تضاعفت شهرة متحف بورديل (على اسم النحات الباريس المعروف) بسبب جاذبية معرضه الفني الصيفي، وما أشاعه من فضولية فنية وذوقية، ومن إقبال منقطع النظير. تبدأ أصالة العرض من جدّة موضوعه وعنوانه المثير: «مانيكان الفنانين والمانيكان السحري».

والمقصود «بالمانيكان» في هذا المقام النموذج البشري أو التشريحي المصغّر، أو «الموديل» الخشب القابل للحركة الطبيعيّة (تمفصل معدني تحركه خيوط)، يعتمد عليه الفنان المصور أو الرسام أو النحات في ضبط مقاييس النسب والتشريح، من نماذج طبية تكشف الأعضاء الباطنة وتدرس في معاهد الفنون، تيمناً برسوم الأجهزة والعضلات والأعضاء الداخلية التي رسمها (بالحفر المعدني الدقيق) معلم عصر النّهضة الأكبر ليوناردو دافنشي، واضعاً حركة مانيكان الهيكل البشري داخل مرتـسمات الدائرة وأقطارها المتعامدة.

وبسبب حميميّة العلاقة بين بعض الفنانين وهذه الدمية أو النموذج الأكاديمي التعليمي المثالي وبسبب غلاء ثمنه (يصنع من الخشب الخاص النادر) مع تعقيدات صناعته، فهو يؤجّر لفترة فتتفوق كلفته أضعافاً مضاعفة عن أجرة النموذج الحي (الموديل)، لذلك فهذه الدمية الثمينة المقدسة تنتقل من محترف فنان معروف إلى نظيره في شكل دائم.

درج تاريخ الفن على التكتّم على هذه العلاقة السحرية الملتبسة بين الفنان واللوحة والدمية النموذج. لذا، يعتبر المعرض الأول من نوعه الذي يكشف آلية هذه العلاقة وبعدها الميتافيزيقي.

ابتدأ تاريخ استخدامها والاستعانة بها بصرياً مع عصر النهضة في منتصف القرن السادس عشر واحتكرت صناعته خلال قرنين كل من ألمانيا والنمسا، ثم إيطاليا وإسبانيا. يجتمع في المعرض 150 نموذجاً منها مختلفة القياسات، بعضها معروف في لوحات عباقرة تاريخ الفن. ولم يكن جمعها من شتى المتاحف الأوروبية سهلاً، فقد استهلك تحضير المعرض سنوات بخاصة خلال أشهر السنة الأخيرة.

وكانت كلفت تحضيرَه المختصةُ الوحيدة في العالم بتاريخ المانيكان، وهي جان مونرو محافظة متحف فيتزوليام في كمبردج في الولايات المتحدة، وانتقلت معه إلى باريس لتكون الكوميسير أو المفوض الأول والناطقة بلسان فكر المعرض، هو ما يفسر العناية النظرية من خلال الكتاب (الكاتالوغ) المرافق البالغ العناية في ثلاثمئة صفحة، كالوثيقة الشرحية الأولى للمانيكان في تاريخ الفن.

يشير عنوان المعرض إلى التحول من وظيفة الدليل التشريحي في نسب الإنسان للمانيكان في محترفات القرنين السادس عشر والسابع عشر، ثم ما اكتنف سحر هيئتها من أنسنة ملغّزة ميتافيزيقية جعلت المانيكان موضوعاً أثيراً بحد ذاته في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يعانق المعرض لوحة بليغة من محفوظات النموذج الثاني للفنان الإنكليزي آلان بيتون، واحدة من أجمل المعروضات وأشدها إثارة تمثل نموذجاً لسلسلة من اللوحات حول الموضوع: التحول من مانيكان الدليل إلى مانيكان مؤنسن حلمي يشطح بالخيال خارج الإطار الأكاديمي، أنجزت هذه السلسلة ما بين عامي 1929 و1931. تماما كما نتحول من صور المانيكان – الدليل لدى الفنان بالتوس إلى المانيكان نفسه كعنصر تصويري سوريالي أو تعبيري كما هو لدى جيمس إنسور أو دي شيريكو.

واعتبرت لوحة غوستاف كوربيه حول الموديل والرسام والمحترف رمزاً للاستلهام الشائع من مثالية المانيكان، وذلك باستحضارها ثقافة النسب الذهبية المثالية الإغريقية المستنبطة في الأساس من نسب أجسام الرياضيين في الأولمب، استبدل النحات فيدياس الأعمدة بالنمّاذج الأنثوية المثالية لتحمل سقف المعبد في أثينا (منذ القرن الرابع قبل الميلاد).

لعل لهذه الأنسنة الرومانسية الموحشة والمقلقة والملغزة علاقة ذهنية ملتبسة بأدبية عرائس ودمى مسرح العرائس الشائع في أوروبا.

يزداد هذا الإحساس الشطحي عندما تتحرك المانيكان في شتى الاتجاهات من طريق مفاصلها الباطنة مثل الإنسان الآلي (الروبوت)، فتصبح أشبه بالدمية الميكانيكية التي يكتنفها الغموض والسرية والوحشة المنطوية على ذاتها.

يتحول هذا المفهوم التخيلي شبه العلمي أو الأقرب إلى العلوم التخيلية إلى حقيقة إبداعية موازية للشخوص الواقعية، هو ما يدعوه الفنان شيريكو بالمانيكان الرمزي أو الميتافيزيقي، وهو ما هيأ للأشكال والشخوص السوريالية والتكعيبية أو البنائية المهندسة في المسرح التجريبي. ابتداء من تجارب شلايمر في مدرسة الباهاوس الألمانية، سنجد له صدى في تجارب الروسي مالفتش في مرحلة العرائس السابقة التجريد.

نتلمّس هنا ما كشفه المعرض من علاقة خاصة حميمية ومشبوبة وحتى أحياناً حلمية مشبوهة بين المانيكان والفنان، يكشف أسرارها وما تخفيه من حالات فرويدية وسواها.

لنقف عند هذا الحد من التفسير فالمعرض حافل بالألغاز والأسرار بما يتفـوق على أي تـــحليل نــــقدي مهمـــا كان مجهرياً.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.