تناغم بين التجربة العاطفية والروحية سر الألق والفرادة في قصائده

النسيمي شاعر مفتون بالإنسان وسحر البيان

الصورة :
سامي يوسف – الشاعر الأذربيجاني : عماد الدين نسيمي..أنا لؤلؤة منتشرة في كل مكان..أنا.
المصدر:
فيصل خرتش
يُلخّص كتاب «عماد الدين النسيمي» لمؤلفه عبد الفتاح قلعه جي حياة النسيمي، شعره وآراءه الفلسفية، كما يدرس العصر الذي ينتمي إليه، فهو من الذين حطّوا الرحال في مدينة حلب، وتعود أهميته إلى كونه شاعراً وترك ديواناً كاملاً باللغة الأذربيجانية الأصلية، وإلى مكانته الكبيرة في الدعوة إلى «الحروفية» التي مزجت بين التصوّف والفلسفة والدين، وإلى نهايته المأسوية. وقد ذكروا في تاريخ أدبيات أذربيجان أنه ولد في مدينة «شماخي» ويدعى بالنسيمي الشيرواني، عام 771 هـ/1370 م.
شاعر كوني
كان الحروفيون من أشدّ المعارضين السياسيين لتمورلنك، والتقى النسيمي بمؤسس الحروفية فضل الله النعيمي، ويقع ضريح النسيمي في الزاوية المعروفة باسمه «زاوية النسيمي»، على سيف حي الفرارة بحلب، تجاه القلعة، وفي الجهة الشمالية منها، غربي المدرسة الإسماعيلية قرب حمام السلطان.
النسيمي واحد من الشعراء العالميين الذين يرقون إلى منزلة الشاعر الكوني، له عالمه الخاص الذي يحملنا إليه بسحر البيان، وعالمه هو الإنسان، التزم بقضيته، وناضل من أجل حريته، وأعلى منزلته، ومن أجل ما دعا إليه قدم حياته ثمناً، يقول:
«وجه الإنسان أصبح الآن هو الحقيقة/ ما نحن لهذا الإنسان الجدير بالمعرفة»، وبهذا يصبح الإنسان هو السلطة نفسها، وهو الطريق والغاية، وهو العاشق والمعشوق، يقول: «عمل الله عجينة من الماء والتراب/ وصاغ منها الإنسان مرآة الكون». وسماه: سلطاناً، جمالاً، وزيراً، حبّاً عاشقاً، معشوقاً، واندمج الحبّ في الوحدة».
إنّ شعره يكون نابعاً من تجربتين: تجربة عاطفية، وتجربة روحية، وإلى تناغم هاتين التجربتين يعود سر الألق والفرادة في هذه الأغاني.
تعمّق عماد الدين في دراسة الفلسفة والفلك والمنطق والرياضيات وعلوم الطبيعة، وكان يجيد اللغة الفارسية إلى جانب لغته، إضافة إلى اللغة العربية. وقد كتب باللغات الثلاث واستطاع أن يرسخ الأذربيجانية لتكون لغته في الإبداع الأدبي، وقد ترك ما يزيد على عشرة آلاف بيت في مختلف الموضوعات. أمّا ديوانه بالفارسية فضم حوالي خمسة آلاف بيت، وتعرض شعره بالعربية إلى الضياع أو الإتلاف فلم يصل منه إلا المقطوعات اليسيرة.
هجرة وتعذيب
اعتنق النسيمي «الحروفية» وأصبح واحداً من دعاتها، وسافر لأجل ذلك إلى تبريز وبغداد فأقام فيهما مدّة، وقد تزوج ابنة أستاذه فضل الله النعيمي «فاتحة الكتاب» بوصية منه، وقد ترك باكو عام 1396 م، بعد إعدام أستاذه متجهاً إلى بلاد الروم، حيث لقي الإكرام من شعرائهم، فالتفوا حوله، وسحرهم بإشراق بيانه وروعة شعره، وما أظهره من تصوّف.
غير أنه عندما بدأ التصريح بدعوته «الحروفية»، رأى العلماء أنها خروج على الإسلام، فثاروا ضده، ولاحقته السلطات العثمانية، وتعرض إلى السجن والتعذيب، ثم غادر الدولة العثمانية متجهاً إلى حلب.
وصل إلى حلب بعد رحيل تيمورلنك عنها، في عام 1401 م، ويبدو أنه قد أحدث تأثيراً حسناً في نفوس القائمين عليها، فاجتمع بتلامذته ومريديه، يشرح لهم أفكاره ويقرأ عليهم شيئاً من أشعاره. واستمرار النسيمي في دعوته أثار عليه بعض المتدينين، ولكن رغم التحذيرات التي تلقاها، إلا أنه استمر في دعوته وكثر أتباعه، ويروى أنّ أحد تلاميذه كان يتغنى بأشعار أستاذه في أحد أسواق حلب..
وتمّ إلقاء القبض على هذا الشاب، وأثناء المحاكمة نسب الشعر إلى نفسه ليدرأ الخطر عن أستاذه، فحكم عليه بالإعدام، لكن النسيمي سارع وردّ الشعر إلى نفسه. وأحضر إلى دار العدل، وقد حضر الجلسة مجموعة من العلماء والفقهاء، وحضرها نائب حلب الأمير يشبك اليوسفي، واتهم النسيمي بالكفر والإلحاد والزندقة، لكن القضاة والعلماء والحاضرين، لم يوافقوا على الحكم بإعدامه. وقال نائب السلطان: «أنا لا أقتله، وسأنتظر ما يرسم السلطان فيه».
إعدام الفيلسوف
وانفض المجلس، وأرسلت الفتوى مع آراء هيئة القضاة والعلماء إلى السلطان في القاهرة، ثم جاء الردّ بإعدام النسيمي وسلخ جلده والتشهير به بحلب سبعة أيام، وينادى عليه وتقطع أعضاؤه. إن خصوم النسيمي لم يجدوا عليه مستمسكاً شرعياً أو قانونياً يدينونه به، وهو صاحب الحجج القاطعة قبل الاتهام، لزم الصمت المطبق وكان يلفظ الشهادتين.
إنّ يوم إعدام النسيمي يوم مشهود، فقد تقاطر الناس من كل مكان، وكان أثناء تنفيذ الحكم يستعين على ذلك بنظم الأشعار وإنشادها، وفي عام 1417 م، لفظ النسيمي آخر أنفاسه أمام أسوار قلعة حلب، فانطوى بوفاته واحد من أكبر فلاسفة الحروفية ودعاتها، وعلم من أعلام الشعر الإنساني والصوفي. وفي عام 1973 م، احتفل الأذربيجانيون و«اليونسكو» …
ومجلس السلم العالمي بذكرى مرور 600 سنة على ميلاد الشاعر والمفكر عماد الدين النسيمي. وفي عام 1989، أهدت الحكومة الأذربيجانية مدينة حلب تمثالاً للنسيمي، ووضع في الجناح الإسلامي بحلب، كما أهدى الوفد ديوان النسيمي المطبوع بالتركية وديوانه المطبوع بالفارسية، وهما في اتحاد الكتاب العرب.
المؤلف في سطور
عبد الفتاح رواس قلعه جي ولد في حلب عام 1938، وفيها تعلّمَ والتحق بدار المعلمين، ثم أكمل دراسته الجامعية في دمشق قسم اللغة العربية، حيث تخرج فيها عام 1965، مارس مهنة التدريس لفترة طويلة، وهو عضو اتحاد الكتاب العرب، له كتب عديدة، منها: «العلامة خير الدين الأسدي – الشاعر أمين الجندي – حافظ الشيرازي شاعر الغزّل والعرفان – مدخل إلى علم الجمال الإسلامي – أحياء حلب وأسواقها».
ـــــــــ
وهنا لا بدّ من تحرير هذه المفاهيم الصّوفية، وهي باختصار وإيجاز
في عام 2019م غنّى سامي يوسف قصيدةً لعماد الدّين النّسيمي باللّهجة الأذريّة التركمانيّة، وهي قصيدة قالها بلسان الذّات الإلهيّة ويقول فيها بناءً على ترجمة الأستاذ محمّد هاشم من اللهجة الأذريّة التركمانيّة، وقد ترجمها في تشرين الثّاني “نوفمبر” من عام 2020م ممّا أسهم في تجدّد رواجها بشكلٍ واسع:
أنا أسع كلّ العالمين؛ لكن كلّ هذا العالم لا يسعني
أنا جوهر اللّامكان؛ لأنّه لا الكون ولا المكان يسعني
أنا السهمُ، والقوس أنا
أنا الشيخ، والشابّ أنا
أنا الذرّة، والشمس أنا
أنا العناصر الأربعة، وأنا الحواس الخمسة، والأبعاد الستّة أنا
اعرفني عبرَ صورتك هذه، ولكنّها لن تسعني
وإنّي أسع كلّ العالمين؛ ولكن كلّ هذا العالم لا يسعني
أنا الأشجار التي تشعل النّار
أنا الأحجارُ التي تقدحُ النّار
كلّ شيءٍ موجودٌ في الكاف والنّون
كلّ الموجودات بجملتها فيها
أنت بهذه العلامة تعرّف عليّ
ولكن اعلم بأنّ كلّ العلامات لا تسعني
كل الموجودات أنا، وكل المرايا لا تحتويني
قد أكون اليوم نسيميًا، وقد أكون هاشميًّا، وقد أكون قُرشيًّا
أنا الذي تتجلّى آياتي فيَّ، وكل آياتي لا تسعني
الكون والمكان هي آيتي
وذاتُكَ هي بدايتي
وأنت بهذه العلامة اعرفني، ولكن اعلم أنّ كلّ العلامات لا تسعني
أنا سرّ الكنوز، أنا المحيط، وكلّ الموجود أنا
وإنّ كلّ الكون الأعظم هو ذاتي واسمي
وكلّ هذا الكون لا يسعني
أنا الصّدف وأنا اللّؤلؤ
وأنا المحشر والميزان
أنا الرّحيقُ وأنا السّكّرُ
أنا الشّمسُ وأنا القمرُ
أنا الذي أهبُ النّفسَ والرّوح
وكلّ الأرواح لا تتمكّن من احتوائي
وإنّي أسع كلّ العالمين؛ ولكن كلّ هذا العالم لا يسعني
أنا جوهر اللّامكان لأنّه لا الكون ولا المكان يسعني
• الأغنية بين الحلول والاتّحاد
وهنا لا بدّ من تحرير هذه المفاهيم الصّوفية، وهي باختصار وإيجاز
الحلول: أنّ يحلّ الخالق في المخلوق، وفيه إثباتٌ لوجودَين؛ فوجود الخالق غير وجود المخلوق، لكنّه يحلّ فيه حلولًا عامًّا ويكون ذلك باعتقاد أنّ الله تعالى حلّ في كلّ شيءٍ من مخلوقاته، أو حلولًا خاصًا باعتقاد أنّ الله تعالى قد حلّ في بعض مخلوقاته، أو حلولًا سرَيانِيًّا بحيثُ تكون الإشارةُ إلى أحدهما إشارةً إلى الآخر، أو حلولًا جرَيانيًّا بحيثُ يكون أحدهما ـ الخالق والمخلوق ـ ظرفًا للآخر
أمّا الاتّحاد، ويلحق به وحدة الوجود: فهو اتحاد الله عز وجل بمخلوقاته، أو ببعض مخلوقاته، وبعبارة أخرى: اعتقاد أن وجود الكائنات أو بعضها هو عين وجود الله تعالى.
وعند يسيرٍ من النّظر في قصيدة عماد الدّين النّسيمي التي غنّاها سامي يوسف نرى أنّها قصيدة حلوليّة، فهي تؤكّد في كلماتها أنّ الله تعالى قد حلّ في المخلوق مع التّأكيد على انّه ليسَ عين المخلوق، فهو يسع المخلوق والمخلوق لا يسعه
عن “نسيمي” أغنية سامي يوسف، وصاحبها الإمام الصّوفيّ عماد الدّين نسيمي
https://www.facebook.com/hameed.a.satar/videos/3472894149454850/?sfnsn=mo&d=n&vh=i
سامي يوسف ورائعة الشاعر الأذربيجاني عماد الدين نسيمي «أنا لؤلؤة منتشرة في كل مكان…أنا السهم وانا القوس..أنا العجوز..أنا الشاب..انا القشرة. أنا النواه..أنا العسل..أنا السكر…أنا الشمس..أنا القمر..أنا الكنز..الأبدي..»

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.