادقة , لقد حزن حتى بكى الحزن عليه . وعندما أسدل الليل واختفى القمر بعباءته الفضية تاركا وراءه الظلام هاجمت قوى الشّر والإرهاب بكل وحشية على المدينة الآمنة وعلى أهلها ودبّ الخوف والشّقاق والذعر في النّفوس فقتلوا بوحشية دون أن يفرقوا بين دين وآخر بين عربي أو كردي أو أي قومية وطائفة أخرى فقتلوا بعشوائية كما تمشي الناقة العمياء وتدوس على كل شي يقع تحت قدمها , بقوائم وأسماء اغتالوا الأطباء والعلماء والإعلاميين والمفكرين والمحاميين والمهندسين والمدرسين والضباط والطيارين وناس أبرياء حتى المساكين والفقراء وكل من لم يؤيدهم مهما كان وكانت النساء تبكي بصمت وحزن وبدموع منهمرة حتى بكى البكاء على البكاء ,و بكى الحزن على الحزن ,من الخوف والفراق ومن هول ما رأت , حتى أصبحت حدائق البيوت مقابر للأجساد من الخوف والإرهاب, فلا مراسيم للدفن ولا قبلة للوداع فالعيون حائرة ذابلة خائفة من البعد والفرقة والوحشة .. , فيقول :

( تجلى الظلام والقمر محاق … وفي النفوس خوف وشقاق

سبق الأسى جهل القادمين … فمات أحمد وآزاد وإسحاق

أي جوى بين الضلوع إن بكت … الثكلى بصمت دمعها احتراق

من الحزن البكاء فوق البكاء … يبكي كل من جزعه الفراق

أجساد في حديقة البيت مدفونة… لا الشمس تؤنسها ولا ظل عناق

كلما مرت العيون عليها حائرة … زاد البعد والوحشة والخناق ) .

هاهي جحافل داعش تقدمت نحو الموصل / الحدباء / ثم تطبق عليها كقطع الليل وأسراب الجراد لتنشر فوق ربوعها الخراب والدمار , وتنزل بأهلها صنوف الويل والخراب مالا يتصوره الخيال ,لقد نهبوا البيوت ,وانتهكوا لأعراض ,وأزهقوا الأرواح وأراقوا الدماء, وتعالت أصوات الثكالى والسبايا في المدينة المنكوبة ,تستجير ولا من مجير , وانعدمت الرحمة والشفقة في قلوب الغزاة الطغاة فلم يبق أحد  ينجو من  جهلهم انتقامهم ،من قلب الحدث ومن رحم المأساة ومن جراح وطن وغربة قاتلة ,يكتب لنا الشاعر عصمت الدوسكي هذه القصيدة وهو غارق في حزن وألم لا مهرب منه , يدعو إلى الشكوى وهو يائس ” من نوال بغيته ,فكبده حرى ودموعه سوابل يزداد اضطراما من هول الحدث ,متألما بما نزل بإخوانه وبأهل حدباء العريقة بتاريخها وعلمائها وأدبائها  فيبكي دما ودموعا , صادقا بما يكتب ويتساءل ,

( مالي أرى الناس مشردين  … لا دفء لا زاد لا ماء رقراق ؟

أبكي إن سمعت أناتهم … رنة أناتهم شدو واختناق

ليل الشتاء برد جوع انتظار … والأمل من ظلمة الليل ضاق

لا ترم الخبز والماء بين الأقدام … يسأل الله راعي الإملاق

ارحم المسكين والفقير والسائل …فالرحمة بالإنسان عهد ووفاق

لا تفرق بين الورى ضمنا وجهارا… فيهم عزيز وكريم ومشتاق

الفرقة خراب ورماد ودمار … والحرب تشريد وتهجير وقلة إشفاق

لا تصرف الأشياء كما تريد … لستَ رب حاكم أو وكيل أرزاق ).

ها هو ير ى الناس مشردين تائهين في العراء والى المجهول لا دفء يقيهم ولا زاد ولا ماء ,فيتحسر الشاعر باكيا لسماع أنينهم المختنق وجوعهم في ليل الشتاء القارص ,ويأسهم وفقدان الأمل في ظلمة الليل … ويتألم الشاعر أكثر وأكثر عندما يرى كيف يرمى الخبز بين الأقدام فيقول : سيسألك الله أيها المسؤول وسيحاسبك فارحم المسكين والفقير ولا تفرق بين الناس , سرا أو علانية, فبينهم العزيز والكريم والمشتاق .لقد فرقتهم الحرب والدمار … والهجرة و التشريد والشتات أشفق عليهم , ولا تتصرف أيها المسؤول كما ترغب , فلست رب حاكم ولا وكيل أرزاق ,

ثم يتأوه الشاعر ويتألم على صبر الحدباء الجميل وعلى غروب شمسها الذي هو آية  من إبداع الخالق .آملا ومتمنيا أن ترجع النوارس طائرة فوق ” الجسر العتيق ” وهو أقدم جسر في الموصل الحدباء في الصباح ترى النوارس مجتمعة ومتفرقة تقتات على ما يرميه الناس من شتات خبز منظر بديع بين الإنسان والطيور وتناغم كوني وجودي نادر ، فيرجو أن ترحل المعانات ليعود الحب و العشق إلى قلوب العاشقين…. فتجيب الحدباء بكبرياء : أين حضارتي وكرامتي وعزتي التي لا اسمح أن تهان بالنفاق والكذب والخداع ..؟ أين جمالي وربيعي ؟؟ أين مقامي الرفيع والقلوب النابضة الخفاقة مع الدموع ؟ أين الحب والمودة أين الرحمة الإنسانية .. ؟ إذا كان الموت منتشرا على الأرض يزهق الأرواح ؟.

ما أجهل الظالم إذا اعتقد وظنّ يوما أنه بقتل البشر سيبقى خالدا .ثم الحدباء تتحدى الإرهاب بكل شجاعة وعنفوان: أنا الحدباء كفتاة عذراء جميلة التي لا يستطيع أحد النيل مني ,فجمالي يوحي إشراقا ونورا وإلهاما .. ووجهي سيبقى مشرقا لم يعفّر ولم يمرّغ بالتراب والبعد أبدا….وسيبقى نجمي لامعا ساطعا مضيئا لا يأفل وستلتقي قلوب الأحبة بالأحضان مشرقة بالقبل والعناق …. وستنكسر القيود وينجلي الظلم والظلام ,وسترحل وتندحر قوى الشر والإرهاب وستشرق ا لأنوار…. ويبقى العراق عراق حرا لغد مزدهر لكل العراقيين بكل طوائفه العريقة .

( آه حدباء كم صبرك راق … حتى غروبك إبداع خلًاق

امنحي نوارس جسر العتيق أملا … حلي العقد فينا عشق وعشاق

أين حضارتي كرامتي عزتي … لا أسمح اليوم تعليل ونفاق ؟

أين مقامي جمالي ربيعي … إن النبض مع الدمع خفاق

أين المودة والرحمة والإنسانية …الردى يجول يزهق الأعماق

ما أفقر الإنسان يحسب بالقتل …خالدا ،ذات يوم تسقط الأوراق

أنا الحدباء العذراء الزهراء … جمالي إيحاء إلهام وإشراق

وجهي لا يلويه الثرى والنوى … ونجم الدجى يهل بلا ميثاق

ستلتقي القلوب مشرقة بعد القيود… بالأحضان والقبل والعناق

سيحمل الغد أزهارا وأنوارا… ويكون العراق أجمل عراق )

فالقصيدة من روائع الأدب الوجداني الإنساني ,بعاطفة صادقة وتوهج في ذات الشاعر نابع من معانات عاشها على أرض الحدث

أهتم الشاعر عصمت شاهين دوسكي بالكلمات الواضحة السهلة والتراكيب الملائمة للقصيدة مثلا:/ الظلام, الخوف , الأسى,,الموت الشقاق , الثكالى , الدموع , الحزن ,البكاء ,الفراق , الوحشة ,الخناق . ورموز ودلالات واضحة مثلا يذكر أسماء (سبق الأسى جهل القادمين … فمات أحمد وآزاد وإسحاق ) فأحمد من المسلمين وآزاد من الكرد وإسحاق من المسيحيين كصورة متجلية بأن الجهل والإرهاب لا يفرق بين أحد ما , والتي تضيف أناقة شفافة للقصيدة فقد جاءت حسنة السبك جيدة الصياغة, تؤدي المعنى المقصود .وللخيال دور ثانوي لكنه خلاق في هذه القصيدة, فكل الصّور من الواقع , ومن قلب الحدث ,

استخدم الشاعر الأسلوب الخبري ,لأن ّ الشاعر في معرض الأخبار عن المدينة المفجوعة بأهلها ,فلم يلجأ إلى الأسلوب الإنشائي. لم يكثر الشاعر من المحسنات والصور البديعية فجاءت محدودة , هناك تشبيه بليغ : حيث شبه الحدباء بفتاة عذراء/ تشبيه صورة بصورة ./.. وطباق:/ ضمنا ,وجهرا /

ما أشبه دما ر الحدباء على أيدي داعش الإرهابي بنكبة بغداد على يد جحافل هولاكو وما أشبه قصيدة الدوسكي  تلك بقصيدة , / شمس الدين محمود الكوفي / عندما قال :مالي وللأيام شتت شملها  / شملي وخلاني بلا خلاني / ما للمنازل أصبحت لأ أهلها / أهلي ولا جيرانها جيراني / ولقد قصدت الدار بعد رحيلكم / ووقفت فيها وقفت الحيران / وسألتها لكن بغير تكلم / فأجابتني لكن بغير لسان

قصيدة  الحدباء وثيقة تاريخية هامة عن تلك المجزرة الوحشية الإرهابية الرهيبة التي لا تغتفر والتي ارتكبتها يد الغدر والعدوان الداعشي المجرم بحق شعب آمن عريق وهي صورة شاهدة حية باقية  في تفاعل ومشاركة الأديب لتوثيق الحقائق ونقلها إلى الأجيال القادمة , فالشاعر لسان حالهم بقلمه المنير …….، علما إن الشاعر عصمت دوسكي كتب رواية ” الإرهاب ودمار الحدباء ” من عشرة فصول وصدرت في دهوك بدعم من شبكة الأخاء للسلام وحقوق الإنسان ومديرها الباحث سردار سنجاري إضافة إلى قصيدته ” العبارة ” عن كارثة العبارة في الحدباء التي غرقت في نهر دجلة وأدت بموت وغرق الكثير من عوائل الحدباء الأبرياء . وتبقى قصيدة ” الحدباء ” من الشواهد العصرية المهمة في الأدب الإنساني .

***********************

كلستان المرعي
* مواليد قرية آلاقوس منطقة ديرك محافظة الحسكة الإقامة قامشلو سورية
* تحصيل علميي : اجازة في علم الاجتماع,/ ليسانس /جامعة دمشق كلية ا لآداب والعلوم الإنسانية عام 1985 .
* عملت دورات تخصصية في الإرشاد النفسي و الاجتماعي قي دمشق .
* مدرّسة لسنوات في المدارس/ ثم ندبت لاختصاصي مرشدة اجتماعية مدة خمس عشرة سنة , وقامت بالعديد من الدراسات على الطلاب ضمن مجالي الخاص .

* مدرّسة لسنوات , لقد درّست مادة اللغة العربية لعشر سنوات لمرحلة التعليم الأساسي في مدرستي الشهيد ميشال صليبا و الشهيد صالح عبدي من عام 1990 عام 2000
* تركت أرشيفا من ثمانية عشر مجلدا في المدرسة ليستفيد منها من يأتي من بعدي , * مديرية التربية بالحسكة منحتني / لقب كبيرة المرشدين / لأني كنت أقوم باجتماع شهري للمرشدين الموجودين في القامشلي وريفها لتخطيط خطة شهرية و جدول أعمال وكنت ابعث بتقرير عن مجريات العمل إلى تربية الحسكة .
* شغف كبير في المطالعة وقراءة دواوين الشعر والشعراء .
* كتبت الكثير من الصور الشعرية والمقالات النقدية والومضات الأدبية لما يجري في الواقع الإنساني

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.