نذير نبعة يعرض استعادياً تجربته الفنية في صالة تجليات

صبايا الرمان يراقصن اللون والروح


«الفن تجريد استخلصه من الطبيعة بالتأمل فيها وأمعن التفكير جيداً بالخلق الناجم عن ذلك»، غوغان. وهكذا الفن لدى نذير نبعة استخلاص من الإنسان بالتأمل فيه وفيه. ثم يمعن أن يكون الناتج برحمة الجميل، بعد التغلغل بروحه وروحه كثيراً. أما كيف فهمت مقولة غوغان هذه، فإنه من خلال تأمله في الطبيعة نفذ إلى أغوار فيها، إلى أعمق من رؤية سطوح الأشياء، فأخذ من تلك الطبيعيات كنهها، ثم عاد ففكر بما أبدع تفكير عميقاً، ليكتشف ما مازج هذا الكنه من تلك الطبيعة حينما اتحد بعينيه من أثر في قلبه، والأثر قد يكون عن فعل الرسم أو الطبيعة فيه وفي الرسم، هكذا يأتي تفسير المعنى بالنسبة إليّ.

لكن نبعة يتجاوز هذا، فهو يتأمل في هذه الطبيعة كثيراً وكل ما يصادفه فيها ويقع في قلبه أو كان واقعاً به يغدو طبيعة أكثر مع محبته من خلال التعلق فيه، من الرمان إلى الجوري والناي وتفاح الأثداء إلى أصوات النسمات، كل هذا بمفرده يكون طبيعة ويُحول إلى فعل تأمل وله خلق إبداعي ناتج عنه يدفع إلى التأمل من جديد، بالنسبة للآخر فهذه الكلمات صدى لهذا التأمل الذي وجدت نفسي في رحابته، وأنا أتحدث عن تأمل ينبثق من المادي، ليغل بما هو أعمق من هذا، ليس كتجريد للأشياء عن الطبيعة، بل تحريك الخيال بهذه الأشياء في فضاء اللوحة، لتقود إلى فعل التأمل والجمال بعد هذا، وإن كنت تحدثت عن إيقاعات مادية الأشياء المتحركة في فضاء من جاذبية ولا جاذبية الوعي، إلا أني لم أدخل بعد في عتاقتها وتمازجاتها الحسية والانفعالية النفسية والإرثية والتاريخية العمقية إضافة لهذا البعد المادي المقشور السطح إلى دواخل العمق والرحابة، وحتى هنا فلا زلت في الجانب المادي من العمل بكل خصوصياته لكن الأمر يختلف لو دخلنا إلى الأبعاد المجردة فعلاً عندها سنكون بمواجهة إشراقات التأمل وجهاً لوجه أو روحاً لروح، هنا أفضل الصمت، هذا الصمت السكوني أمام تجليات.

«اكتشف سورية» التقى الفنان التشكيلي نذير نبعة في حوار يأخذنا بعيداً وطويلاً في فضاءات تجربته وروحه وجماليات عوالمه.

من أعمال الفنان نذير نبعة

رمزت الرمانة عند الرومان لربة الخصب أناهيتا لكنها ترمز عند الصينيين إلى الخصب والذرية وكذلك عند الزرادشتيين، وإضافة لهذا فهي ترمز إلى فكرة الموت والبعث، وفي الأيقونة المسيحية رمزت إلى الإحسان وهي تعني المعرفة لو كانت مفتوحة. نذير نبعة يكثر من رسم هذه المفردة الجمالية والرمزية في آن فهل يخبرنا أسرارها؟

الرمان كمفردة أستعملها موجودة في الموروث السوري، يقال: طاسة طرنطاسة بالبحر غطاسة جواتا لولو وبراتا نحاسة، وهي الرمانة، وأنا أعتبر الرمان رمزاً للشرق فهو فقير من الخارج و غني من الداخل، وهو كالبيت الشامي من الخارج طين وتبن لكنك ما إن تدخل إلى الداخل حتى تجده جنة، فأنا عشت في بستان وكنت أرى الرمانة عبر مراحلها من الزهرة وحتى النضوج بما في ذلك تلونها من الخارج والداخل، وحتى الحروق البنية التي تصيبها بها الشمس أو التشققات اللاحقة وحتى تذوق طعومها، وهي ليست الرمانة التي أخذناها بالمراسم كطبيعة صامتة في الأكاديميات، فهي ليست مجرد طبيعة صامتة بل تذكرني بالأغاني الزجلية السورية والغزل الذي حظي به الرمان، إذ يندر أن يوجد مغني لم يتغن بالرمان، وهذه الأشياء تبقى أقرب إلي ّمن كل الثقافة التي حصلتها لاحقاً، فكل خبرتي عن جماليات الرمان كانت في مراحل تشكل الوعي وقبل ذلك من مراحل الطفولة، وهذا ما يجعلني أعجز عن تعريفه، إذ إن مجموع هذه التأثيرات التي تغلغلت فيّ ارتبطت بالكثير من الخبرات الجميلة، وهكذا أفسر الأمر، أما ما حصلته لاحقا من معرفة فهو إضافة تخدمني في توظيف هذا الرمز.

من أعمال الفنان التشكيلي نذير نبعة

التفاحة أيضاً ترمز في الغرب إلى الإغراء والموت أو إلى الأمل بالتجدد والسلام لو وضعت على شجرة الميلاد مثلاً، وقد تكون رمزاً للكون والكمال، وهي بالتحليل النفسي رمزاً لثدي المرأة، كيف يوظف الفنان نذير نبعة هذا الرمز الذي يتكرر كثيرا في لوحاته؟

أعيد أن طفولتي تشكلت في بستان يحتوي الكثير من الأشجار ومنها التفاح، والتفاحة تتمتع بشكل مميز وخاص يقترب من الدائرة وكل ما ذكرته من معاني ينتمي لهذه التفاحة، وفي أسطورة الخطيئة يقال أن حواء خبأت التفاحة في صدرها! وهذا يرمز لثدي المرأة وإذ تنظر إلى سطح التفاحة ستجد الكثير من الخطوط والنقاط والتلاوين بحيث تبدو شهية وجميلة، التفاحة مبهجة بصريا وهذا الشكل يشدني منذ كنت طفلاً حتى أصبح عنصراً تشكيلياً، والمسألة هنا ليست قراراً، لأنها تشكل توافقاً مع مرجعية خبرات الطفولة الأولى، ثم يأتي الوعي والثقافة لتعزيز هذا المفهوم، فكل فنان ينشد عناصر معينة في الطبيعة يستطيع أن يبدع فيها، فالوجوه الموجودة في لوحاتي هي وجوه خيالية إلا أن الكثيرين يطلقون تشابيه عليها تعود إلى الواقع، وهي كهذه الوجوه تأتي من الخيال لتمنح اللوحة إيقاعات من الجمال وانعكاسات لرمزية المفاهيم.

تحتل القوقعة مكانة هامة في لوحتك وهي كرمز تختصر الحياة والموت، وكذلك ترمز لولادة فينوس عند الإغريق والرومان، ويجسدها بهذا المعنى بوتشيلي في إحدى لوحاته، إنها أيضاً رمز للحظ الجيد والخصوبة وللمرأة والجنس، كيف يرى نبعة القوقعة؟

من أعمال الأستاذ نذير نبعة

تعود علاقتي الشخصية بالقوقعة إلى أن أمي كانت تمتلك إحدى هذه القواقع وكنت أراها قرب المصحف في البيت عندما كنت صغيراً وهذا المخلوق الأملس الملون بألوان تشابه ألوان الشفق لها الكثير من الشاعرية الهامسة وهذا الشكل واللون كان يشدني، ولو سألتني لماذا؟ لا أعرف فهو يعود لمرحلة قبل الوعي. أما لاحقاً فكنت أشاهد هذه القواقع يحملنها الغجريات ليكشفن من خلالها الودع (التنجيم) ومن خلال رمي مجموعة القواقع على الأرض تقوم الصدفة بتوزيع شكل القواقع وكن يخبرن الأشخاص عن المستور أو يطلعونهم على الأسرار أو على ما يضمره الغيب لهم، ويجبن على ذاك التساؤل الذي لم يطرحونه، وكشف هذه الأسرار لطفل يحمل الكثير من التساؤلات ويكتنفه الغموض والتعجب! بعد ذلك تتعرف على القواقع من خلال الدراسة وتطلع على خصوصياتها ورمزيتها وتطلع على سبيل المثال على كيفية استخراج الأرجوان عند الفينيقيين من القواقع البحرية..

..يهمني هنا بمناسبة طرحك للأرجوان، السؤال إن كنت استخدمته في لوحاتك فأنا بالكاد ألحظه؟

من لوحات الدمشقيات
للفنان التشكيلي نذير نبعة

اللون الأرجواني لدي موجود في التجليات وهو موجود أيضاً في لوحات الدمشقيات، لكن لم يتبقَ لديّ أي من هذه اللوحات الآن، لقد رسمت الكثير من اللوحات التي تحتوي هذا اللون مستنداً إلى مرجعيته، هذا إضافة إلى أن هذا اللون جميل. وبالعودة إلى القواقع أذكر أني ذهبت إلى بورسعيد فالساحل هناك مغطى بالقواقع بدلاً من الرمل، هذا مشهد سريالي ويشبه الحلم ولا تستطيع إلا أن تلتقط بعضاً من هذه القواقع، ولا تشعر إلا وقد جمعت الكثير، وهذا ما فعلته إذ جمعت حقيبة منها. القوقعة بالنسبة إلى هذا الغموض الموجود بشكلها تشبه الغموض الموجود بالأنثى، فالمرأة باستمرار مخلوق لا يمكن اكتشافه، فهي لا تظهر كل ما لديها، وهي تمتلك على الدوام مزيداً من الأسرار! والقوقعة كذلك، إذ يكون اللؤلؤ في داخلها، والحصول عليه عملية تكتنفها صعوبات مميتة. هذا من الناحية المادية أو الشكل، أما المجهول فهو في الداخل، هذا المخلوق أو المفاجأة الساكنة في الداخل، فأنا أقرنها باستمرار بالأنثى وبالكنوز الموجودة فيها. عندما أضع المجوهرات عليها لا أقصد أنها مجوهرات تزيينية بل هذا المعدن على جسدها يحدث بصرياً تفاعلاً حسياً وانفعالاً خاصاً، وهذا ما أرمي إليه من ذلك.

هنا أحب أن أسألك، من خلال تعاملك مع القواقع في لوحاتك، هل أخذ هذا المفهوم شكلاً تصاعدياً من تطور الرمز وأشكال توضعاته على سطوح اللوحات؟

من أعمال التشكيلي السوري
نذير نبعة

نعم بالتأكيد، المفهوم يتطور فأنت تتذكر على سبيل المثال أنهم يقولون: لو وضعت القوقعة على أذنك فأنت تسمع صوت الهواء أو موج البحر، وهنا لا بد وأن يتداعى إلى ذهنك علاقتها بالماء، وكطفل ستعتقد أن البحر موجود في الداخل، وهذا يشكل عالماً من السحر والانجذاب إليها وليس لشكلها وحسب، لكنك عندما تقرأ عن رمز القوقعة ستعرف أنها رمز الماء، وهنا تتجاوز القوقعة معناها الخاص المحلي ليكون رمزاً عالمياً. وإذ تسألني لماذا أرجع هذه الأشياء إلى طفولتي وإلى بحري، رغم أن هذه الأشياء موجودة في كل مكان، لكني أصر على بحري أنا، هذا البحر السوري أكثر إيحاءً من كل البحور! أنا أنشد إلى قضاياي وصولاً إلى قضية فلسطين. أنا اهتم بقضايا فيتنام بالمعنى الإنساني ولدي هذا البعد، لكني ما يرتبط بي ويكون قريباً مني، أحبه أكثر، فالذي لا يحب نفسه لا يمكن أن يحب العالم.

لأنهي موضوع القواقع أحب أن استفسر عن إحدى لوحاتك والتي تعود إلى مشروع تخرجك في القاهرة، أرى فيها القواقع واستغرب وجودها في لوحة لأحد العمال في الوقت الذي أشاهدها في لوحات تتصل بالمرأة وبمعان جمالية أخرى، هنا أنا اسأل عن اختلاف التوظيف؟

المقالع كانت بداية مسيرتي التشكيلية في ذاك التاريخ، والمشاريع كانت ذات مواضيع بسيطة وكان ينظر إليها نظرة تبسيطية سياحية، سادت فيها المواضيع الاجتماعية والسياسية (فترة الستينات)، وكان أغلب الفنانين العرب في تلك الفترة في حالة بحث عن الذات، بمعنى أن كل المناهج التي كنا ندرسها كانت مترجمة عن الأكاديميات الغربية، وكان علينا أن نرى جمالياتنا بعيوننا نحن، ونتجه إلى تراثنا القديم، الفينيقي، السومري، الآشوري، الفرعوني، وذلك من الستينات، وتلاحظ أن التشخيص الموجود في اللوحات من تلك المرحلة، مأخوذ من الرليفات (النقوش النافرة) السومرية والتدمرية، باعتبار أن مرجعياتنا بالرسم تعود إلى تلك الفترات من تاريخ الأجداد، وهذه من جهة تعتبر واحدة من جمالياتنا، قبل ذلك، كنا نستلهم جماليات لوحات عصر النهضة والرومانتيكية والواقعية، ونستوحي من تلك التراكمات الثقافية الغربية، هذه التجربة دفعتها ظروف قدماً، لكن أخرى أحبطتها، وخصوصاً فترة النكسة وما انعكس على مفكري وفناني الأمة من إحباط، أعتقد أنه عندما يحدث انكسار أو هزيمة في حياة الأمة يتجه مفكروها إلى مهاجمة أنفسهم وتقريع ذواتهم، في تلك الفترة نفذت عدداً من اللوحات عن النابالم الذي استخدمته إسرائيل، وعن الفدائي باعتباره الوحيد الذي كان يقاوم إسرائيل بعد انهزام الجيوش العربية. وبالعودة إلى السؤال، تعود بداية عرض القواقع إلى عرضي الأول في صالة الفن الحديث في سورية، والمعرض كان بأغلبه عن أساطير الفرات، وأساطير كنت استوحيتها من قراءاتي، ومنها أسطورة سيزيف التي تجسد عناء الإنسان وتحديه، وقد دمجت سيزيف الأسطوري بهذا الحديث، أي الإنسان العربي وجسدته في إحدى اللوحات، أي أن القواقع أتت من الأساطير وخصوصاً الفراتية منها (إنليل، ننليل، كاهنة مردوخ)، وهذه القواقع مرتبطة بالماء والمرأة كفينوس وعشتار التي وُلدت أمها من رغوة ماء الفرات، أي أن الأسطورة التي رسمتُها هي أسطورة تخصنا..

ربة الموسيقى
للفنان التشكيلي نذير نبعة

..ألهذا تظهر عشتار في لوحتك سمراء بدوية؟

المسيح لدى الإفريقيين أسود، وكل ثقافة رموزها تشبهها.

هنا أحب أن أسألك لتجيب بطريقة التداعي الحر وباختصار عن هذه الرموز الموجودة في لوحاتك؟

أشجار الغرب: هي أشجار أدهشتني أول الأمر في فصل الربيع، لما فيها من قوة الخصوبة.

السمكة: هي رمز الشر في إحدى لوحاتي، وهي رمز الخير، وهي رمز جنسي، إضافة لأن شكل السمكة الجميل بصرياً، هو الأهم عندي.

الناي: رمز لوحدة الماء والنبات والهواء، وهذه الوحدة تخلق الموسيقى، وهو رمز –كشكل- لحرف الألف!

الصلب: ليس الآتي فقط من صلب المسيح، بل يصل إلى كل المناضلين، الذين حاولوا أن يقدموا فكراً متنوراً.

القنديل: هو رمز النار والنور، كنا نشعل النار منه ونستضيء به، رافقني بمراحل دراستي.

ثدي المرأة يظهر في لوحاتك وحتى الشرقي منها! هنا محظور إرثي بمقابل متاح تشكيلي، كيف استطاع نبعة أن يوفق بينهما، دون الوقوع في توصيف اللوحة بالاستشراقية؟

من أعمال نذير نبعة

الله خلق الإنسان من دون ثياب، ثم يعود ويقف في يوم الحشر بدونها أيضاً. الإنسان عندما أخطأ وضع على نفسه الثياب، وهذه الإجابة أقولها دائماً، عندما اُسأل عن هذا الموضوع. أنا أعود إلى الطفولة الأولى فأول ما يتحسسه الطفل ثم يراه هو ثدي المرأة، وهذا كله قبل الوعي. هذا الشكل (الثدي) بالمقارنة مع صيرورة التطور بالنسبة للرجل يكون مختلفاً (فيزيولوجياً)، وهذا محرض قوي كشكل بالنسبة للرسام، ولاحقاً تضيف الثقافة مع تطور الوعي، فتعرفه أكثر كرمز عند الأقوام والثقافات، بالتأكيد هو شيء مقدس، لدرجة أني رسمت الثدي كموضوع مستقل. أما العاري لدي فلا يوحي أبداً بأنه فاضح بقدر ما يوحي بالخصب والجمال والحياة، أذكر هنا أنه في معرضي في المركز الثقافي العربي سنة 1979، جاءت سيدة ورفعت المنديل عن وجهها أمام إحدى اللوحات العارية، ثم سألتني أليست هذه أمنا حواء يا بني؟ فقلت لها نعم، وهذا التوصيف من أفضل التوصيفات وهو تماما ما أريده، هذه اللوحة كانت عن وادي الربوة، والعاري كان إضافة مركبة، لأعبر عن شدة حبي وتعلقي بهذا الوادي. أما الاستشراق أو المستشرقون، فقدموا عن الشرق المفهوم العاري الحسي كما يفهمونه هم، وهذا غير المفهوم لدينا..

..كأني أفهم أنك ترد على اللوحة الاستشراقية بمفهوم مختلف؟

في الفن الشعبي، العاري المسموح هو آدم وحواء، وإذا اعتبر العاري عيباً، فقد كان هذا العاري في الكثير من البيوت، العري بالمفهوم الشرقي ليس ذاته بالمفهوم الاستشراقي، فالقاموس اللغوي لكل معاني الحب والجنس والعري مختلف في الثقافتين، أما من يرى في لوحتي بعداً استشراقياً فهو مع الاسف أعمى.

لوحتك تمنح العين القدرة على التفكير والحلم، وهي تأخذ منك الكثير من الوقت، فحتى إنجاز اللوحة، بماذا تكون تفكر؟

إن اللوحة الموجودة في الخيال هي أجمل من أي لوحة، لأنها ليست ثابتة بل متحركة بشكل دائم، شكلاً ولوناً، ولو كان الرسام يكتفي بهذا المتحرك في الخيال لما رسم اللوحة، فهو يرسم ليتواصل مع الآخر عبر لوحته التي يحققها على القماش، ويحاوره، وهذا يعني أنه يحب الآخر، وهذا الآخر هو الإنسان، وهذه المحبة تفرض على الفنان أن يحب لوحته لتصل هذه المحبة إلى الآخر، المسألة تتجاوز التفكير لأنه مع تدخل العقل أفقد اللوحة! عندما يتدخل العقل في اللوحة ويكون له الدور الأول تصبح باردة، المسألة مختلطة بما نحمله من مشاعر المحبة للآخر بدءاً بمحبة الأنثى وانتهاءً بالتواصل مع الآخر. معنى المعرض هو التواصل مع الآخر، فالمعرض ينبغي أن يحمل جديداً لأتحاور به مع الآخر، فالمشهد الجميل وحده لا يكفي، ولهذا تكون الفترات بعيدة بين معارضي.

مارست الفن كرسم وتصوير وأرشفت مشهديات شرقية ودمشقية كثيرة، بحساسيات بلغت الأعماق الروحية لهذا التراث ونحن ندين لك بهذه التسجيلية الحلمية التعبيرية، بعد كل هذا التاريخ من العمل والعطاء على الموضوع التراثي والأسطوري التراثي، هل ُتعتبر «تجليات» تسجيلاً لعوالمك الداخلية بكل ما تحتويه من تقشفات وجماليات، من رهبنة وثراء؟

من دمشقيات
نذير نبعة

ما تقوله مقاربة جيدة وهذا طبيعي فالإنسان يمر بفترات نمو مختلفة من الطفولة إلى الكهولة، وبالتالي الإنسان ليس ذاته بكل منها بل بتلك الإضافات من الخبرات والمعارف، في الجانب التشكيلي تنمو هذه الخبرات وتتطور وكذلك الاهتمامات. «تجليات» هي مشهد واقعي من الحياة ولكنه يتحول في لوحتي إلى مشهد تأملي، ولكنها ليست «كرت بوستال» لهذا الواقع بحيث تستطيع القول مثلاً هذه صورة لتدمر أومعلولا أو غابة خريف أو غير ذلك. هذا الميل للمشهد التأملي بدأ منذ 1964 -عندما كنت أدرس في دير الزور- من رحلات الصيد مع بعض الأصدقاء، وكنت أرافقهم فقط حيث كنت أشاهد الجبال التي كانت صخورها تتمتع بمنظر غاية في الجمال حتى أني كنت اطلب كاميرا لأصور هذه الصخور، وتستطيع القول أن أول إنتاجي بهذا الاتجاه يعود إلى أوائل الثمانينات، ولم أكن انتهيت بعد من مرحلة الدمشقيات حتى أن هذه الأجواء موجودة في خلفيات بعض اللوحات من تلك الفترة.

في تجربتي الأخيرة «تجليات»، حذفت موضوعي الشخصي، مكتفياً مهنياً وتقنياً بذات أدواتي من لون وملمس لأرضية اللوحة من حيث الخشونة أو النعومة ، النافر أو الغائر، واستثنيت الأشكال حتى الأشكال الهندسية أو النباتية منها، والهدف أن أدعو الآخر إلى لوحتي ليرى موضوعه هو، عاطفتي تدفعني لأحتضن الآخر في لوحتي ليرى فيها ما يحب، فقد يرى فيها غابة أو صخراً ملوناً أو غروباً، هذا يغني اللوحة. يقولون عن الجوكندة أنها لوحة جميلة لكن ما كتب عنها والتفسيرات العديدة لها يجعلها أجمل، تلك النصوص الموازية تمنحها آفاقاً من الجماليات، وعندما يرون في لوحاتي (تجليات) أكثر من موضوع فهذا إغناء للوحة.

في عرضي (تجليات) في صالة أتاسي (عام 2003)، قدمت المعرض ببيان يعتبر مدخلاً لقراءة العرض، وهو عبارة عن قصيدة أخاطب الآخر في بعض منها:

«أدعوك لترسم في لوحتي لوحتك
أدعوك لترسم في فرحي غضبك
أدعوك لترسم في منظري.. وجهك
لأن هناك نافذة أخرى للرؤية..»

نصك التشكيلي البصري يشبه كثيراً خصوصيتك، أأستطيع تسميته نصاً تجريدياً؟

لا، أعتقد أني أقدم مشهداً واقعياً تأملياً، لأنني لا ألجأ إلى الأشكال التي قدمها التجريديون.

من «معلولا» إلى «المدن المحروقة» لوحات فيها ذات الإيقاعات الملمسية والخصوبات اللونية الحسية والروحية المتقشفة، وبالوصول إلى «تجليات» نكاد لا نلمس فرقاً كبيراً من حيث التقنية أو العجائن اللونية، أأخلص إلى أنك تصير جزءاً من هذه العجائن؟

سأقرأ لك جزءاً ثانياً من قصيدة «تجليات»:

«يتخذ سطح اللوحة مسرحاً للوجود
ملعباً لسيولة المادة تحت سطح سكين الرسم
أرضاً خصبة للأشكال تنمو وتتوالد تحت ضغط الحد وحنان الأصابع
ورحمة العاطفة
يولد من نزق الانفعال، وحماقة الغضب
وفعل الغرائز، ورقص الفرح
وشطحات البصيرة..
الفرح يصبح لوناً معربداً في النافر
ويمسي الانكسار غارقاً في ظلال الغائر
الموضوع بعد الثبات والموت
يهب حياً متجولاً حراً.. مليئاً بالاحتمالات
…».

المدن المحروقة هي بغداد، بيروت، قانا، جنين، غزة، ولو أني أرسم بغداد بالشكل التقليدي للحرائق والدمار، أو كيف ُحرق المسجد الأقصى، لكانت الكاميرا أفضل من الرسم، بهذه الطريقة من الرسم، الاحتمالات لا نهائية المهم لديّ توالد الأسئلة ومشاركة الآخر في طرحها والإجابة عليها، نستطيع القول أنه تنزيه عن الشيء الواقعي، فعندما كانت بغداد تحترق، أكان يجب أن نعبر عن ذلك، بأن نرسم مدينة يخرج منها اللهب؟! المسألة تتجاوز هذا، كنا نشعر بالعجز عن فعل شيء وما كان يحدث في الصدر هو نوع من الحرقة أو الاحتراق، بحيث يشعر الإنسان أن الدخان يخرج مع أنفاسه، ويكون التعبير مختلطاً بما تحدثه السكين على سطوح اللوحة من إحساسات غائرة أو نافرة، وبهذا اللون الممزوج بالمشاعر، هكذا يتم الأمر..

..تستوقفني هنا كلمة «تنزيه» وأحب أن استبدلها بكلمة «تجريد» الذي يعني نزع القشرة عن الشيء والدخول إلى قلبه، وهذه مقاربة صوفية، لكن ابن سينا هو الأدق هنا ويتفق مع طرحك، إذ يعتبر التجريد هو تجريد للمادة من بعض لواحقها،
وهو ما فعلته أنت بالصخور إذ أبقيت الملمس وسطح الشكل، ثم تركت الخيال ليرتفع بهذه الصورة إلى مصاف التأمل، هل توافقني في هذه الرؤية؟

كلمة تنزيه هنا أتت لتكون مختلفة عن المصطلح الغربي «abstract» (التجريد)، إذ يخلط الناس في هذا المفهوم ويرون التجريد فقط فيما قدمه الغربيون، وهذا يتجذر في الثقافة اليومية عند الكثيرين، ولهذا استخدمت كلمة تنزيه لأنها أقرب إلى قاموسنا، ولتشكل اختلافاً عن كلمة تجريد بالمعنى المتداول.

أرى في عملك (تجليات) ارتقاءً شخصياً وروحياً، ولكنه (أفقياً) يتخذ معنى أرضياً وإنسانياً، وهو قريب منا كفاية لنشعره في أرواحنا، وأنت هنا ربما مختلف عن المتصوفة ومن يشبههم في أشكال التجلي العمودي أي مع السماء والنور، إلا أنك تحدث أثراً مشابهاً! ففي الوقت الذي تستدعي الآخر إليك، أنت تستدعي المكان أيضاً، وكأنها دعوة لأن نكون أكثر تواضعاً على هذه الأرض؟!

من شاء سما وتوحد، ومن شاء كبا وتبدد! وهنا كبا ليست بمعناها السلبي، وهكذا تبدد. كبا هنا بقرار وبإرادة ورغبة بمعنى الموت في هذا التراب والبعث من جديد، هي عودة إلى الجذور والانطلاق منها، هنا الرؤية متسعة ولكن العبارة تضيق. إن أول ما يلعب به الأطفال هو التراب والطين، هو أول الأبجدية والوعي، وبعد أن رحلت بعيداً لا بد من العودة إلى ترابي وطيني الأول، أنا يهمني أن يعرفني قومي قبل أن يعرفني الآخرون، إحساسي يوم افتتاح المعرض بأن الناس كانت تحضنني ، لا يقابل بكنوز، ذلك لأني بينهم. أنا لا أجد نفسي بالخارج، أنا هنا، أنا اعتبر الفينيقيين والسومريين والآشوريين والفراعنة أجدادي، أنا ابن لهؤلاء.

أراك تأخذ من الفراعنة قوة الشكل وثباته، كما تأخذ من الفينيقيين لطف الشكل وجمالياته وترحالاته، فنرى من فترة السبعينيات بروز ملامح النحت في تشكيلك، لكن الحركة والأمواج وخصوصاً في الشعر والحرائر تجعلني أراك في الجانب الفينيقي السوري وكأنك مسكون بتلك هذه الروح الفرعونية والسورية، كيف لي أن أفسر هذا الإصرار على استحضارها في لوحتك؟

جاء الرومان إلى سورية واحتلوها عسكرياً، لكن تدمر بقيت سوريّة ولم تصبح رومانية، وكذلك الفن فيها بقي سورياً ولم يصنعه الرومان، وهذا ما حصل في مصر، إلا أنهم ذابوا في الحضارة الفرعونية ولم يؤثروا في الحضارة القائمة ولم يحدث فن روماني ولا بجزء من الجوهر، صحيح أنهم كانوا أقوى عسكرياً، لكن ثقافتهم ليست أقوى من الثقافتين الفرعونية والسورية، ولذلك لم يكن لهم هذا التأثير على الفن، حتى أنني أعتقد أن ثقافتهم في جزء كبير منها أتت من عندنا، فأوروبا إبنة قدموس وخرجت من صيدا على ظهر بوزيدون، ومن هنا جاء اسم أوروبا القارة حسب الأسطورة.

في نقاشاتي مع بعض الفنانين نختلف على تحديد ما إذا كان هناك فن سوري، وأكثرهم يرجع بداية الفن في سورية إلى الرواد أو إلى الخمسينيات أو ما قبل ذلك بقليل، إلا أني أرى أن أمة تعود في عمرها لأكثر من عشرة آلاف عام من الحضارة يجعلها متجذرة فينا إرثاً ذاكرياً جمعياً، هذا إضافة للكثير من الروليفات واللوحات الفسيفسائية وحتى النقوش والرسوم على الأواني التي تعود إلى الحضارة الفينيقية المكتشفة، ومن الطبيعي لمن لديه كل هذا، أن يكون لديه إرث فني بأي شكل من الأشكال، سواء كان بصرياً خيالياً أو بصرياً مادياً، وإن كانت الوسائل التعبيرية عبر اللوحة المحمولة جاءت متأخرة بعض الشيء، إلا أن هذا لا ينفي برأيي أن يكون لدينا فن سوري، وعلى الفنان أن يعود لجذوره ليعيد استخراجها بلغة بصرية تواكب الأشكال التعبيرية الحديثة، مع الحفاظ على خصوصية الهوية، ماذا يقول نبعة في هذا الشأن؟

خولة بنت الأزور
لنذير نبعة

لدينا فن سوري بالتأكيد، فنحن قدمنا للعالم حضارة عظيمة، نحن هنا نتكلم عن أجدادنا، أما إذا كنا نتحدث عن الحاضر فأمامنا الكثير من العمل لنقول أن هذا الإنتاج الفني عندما يصل إلى العالم يستطيع أن يراه العالم على أنه يحمل الطابع أو الهوية السورية، كما يقال مثلاً: هذا فن هندي أو صيني. لماذا يجب أن يقال هذه لوحة سورية؟ لأن فيها ملامح خاصة، أيّاً كانت اللوحة واقعية أو تعبيرية أو تجريدية، تميزها عن أية لوحة تنتمي لحضارة مختلفة، هذا لم نقدر أن نفعله بعد، بسبب الكثير من الظروف السياسية، وإن كنا بدأنا بذلك مرحلة الستينيات ثم توقفنا لذات الأسباب السياسية، نحن توقفنا عند جماليات الشعارات، الآن يجب أن نعود لنعي ذاك المشروع كي نستأنفه من جديد، هذا كان هم الفنانين من المشرق إلى المغرب..

..هل نملك برأيك مقومات فن سوري يحمل عناصر التشكيل البصري؟

بالتأكيد، لكن المناخ هو ما نحن بحاجة إليه، كما أن النبات بحاجة لمناخ وشروط لينمو، والفن بحاجة لمناخات من الحريات المختلفة لينمو، وهكذا الإبداع بكل صورة.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.