مصورو الحروب.. حكاية أبناء المهنة الأكثر إيلامًا
كتب بواسطة:مجد أبو ريا

كثيرًا ما نسمع ونقرأ عن بشاعة الحروب والمجازر التي يرتكبها الإنسان في حق أخيه الإنسان، لكن الصورة المرئية قد تكون أكثر بلاغة وملامسة للنفس بنقلها الواقع كما هو من أرض الواقع، فرغم قسوتها، تُعبر عن آلاف الكلمات.

إن تصوير الحروب مهنة امتهنها أشخاص منذ عقود طويلة أحسوا بأن من واجبهم إظهار الحقيقة للناس مهما كلفهم الأمر، لاعتقادهم الشديد أن هذه الصور المظلمة قد تُسهم في تغيير العالم للأفضل كونها قد تؤثر في قلوب الناس ويسعون لإنهاء الحروب، وكثيرًا ما حدث ذلك بالفعل بفضل كاميراتهم التي تلطخت بدمائهم ودموعهم.

وهنا نقف لنتساءل: متى ظهرت أول صورة حربية في التاريخ؟ وكيف أصبحت مهنة؟ وما التحديات التي يواجهها مصورو الحروب؟ وما الأزمات والاضطرابات النفسية التي يتعرضون لها؟

قصة ظهور التصوير الحربي

يعتبر المؤرخون الغربيون أن أول مصور حرب كان أمريكيًا، رغم عدم معرفتهم اسمه، ويؤكدون أنه كان مرتبطًا بالقوات الأمريكية التي تقاتل في الحرب الأمريكية المكسيكية عامي 1846-1847، وقد تم التقاط هذه الصور الأولى في زمن الحرب باستخدام تقنية تُعرف باسم “داجيرية” daguerreotype.

عندما ذهب الجيش الأمريكي إلى الحرب مع المكسيك عام 1846، ذهب مصور الداجيرية المجهول وكان يشبه ضباط الجيش، نظرًا لطبيعة المعدات الدقيقة للكاميرا التي تشبه السلاح

الداجيرية هو نوع مبكر من التصوير، اخترعه الكيميائي الفرنسي لويس داجير عام 1839 بعد سنوات من البحث والتجارب، يُستعمل في هذا النوع من التصوير، ألواح معدنية مصقولة مغلفة بالزجاج، وتعرض لبخار اليود ثم توضع هذه الألواح في الكاميرا للحصول على صور من الأشياء، وقد انتشرت في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، مع المصورين الأوائل الذين سجلوا صور مناظر المدن والأحداث العامة وحتى الشخصيات البارزة.

عندما ذهب الجيش الأمريكي إلى الحرب مع المكسيك عام 1846، ذهب مصور الداجيرية المجهول وكان يشبه ضباط الجيش، نظرًا لطبيعة المعدات الدقيقة للكاميرا التي تشبه السلاح التي كان ينصبها وينتظر مدة طويلة لالتقاط الصور التي تُعتبر الأولى لمصور حربي، على الرغم من أنه لم يتم يلتقط أي مشاهد للمعركة الفعلية.

يقول بعض المؤرخين إن المجري كارول بوب دي سزثماري أول مصور حربي معروف، حيث سافر إلى منطقة البحر الأسود لتسجيل أكثر من 200 صورة لحرب القرم عام 1853 التي اندلعت على أراضي شبه الجزيرة في شمال البحر الأسود، بين روسيا من جهة والدولة العثمانية بمساندة فرنسا وبريطانيا ومصر وإيطاليا من جهة أخرى، ونجت حتى يومنا هذا تسع صور من صور دي سزثماري.

كما صور المصور الفرنسي إرنست إدوارد دي كارانزا، وروجر فنتون من بريطانيا مشاهد الحرب، وصور فنتون أكثر من 350 صورة لا تزال تعرض جميعها حتى اليوم، وتشمل صورًا للمناظر الطبيعية ولقطات من ساحات القتال المختلفة وصورًا للضباط البريطانيين، بالإضافة إلى بعض الصور للحياة في معسكرات الجيش.

حرب القرم كانت مكانًا لولادة نوع جديد من التصوير بات يُعرف بصحافة تصوير الحروب من أرض المعركة

وبذلك يعتقد البعض الآخر من المؤرخين أن فنتون يُعتبر أول مصور حرب في العالم، وذلك بعدما اشتهر بصورة “وادي ظل الموت” التي تُمثل البداية الحقيقية لهذا النوع من التصوير، وقد أظهر عمل فنتون، قدرة الوسيط الفني الجديد على منافسة الفنون الجميلة القديمة في تصوير الحروب، على الرغم من كونها غير وحشية كما صور الحروب اليوم.

وبالتالي فإن حرب القرم كانت مكانًا لولادة نوع جديد من التصوير بات يُعرف بصحافة تصوير الحروب من أرض المعركة، ومنذ ذلك الوقت صارت آلة التصوير جزءًا لا يتجزأ من المعلومات المدعمة بالصور التي تعتبر الدليل الحي على أحداث الحرب أينما وقعت، في ثمن يدفعه المصورون الحربيون في المقام الأول.

معاناة المصورين الحربيين

إن مهنة المصورين الحربيين هي مهنة مملوءة بالمصاعب والمتاعب المتكونة من شقين: الأول هو ما يواجهه المصور في أرض الميدان حيث قلة – وندرة في بعض الأحيان – التسهيلات الأمنية واللوجستية، فبالتالي تكون مهمته في التقاط الصور الجيدة صعبة، والأمر الثاني هو المعاناة النفسية التي يمر بها المصور من مشاهد وحوادث يعايشها هو لا غيره، ويكون مضطرًا لنقلها للعالم من منطلق الواجب المهني والإنساني، لكن قد تصل به تجربته حد الانتحار.

كتب الكثير من الأطباء النفسيين والمصورين الحربيين كتبًا وقصصًا وأفلامًا عما يُصاب به هؤلاء من اضطرابات نفسية ومشاهد تلازمهم بقية العمر، على العكس من الصورة النمطية التي يراها الناس في أذهانهم من أن هذا المصور قوي وقاسي القلب ولديه قوة خارقة في تملك عواطفه.

يروي الكاتب بعض القصص المأساوية للمصورين العاملين في تلك المهنة، كالمصور البرازيلي سيباستياو سالجادو الذي انتابه شعور عميق بالحزن مصحوبًا بقناعته بأن الجنس البشري ضل طريقه في أعقاب توثيق الآثار المترتبة على الإبادة الجماعية في رواندا

في العام الماضي كتب مصور الحروب الإنجليزي الكندي فينبار أورايلي مقالًا لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية يوضح فيه أن تلك الصورة بعيدة عن الواقع، وهذه التصورات تتجاهل الشكوك والمخاوف والأسئلة الأخلاقية التي يواجهها مصورو الحروب ومشاعر الوحدة والألم التي يقاسونها.

يشير أورايلي في مقاله إلى كتاب الطبيب النفسي الجنوب إفريقي أنتوني فاينشتاين – الذي شهد الصراع في ناميبيا عام 1982 – “Shooting War” الذي يُلقي الضوء على حياة 18 شخصًا من مصوري الصراعات، يبدأ كل منها بصورة واحدة صادمة من تصويره، ويفحص فاينشتاين في الكتاب دوافعهم وصدماتهم ومرونتهم.

يقول فاينشتاين في كتابه: “بعكس الجنود، لا يتدرَّب المُصوِّرون على العنف، لكن فترة مُعايشتهم الطويلة للجبهات الأمامية لا مثيل لها، إذ يعودون إلى أرض المعركة مرارًا وتكرارًا، وجميعهم يُدركون جيدًا حجم الضريبة التي ستُدفع في النهاية”.

يروي الكاتب بعض القصص المأساوية للمصورين العاملين في تلك المهنة، كالمصور البرازيلي سيباستياو سالجادو الذي انتابه شعور عميق بالحزن مصحوبًا بقناعته بأن الجنس البشري ضل طريقه في أعقاب توثيق الآثار المترتبة على الإبادة الجماعية في رواندا.

المصور العربي معاناته لها لون خاص، فهو ابن المنطقة العربية التي تشهد كثيرًا من الحروب والأحداث الدموية المتزاحمة على مدار السنوات الطويلة المستمرة حتى الآن

كما روى قصة المصور اليوناني يانيس بيهراكيس الذي يعمل في وكالة رويترز، الذي نجا من كمينٍ قُتل فيه اثنان من زملائه في سيراليون، أحدهما كان أعز أصدقائه، قبل أن يزحف لثلاث ساعاتٍ بين الأحراش إلى بر الأمان، وعانى في وقت لاحق نوبات من الاكتئاب الشديد كانت تحول بينه وبين النهوض من سريره في الصباح.

وأورد الكاتب قصصًا كثيرة أخرى نذكر منها أيضًا قصة المصور الجنوب إفريقي جوا سيلفا الذي عمل في صحيفة نيويورك تايمز سنوات في تغطية النهاية العنيفة لنظام الفصل العنصري والحروب التي دارت هنا وهناك، وخسر العديد من أصدقائه فيها، قبل أن يفقد ساقيه حين داس عبوةً ناسفة في أفغانستان، ويُرافق ملفه الشخصي ثلاث صورٍ لساقيه الممزقتين وقدمه المتدلية التقطها في أعقاب الانفجار.

المصورون العرب.. قصة أخرى

من المتفق عليه أن مصور الحروب العالمي يُعاني كثيرًا كما ذكرنا فيما سبق من عوامل كثيرة، لكن المصور العربي معاناته لها لون خاص، فهو ابن المنطقة العربية التي تشهد كثيرًا من الحروب والأحداث الدموية المتزاحمة على مدار سنوات طويلة وهي مستمرة حتى الآن، هذا كله يولد أحاسيس ومشاعر ومشاكل مختلفة للمصور العربي عن غيره من الجنسيات.

ولعلنا في “نون بوست” نحاول معرفة ما يدور في خواطر وقلوب بعض من هؤلاء المصورين، لنرى ماذا يواجه المصور الحربي العربي من عقبات وتحديات، وكيف تؤثر كثرة الأحداث القاسية التي أنهكت الناس في وسطنا العربي، على نفسيتهم.

ليث مشتاق: مصور الجزيرة إبان الغزو الأمريكي للعراق

يُحدث المصور الحربي العراقي ليث مشتاق نون بوست عن تجربته وخبرته الطويلة في هذا المجال، بقوله: “بدأت التصوير الحربي خلال غزو العراق عام 2003 حيث التحقت بالعمل في مكتب قناة الجزيرة ببغداد، ساهمت خلالها في تغطية المناطق الملتهبة حينها في محافظة الأنبار وخاصة الفلوجة والرمادي وكذلك صلاح الدين والموصل وديالى وأربيل بالإضافة إلى بغداد، وقد كانت الأعوام 2003-2004 هي الأشد بين ما يعرف بالمقاومة العراقية والقوات الأجنبية”.

قال مشتاق: “لا أزال أذكر يوم 9-4-2004 وقد كان يوم النكبة في المدينة أي الفلوجة، حيث اشتد القصف وأتى بسيدة عجوز وأحفادها قد قُتلوا جميعًا، وكنت قد رأيتهم قبل ساعة من مقتلهم يعتلون حوض سيارة نقل علهم يستطيعون الخروج من المدينة

يتابع مشتاق: “قمت بتغطية عشرات الهجمات وما بعد التفجيرات والمعارك، أذكر منها مقتل نجلي الرئيس العراقي السابق عدي وقصي أواخر عام 2003 رفقة الزميل ياسر أبو هلالة، ولعل أبرز تغطية حين كنت من ضمن الفريق الذي غطى معركة الفلوجة الأولى في أبريل 2004 رفقة الزميل أحمد منصور من ثم عبد العظيم محمد، حيث كنا الفريق الوحيد داخل المدينة في أثناء الحصار والمعارك ولمدة شهرٍ تقريبًا، وكانت تجربةً عصيبة بكل تفاصيلها”.

يضيف مشتاق: “بعدها شاركت في معارك كربلاء في ذات العام بين القوات الغازية ومليشيا جيش المهدي، وقد استشهد خلال التغطية زميلي رشيد والي في أثناء التصوير فوق أحد المباني، وكان رحمه الله يقف إلى جانبي حيث أنهال علينا الرصاص فقتل بثلاث رصاصات في رأسه بينما سقطت أنا على الأرض”.

أما عن المشاهد القاسية التي تبقى محفورة في ذاكرة المصور، يجيبنا مشتاق: “من المشاهد العصيبة التي لا تفارقني، منظر جثث الأطفال القتلى في مدينة الفلوجة، حيث بقيت الكثير من العائلات داخل المدينة المتعرضة للقصف المستمر، أذكر أنهم أتوا إلى المستشفى الميداني وسط الفلوجة بجثث عائلة بأكملها لم ينج منها إلا الأب، وكنت أصوره وهو يحاور جثة ولده (أحمد) ذي الخمس سنوات وقد شطر رأسه نصفين، بينما كانت يد الطفل لا تزال ممسكة بلعبة (سيارة صغيرة)، ما زالت تلك الصور وحكاية عائلة خميس من حي الجولان مطبوعةً في الذاكرة”.

يتابع مشتاق: “كما لا أزال أذكر يوم 9-4-2004 وقد كان يوم النكبة في المدينة أي الفلوجة حيث اشتد القصف وأتى بسيدة عجوز وأحفادها قد قُتلوا جميعًا، وكنت قد رأيتهم قبل ساعة من مقتلهم يعتلون حوض سيارة نقل علهم يستطيعون الخروج من المدينة، إلا أن السيارة قصفت، أضف إلى ذلك جثث العشرات من الأهالي والمقاتلين التي كانت تتوالى على المقرات والمشافي المؤقتة”.

قال مشتاق إن تلك التغطيات وغيرها حتى بعد أن غادر العراق صيف 2004 لتغطية النزاعات في دول أخرى، كان لها تأثير كبير على نفسيته

كل هذه الأهوال التي عايشها المصور الحربي ليث مشتاق كإنسان، تجعلنا نتساءل كيف أثرت على نفسيته؟ وماذا كان يشعر عندما يؤدي عمله في توثيق مشاهد الحرب الوحشية؟ وهل توصل لمرحلة يريد بها التوقف عن هذا العمل؟

يجيبنا مشتاق أن تلك التغطيات وغيرها حتى بعد أن غادر العراق صيف 2004 لتغطية النزاعات في دول أخرى، كان لها تأثير كبير على نفسيته، فيقول: “كانت الصور والروائح والعويل وأنين الجرحى تطاردني باستمرار، تظهر وتخبو ثم تظهر وتخبو، دفعتني حينها لصعوبة في الأكل والاشمئزاز من منظر اللحم حتى في المطاعم، بالإضافة إلى العزلة وأحيانًا الغضب، كما فقدت القدرة على الأحساس بجماليات الأشياء كجمال الدول وطبيعتها أو المتاحف والموسيقى، إلخ، كلها كانت أشياء وأماكن لا معنى لها بالنسبة لي في ذلك الوقت، وتساءلت لماذا لم أعد أتذوق الحياة؟!”.

يتابع مشتاق موضحًا: “يومها عرفت أن عقلي الباطن بقي يختزن الصور المؤلمة وتجارب العمل في الضغط والتوتر العالي جدًا بصمودٍ قوي وأداء مبهر من الخارج، لكن ضررًا ما كان يكمن ويكبر في الداخل، وبحاجة إلى تنبه ومواجهة، عندها بدأت بمواجهة الأمر ومحاولة التغلب عليه لأكتشف لاحقًا ما يعرف (بأعراض ما بعد الصدمة) التي يصاب بها الجنود والصحفيون والمدنيون في مناطق النزاع التي تحتاج للاسترخاء وبعض الوقت للتغلب عليها”. 

هذا الأمر أثار جدلًا داخل مشتاق، بين التخلي عن واجبه وعمله الذي يُجيد وأن يُكمل ويتحمل المزيد من الألم، خاصةً أن كل المعارك التي قام بتغطيتها ذهب إليها متطوعًا وليس مرغمًا، “فالأمر بالنسبة لي كان رسالة وشغف، حتى جاء عام 2013 وكانت آخر تغطية بالنسبة لي لمناطق النزاع وكانت في مدينة حلب السورية رفقة الزميلة غادة عويس يومها، بعدها انتقلت للعمل في غرفة الأخبار كصحفي وابتعدت تمامًا عن ذلك النوع من التغطيات” بحسب مشتاق.

يقول مشتاق في حواره مع نون بوست: “كان قرار التوقف عن تغطية مناطق النزاعات نابعًا من سببين: الأول الاكتفاء من حجم الضغوط تلك حيث بات الأمر بالنسبة لي كالقصص المتكررة سواء في آسيا أم إفريقيا أم المناطق العربية، والسبب الثاني التطور المهني الطبيعي والطموح الشخصي في ممارسة العمل الصحفي وتوظيف الخبرة الميدانية بعد تعزيزها بالمعرفة التحريرية خلال العمل في غرف الأخبار، وذلك ما دأبت عليه منذ ربيع 2013 حتى اليوم بالإضافة إلى صناعة الأفلام”. 

يختتم مشتاق حواره بقوله: “أشارك في مؤتمرات دولية منذ عام 2009 حتى اليوم للحديث عن تغطية مناطق النزاعات وقواعدها وتأثيراتها، ودائمًا ما أختم المحاضرة بجملة أوجهها للطلاب والحضور أقول فيها: تغطية مناطق النزاعات واجب نبيل وعمل بطولي ورسالة عظيمة وخدمة للتوثيق التاريخي، مع ذلك عليك إدراك حجم الثمن الذي ستدفعه بالمقابل الذي لن يستشعره سواك”.

إسماعيل أبو حطب: مصور حر في قطاع غزة

المصور الحربي الفلسطيني إسماعيل أبو حطب، وهو مصور حر عمل مع عدة قنوات دولية لتويثق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وأحداث مسيرات العودة على الحدود الفلسطينية مع “إسرائيل”، يقول لنون بوست إن الصحافي الفلسطيني عايش أحداثًا ومعارك دموية كثيرة ومتتالية، ومشاهد الدمار هنا وهناك، وهذا بحد ذاته واحد من أكبر التحديات التي تواجهه.

يوضح أبو حطب بقوله: “من الصعب على المصور أن يقوم بتغطية حرب في بلده ومكانه، ليس فقط بسبب حالة الخوف والرعب التي تنتابك على أهلك وأصدقائك، بل إنك ترى بأم عينك بلدك تتدمر أمامك، وفي لحظات القصف والدمار تقف أمام معادلة صعبة، إما أن تحمل الكاميرا وتركض وراء توثيق الأحداث ليراها العالم أجمع، وتؤدي أيضًا وظيفتك المطلوبة منك لأصحابها، أم أن تقوم بمساعدة الجرحى والمصابين الذين تبكي وأنت تراهم، أم أنك تهرب من ساحة الميدان”.

أما عن المشاهد التي لا تفارق بال أبو حطب، يقول: “في عدوان عام 2014 على قطاع غزة، وكان أول يوم في عيد الفطر، كنت أصور أطفالًا يلعبون بالمراجيح، وخلال ثواني سقط عليهم صاروخ إسرائيلي فتحولوا لأشلاء، ووثقت الحادثة حتى وصولهم للمشفى وصرخات والدهم تعلو في التسجيل، وأنا أصور وأبكي بشكل هستيري”.

يقول أبو حطب إن هذا المشهد ملازم له في أحلامه وتفكيره حتى الآن، وعانى من صدمة نفسية كبيرة بعد ذلك، ولم يستمتع بحياته كما كانت حتى مع تجربته للسفر والراحة بعيدًا عن حصار القطاع، لكنه يحاول تجاوزها، وعاد ليكمل واجبه المهني والأخلاقي، والوطني بالدرجة الأول، بحسب وصفه.

شكلت الحرب الفيتنامية تجربة إنسانية مؤلمة، واستطاعت عدسات المصورين أن توثق هذه اللحظات التاريخية التي تناقلتها ذاكرة التاريخ عبر الأجيال

في آخر حوار أجراه نون بوست مع المصور الحربي الفلسطيني حسام سالم، وهو مصور حر أيضًا، يقول عن العقبات التي تواجهه كمصور حربي في قطاع غزة عدم توافر المعدات التي تُسهل عليه العمل، والأهم من ذلك عدم توافر معدات السلامة المهنية للصحفايين الميدانيين والحربيين.

وفيما يخص المشاهد الصعبة، يقول سالم إن تصوير البيوت لحظة تدميرها، وتصوير الجرحى والمصابين وأشلاء الشهداء، أثرها صعب على النفس، ولكن من أكثر الأمور صعوبة عندما فقد صديقه وزميله المصور الحربي ياسر مرتجى.

يقول سالم: “كنا نعمل معًا في تغطية تشابكات مسيرات العودة الحدودية، عندما أطلقت النار عليه، كان ياسر يرتدي سترة فولاذية مكتوب عليها “الصحافة” لكن قتله الجنود الإسرائيليون عن قصد، كنت في حالة صدمة نفسية كبيرة بعد ما حدث وتوقفت عن العمل لمدة أسبوعين، ثم بدأت في العودة إلى نفس المنطقة التي قتل فيها صديقي وعملت هناك لإظهار الحقيقة وتوثيق الجرائم الإسرائيلية، على الرغم من حزني الشديد، أدركت أن ما فعله صديقي ومات من أجله سيكون من أجل لا شيء”.

إذًا ما جدوى التصوير الحربي؟ المثال في فيتنام

لقد شكلت الحرب الفيتنامية تجربة إنسانية مؤلمة، واستطاعت عدسات المصورين أن توثق هذه اللحظات التاريخية التي تناقلتها ذاكرة التاريخ عبر الأجيال، إضافة إلى الدور المهم والمؤثر الذي قامت به الصور الصحفية في تعبئة الرأي العام الدولي والأمريكي ضد حرب فيتنام، ورفع الوعي لدى الشعب الأمريكي بعدم جدواها.

فقد أظهرت الصور التي نشرت في الصحافة الأمريكية إبان حرب فيتنام، بعض جرائم الحرب وانتهاكات الجنود الأمريكيين للحقوق البشرية هناك وأدت بالجيش الأمريكي إلى الانسحاب من فيتنام، في هزيمة تاريخية للقوات الأمريكية غير مسبوقة، مما أدى إلى ضغط الرأي العام على الحكومة من أجل الانسحاب منها.

مهنة التصوير الحربي هي مهنة كلها مصاعب وقد تكلف العاملين بها حياتهم وصحتهم، لكنها على درجة كبيرة من الأهمية في تغيير مجريات الحروب على مستوى العالم، وإنهاء المآسي التي تمر بها الشعوب، وخير مثال على ذلك حرب فيتنام

كان المصور الحربي الأمريكي “هورست فاس” رئيس قسم التصوير في وكالة أسوشيتد برس قسم جنوب آسيا خلال الحرب الفيتنامية، من أبرز مصوري الحرب الذي التقط أغلب الصور التي عبرت عن قساوة مشاهد الحرب، حيث نشر صورًا مروعة لمدنيين وأطفال فيتناميين فقدوا بيوتهم وأفراد عائلاتهم، وجثث مشوهة لرجال “الفيتونغ”، ولاجئين يحملون ما تبقى لهم من أطفال.

لكن المصور الحربي إدي آدامز المصور والمراسل الأميركي للوكالة نفسها في فيتنام خلال الستينيات، استطاع أن يقلب الرأي العام ويشكل صدمة للجمهور بسبب الصور التاريخية التي التقطها يوم 8 من فبراير 1968 وسط مدينة سايغون سابقًا، التي يظهر فيها الجنرال الجنوبي “نيغون نوغ” يصوب المسدس على رأس السجين “نجوين فان ليم” الذي كان مقاتلاً في “الفيتونغ” التابعة لفيتنام الشمالية، حيث أطلق الجنرال عليه رصاصة في رأسه ليتركه قتيلاً على الأرض.

اقتنص آدمز هذه الفرصة وصنع لحظة تاريخية بقيت عالقة في أذهان المؤرخين والباحثين، حيث حصدت الصورة جائزة بوليتزر عام 1969 وأصبحت تستخدم في الحملات المناهضة للحرب وسياسة الولايات المتحدة الخارجية، إلا أن الصورة تركت أثرًا نفسيًا على المصور آدمز، حيث قال في خطابه الذي ألقاه عند تسلم الجائزة: “أنا قتلت الجنرال في كاميرتي مثل ما قتل الجنرال السجين”.

ختامًا فإن مهنة التصوير الحربي هي مهنة كلها مصاعب وقد تكلف العاملين بها حياتهم وصحتهم، لكنها على درجة كبيرة من الأهمية في تغيير مجريات الحروب على مستوى العالم، وإنهاء المآسي التي تمر بها الشعوب، وخير مثال على ذلك حرب فيتنام.

المواضيع:

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.