أتاح التصوير الفوتوغرافي للإنسان أن يحتفظ بالماضي، الأمر الذي لا تتيحه اللوحات التشكيلية أو نصوص الرحلات أو المذكرات. ومع التصوير الفوتوغرافي، ولا سيما في بداياته الأولى، صار في إمكان الإنسان أن يسافر إلى أي بلد في العالم من دون أن يحرك جسده من مكانه، بل يتنقل ببصره هنا وهناك. وآلة التصوير التي عُدّت من عجائب الاختراعات حين ظهورها هي، إلى حد كبير، آلة محايدة لأنها لا تستطيع الخداع، ولا تقبل، في الوقت نفسه، الحذف أو الإضافة، فما نراه أمام أعيننا هو الحقيقة.
ظهر التصوير الفوتوغرافي في أوروبا سنة 1839 على الأرجح، لكنه تأخر في الوصول إلى المشرق العربي، خلافاً لفلسطين، حتى أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر. وارتبط، منذ البداية، بالرحالة والمستكشفين والحجاج ورجال الدين الأوروبيين الذين كانوا يتقاطرون على الأراضي المقدسة، وظهرت في هذا الميدان أسماء مهمة جداً مثل بونفيس وجورج روبرتسون. وكان من أسباب تأخر وصول التصوير الفوتوغرافي إلى البلاد العربية التحريم الديني الذي كان يرفض الصورة تماماً. وكان معروفاً أن جواز سفر النساء، قبل الانتداب البريطاني، يخلو من الصورة، وكان مأمور النفوس يكتفي بذكر اسم المرأة واسم زوجها أو والدها إذا كانت عازبة. والتصوير، بهذا المعنى، هو أحد مظاهر الحداثة التي غمرت المدن العربية في أواخر الربع الأول من القرن العشرين (راجع: عصام نصار، لقطات مغايرة، رام الله: مؤسسة عبد المحسن القطان، 2005).

***

ظهرت أول مدرسة في العالم العربي لتعليم التصوير الضوئي (الشمسي) في القدس، وقد أسسها الأسقف يساي غرابيديان في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، وصار هذا الأسقف بطريركاً للأرمن في سنة 1865، وعلى يديه تتلمذ أهم مصوّرين في فلسطين هما كيفورك كريكوريان وخليل رعد. ويمكن القول إن أول مصور عربي في فلسطين كان خليل رعد، ثم كرّت سبحة المصورين، فاشتهر من بينهم لويس الصابونجي وداود الصابونجي وجورج الصابونجي وعيسى الصوابيني. وكما هو واضح، فإن حرفة التصوير ظلت مقصورة على الرجال إلى أن كسرت هذه القاعدة كريمة عبود. فمن هي كريمة عبود؟

***

ولدت كريمة عبود في بيت لحم في سنة 1894. والدها القس سعيد عبود راعي الكنيسة اللوثرية في بيت لحم، وهي تتحدر من عائلة ذات جذور لبنانية تعود إلى بلدة الخيام الجنوبية. وقد نزحت هذه العائلة إلى الناصرة في أواسط القرن التاسع عشر، ونشط بعض أفرادها في التبشير الإنجيلي.
تعلمت كريمة عبود حرفة التصوير لدى أحد المصورين الأرمن في القدس، وشرعت في ممارسة المهنة منذ عام 1913. وكان والدها أهداها آلة تصوير فتعلقت بها وراحت تلتقط الصور للمدن والأماكن الطبيعية والمعالم التاريخية، ولأبناء عائلتها والأصدقاء. ثم افتتحت استوديو لتصوير النساء في بيت لحم، وكان من شأن هذا الاستديو أن أتاح للعائلات المحافظة تصوير النساء بلا حرج. ثم أقدمت على افتتاح مشغل لتلوين الصور وإكسابها لمعاناً وبريقاً. وفي تلك الأثناء كانت تلتقط الصور المختلفة للمدن الفلسطينية الخمس: بيت لحم وطبرية والناصرة وحيفا وقيسارية (هناك أكثر من 400 صورة لكريمة عبود موجودة اليوم لدى أحد الاسرائيليين من جامعي المقتنيات القديمة). وانتشرت صورها بالتدريج في منازل العائلات المترفة في دمشق والسلط وبيروت والشويفات. وأمكن العثور على مجموعة ثانية لها تعود إلى سنة 1913، وهي تتألف من صور التقطت داخل الاستديو لنساء بأزيائهن الجميلة (أنظر: أحمد مروات، اكتشاف كريمة عبود، في «أوراق عائلية»، تحرير زكريا محمد، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2011).

***

هل يمكن اعتبار كريمة عبود أول مصورة في فلسطين؟ ربما. لكن لا بد من ان نتذكر نجلاء رعد أيضاً، وهي ابنة خليل رعد أول مصور عربي في فلسطين، التي تزوجت المصور يوهانس كريكوريان، وكانت تساعد زوجها في محترفه، ولعلها اكتسبت المهنة من والدها أولاً ثم طورتها على يدي زوجها. وبين نجلاء خليل رعد وكريمة عبود ربما نعثر على برهان متين عمن كانت المجلية في هذا المضمار.