فوتوغرافيا

الصورة.. وجع الوطن

البيت هو الوطن الصغير، هو الوطن الأول، هو موطن خطواتنا الأولى التي أسعدت أهالينا وأثلجت صدورهم. بعد الولادة يكون حضن الأم هو البيت الذي يعوّض الوليد عن بيته الذي تعوّد عليه لتسعة أشهر في بطنها، ثم يأتي حضن البيت الدافئ فيلمّ شمل العائلة تحت سقفه وبين جدرانه، ليكون لهم وطناً صغيراً داخل وطنهم.

وكلنا نعلم أن من أقسى الظروف التي قد تمرّ على أي إنسان هو حرمانه من بيته، فبلا بيت يفترسك شعور بالخوف والبرد والحزن الشديد والتوتر وتشويش الذهن! يحاصرك سؤالٌ مخيف يبحث عن إجاباتٍ مباشرة: أين أذهب؟ فمن الفطريّ عندما نتوه أن نذهب دائماً لأكثر الأماكن أمناً وسلاماً لنا.. بيتنا، فما بالكم بمن عاد إلى بيته فلم يجده!

محمد أسعد، مصوّر فلسطيني من المصورين الشجعان الذين أشهروا سلاح كشف الحقيقة عبر عدساتهم، لرصد وتوثيق جرائم الحرب المريعة في غزة والأوضاع المأساوية المؤسفة هناك، بعد أن عاثت آلة الحرب المتوحشة فساداً وعدواناً، منسلخة تماماً من كل حسٍ إنساني أو انتماءٍ أخلاقي أو حتى ضميرٍ آدميّ. »

أسعد« ممن يخاطرون بحياتهم في سبيل إيمانهم بقدسية رسالتهم، فتجده بكل شجاعة وجرأة وحرفية يقتحم النقاط الساخنة، ويلتقط مشاهد الواقع كما هي، لينقلها للرأي العام كي يرى العالم الحقيقة ويشعر بتفاصيلها المصوّرة بكافة حواسه.

لكن المعاناة التفّت على المصور محمد أسعد من زاوية أخرى، حيث عاد فوجد منزله مدمّراً بالكامل في حي الشجاعية في غزة، أصبح البيت أثراً بعد عين! كانت كاميرته في يده كالعادة، فاستمرّت في أداء دورها في تصوير معاناة الشعب الفلسطيني، لكنها هذه المرة كانت تصوّر مأساة صاحبها!

هذا المصور الفلسطيني البطل أصبح بلا بيت ولا مأوى! شاهدتُ صورته وقد جلس حزيناً على أنقاض منزله وفي يده الكاميرا، كانت تلك الصورة من ذلك النوع الذي يصيبك بزلزالٍ داخلي يجتاح أعماقك.. هي مجرّد صورة لكنها حملت أطناناً من الوجع، أطناناً من الألم والقهر والظلم، وأيضاً أطناناً من الصلابة والقوة والجبروت الداخلي الذي يتحدّى الموت في كل لحظة..

الصورة تكشف كل شيء وتنقل كل شيء، ولا تجامل في الحقيقة، وترفض أن تتغيّر ألوانها وسماتها مهما كان.. الصورة في غزة سفيرة فوق العادة لملامح الوجع، الصورة ناقلٌ عصبي شديد الدقة والحساسية، تنقل لنا الشعور بلسعة الألم كما هو.

تحية بحجم الحرية والنضال للمصور محمد أسعد وزملائه وكل من يخاطر بحياته ليضعنا في وجع الصورة بكل تفاصيله.

 

فلاش:

عدسة الكاميرا.. كائنٌ حيّ.

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.