أسامة السلوادي عينٌ على الوطن ويدٌ تحتضن الكاميرا

كاميرا السلوادي تروي حكايات صديقها

إعداد: نور سلاطنة وفرح الكيلاني

 خاص / عرب فوتو

وما أن تطأ قدماك على عتبة مكتبه، حتى تدخل الى عوالم تلك الصور المعلقة على جدران المكان، تتوقف قليلا ًعند ذاك الطفل المعلق بصره بين السماء ويداه تبتهل بالدعاء، وتجاعيد يد عجوز تجلس على احدى عتبات أسواق القدس القديمة، وللكعك والتين والزيتون حكاية شغف تسرقك من مكانك، تُحلق بك الى حدائق الفردوس لروعة ألوان صورها، ارتداد الحكايات وتفاصيلها يأسرك لدرجة تشعر نفسك أبكم، عاجز عن تحريك جسدك من المكان، وللنجاح بصمة خاصة داخل المكتب، وما أن تدور رأسك حتى تتلعثم بقدر لا يُستهان به من دروع الشرف والتقدير التي تنُم عن انجازاته، لتبقى عيونك محدقة وفمك مفتوح .

بطل الحكاية، رجل احترف التوقف عند  محطات كثيرة في الحياة وخلدها، يجلس خلف مكتبه الخشبي على كرسيه المتحرك، كرسي اطلقه الى عنان السماء، ضخ في عروقه أمل يبعث به من جديد للحياة، وعلى الرغم من ملازمته له، فلم يشكل ذاك العائق الذي يحول بين الذات والطموح بالوصول لما تصبو له نفسه، فلم ينجح كرسيه أن يجعله مكبل الحركة والجسد، بصدر رحب يستقبلك وبتواضع جم يحتويك بأفكاره، يأسرك بحديثه وهو قادر أن يُنسيك صوت عقارب الساعة ويوقف بك الزمن لتبقى داخل بوتقة كلماته، انه أسامة السلوادي .

ترعرع أسامة في قرية سلواد شمال القدس ليعيش طفولة قروية مفعمة بالبساطة، أكل من عناقيد عنبها، وليمون أراضيها، لعب بحاراتها وبين أزقة بيوتها، و نقش على جدرانها كأي طفل يعشق اللهو، مرات عديدة وقع على أرضها لكن سرعان ما أجاد النهوض، ليتحد مع أشعة الشمس وهواء الطبيعة للبقاء بقوة على هذه الأرض، لم يتسنى لأحد ان يلتقط له مشاهده هذه، لكن أسامة كبُر وأتقن جيداً كيف يخلد لغيره أبسط اللحظات.

يعبر أسامة ببسمة عفوية ” حكايتي مع التصويرأزلية، رافقتني ببساطة الطفولة، وجدية الشباب، وحكمة الرجل المتزن، أصبحت علاقتي انا والكاميرا تكاملية، لا مناص لاحدانا الفرار من الاخر”، فللصورة رسالة وطنية تولج في أعماق من يراها لتوقظ الحس الدفين نحوها، وفيها ملمس الجمال والرقي ببراعة اللون والمسقط، فالصورة روح حرة في فضائها البلوري الرحب، تحملك الى البعيد حيث لم يخطر ببالك التوقف عند أبسط اللحظات .

وللحكاية بداية ..

ينكمش بجسده الصغير تحت فراشه، يسترق النظر الى نافذة غرفته، ينتظر حبل شعاع الشمس أن يرتطم بجبينه، ليرتدي ثيابه ويرافق والده الى الأرض، عشقه للأرض والطبيعة أزلي، نقش داخله شريط ذكريات كثيرة تراها في بريق عينيه وتمتمة شفتاه، يُسهب كثيراً بكلماته عن طفولته ويوجزها بصورة لا زالت عالقة في ذهنه ” كنت كعصفور شقي يُحلق من عش لاخر، أنقل القمح من الحقل الى البيدر، فجسدي الصغير ساعدني كثيراً ولا سيما عند ملاحقتي للطيور واصطيادي لها ولأعشاشها” .

وأحيانا كثيرة كان يشرد ذهنه ليسمح  لبؤبؤ عينيه التجول حول أرجاء الأرض، بتقلبات ألوانها الخضراء والصفراء، طفل السابعة أتقن جيدا أن لا يمر مرور الكرام عند أية لوحة طبيعية وقع بصره عليها، فكل يُعبر على ليلاه، ذاك شاعر يتغنى بالطبيعة وتلك أديبة تُسرد القصص وتطيل الوصف بالشجر والطير وعنفوان الجبال، أما أسامة ترجم هذا الابداع بع

جميل أن تشعر بان هناك على الأرض اماكن تدلل على مرورك منها، لأسامة حكايات تُكتب ولوحات تُرسم في سلواد، جاب شوارعها، حاكى طبيعتها، ونسج فيها أحلامه، فمن يستمع لتفاصيله ويجهد نفسه باغلاق عينيه، سيرى الطفل الصغير يبيع الحمص والصبر والحلويات، ولو اجهدت نفسك أكثر وبقيت على تواصل بالسمع لما يوصفه، سيأخذك الى رائحة حبات الفلافل وبساطة العربة التي يقف خلفها أسامة عندما كان في مرحلة التوجيهي، فغياب الوالد عنه وهو في عمر العاشرة لم يُبتر حبل الحُلم داخله .

أكمل نهجه بالاعتناء لما تتخبط به نفسه حول روعة اللقطات والصور، بدأ اخر عنقود عائلته بتجميع الصور القديمة الموجودة في الألبومات ذات الغلاف البني والأحمر أحياناً في وقتها، وأجاد اصطياد أي صورة تقع بين يديه ليحتفظ  بها على طريقته الخاصة، يصمت قليلاً أسامة ” أعشق الطبيعة بألوانها الساحرة، وحتى الداكن منها، يوجد بها تناقضات جمى تسمو بعينيك لتجعلك سيد اللحظة وتستشعر مزيجها” .

بدأ اسامة في عمر 16 بتطويع هوايته الخداج ولحسن حظه كان بحوزة ابن عمه القادم من بلاد الانفتاح ومنبر الحرية أمريكا، كاميرا من نوع ” المينولتا “، أخذ اسامة يستعيرها من وقت لاخر، لالتقاط بعض الصور لطلاب مدرسته، فمنهم من يقف كالصنم يحبس نفسه حتى يسمع صوت الفلاش، ومنهم من يضع أصبعه على لحيته محاولاً التحديق نحو السماء كي يعطي عفوية وفتات أمل لصورته، وأما الاخر منهم يبقى عابس متجهم فالرجل جدية وهيبة حتى بالصورة، تتسارع نبضات قلوبهم عند سماع العد التنازلي لأخذ الصورة 3، 2،1، ( تشييز)، كانت للصورة هيبة ووقار تفرضه على المتصور، وأما بطلنا كان يعرف جيداً كيف يروض عدسته واصبعه لتجميد اللحظة.

من السذاجة أن يكبلك من حولك بالأصفاد ويظنوك أن تكتفي بالقليل المتوافر، فنظرة أهله لم تخرج عن مضمار الأغلبية فلم يجد أسامة أي تحفيز عائلي لتنمية طموحه بالتصوير” اهلي كأي شخص عادي لا يرى من الحياة سوى أطبائها ومهندسيها، واضعين أنفسهم تحت مظلة أن مهنة التصوير لا تُعيل من يعمل بها”، فعلى الرغم من عيشه داخل كنف أسرة ميسورة الحال، لكن هذا لم يجعله واقفاً مكتوف الأيدي، فلحلمه حق عليه، فبيديه الطريتان وجسده النحيل، دخل عراك العمل الدؤوب فحمل أكياس الباطون، وصعد ونزل مرات عدة، وجُرحت أصابعه وكفيه مرات كثيراً لكنه بقي موجهاً عينيه صوب حلمه باقتناء كاميرته الخاصة به، ولم يكن تعبه هباءاً منثورا .

 استطاع أســامة أن يُجمع مبلغ ليس بالقليل يُخوله لامتلاك كاميرا خاصة به، ويسترجع في صدى ذاكرته ” كانت وفرة كبيرة  بكاميرات رخيصة الثمن فجربت الكثير منها، لكنها كانت تخدم فقط الهواة، وليست للمحترفين، او الجادين بالعمل الصوري” ، لينجح في اَخر المطاف من  الوقوف على أول الطريق وامتلاكه لكاميرا من نوع ” بنتاكس ” كانت كاميرا مستعملة بسعر ثلاثمائة شواقل، لكنها كانت أول خيط يحاك في منظومة عمله .

الثلجة الكبرى ..

بعد أن قطع شوطاً كبيراً في تصوير الطبيعة واللحظات الجميلة لأصدقاءه، كان لا بد له أن يُثبت نفسه رسمياً في العمل، ويستطرد أسامة ” كان للمناسبات سمة لا تًشبه ما نحن عليه الان، فالكل حريص على تجميد لحظات الفرح، ولهم طقوسهم الخاصة، فالكل يشبه بعضه بشكل البسمة، والوقفة، وحتى ملابس الأعياد، لكن اتجاهي كان مختلف لا أريد أن أكون مصور تلك المناسبات فقط ” .

و كعروس بيضاء ترتدي جبال فلسطين حلة الثلج عام 1992م ، برودة الطقس توقظ بداخلك الشيء الدفين والجميل، تسرقك لتأخذ روحانية نفسك مشاعر النقاوة والصفاء، الكل أتقن وقتها تراجيديا الفرح والتغني بالثلج، وأسامة برع في إبقاء هذه السنة تنبض في ذاكرة من عاشها، فأحياناً كثيرة كي لا تخبو شعلة الحياة فينا نحتاج الى صورة خارج حدود الزمان والمكان بعيدة عن عثرات الواقع ومتاهات الحلم، لتُخبرنا بأنا عشنا أسمى اللحظات في إحدى أيامنا .

هي سنة  من أجمل ذكرياته فبسمته كشفت هذا ” أطفال يركضون بكرات الثلج المتطايرة، سحر الطبيعة البيضاء تُشبه الى حد كبير ملمس الحنين الى قلب أمي لتتسلل الى روحي مع خفقة هواء الشتاء بأن على هذه الأرض من يدعو لي، وبقية المشهد تكتمل بخروج الناس من بيوتهم متعطشين لوسيلة ما توقف اللحظة، وكنت أنا المصور المعروف وقتها وضحك الحظ لي كثيراً، فهي بدايتي الفعلية بالتصوير”.

مسار عمله ..

 في بداية حياته المهنية عمل مصوراً لصحيفة مساء البلد، وبقي الطابع السياسي هو سيد الموقف وموضوع الصور، فنشاطات الطلبة في الجامعات الفلسطينية، وضرب الحجارة هوٍ موضوع الساعة ومحط الأنظار، كانت فلسطين وقتها تنضح بالمواجهات والاحتجاجات، وعلى الرغم من محدودية عدسة الكاميرا، إلا أنها كانت ناجعة في تضميد جراح شعب بدأ يعايش الظلم والاستبداد، فالصورة كلمة لمن يقدر على ترجمتها، فهي تصل الى أقصى العالم حاملة في ثناياها رسالة وقضية، وتوالت الانجازات في منظومة السنوات هذه، ففي العام 1994م كانت  الحياة الجديدة المنبر الثاني لأسامة لنشر صوره بها، وفي ذلك الوقت كانت الحياة تُصدر بشكل أسبوعي .

وحتى تأسيس جريدة الأيام الفلسطينية عمل السلوادي مصوراً فيها بشكل رسمي، موضحاً “اتصلت بي الأيام عارضين علي فكرة العمل معهم، مُقابل مبلغ يصل ثلاثة أضعاف ما كنت أتقاضاه في تلك الفترة،  وبهذا خطى بطلنا مراتب  العمل الرسمي في مجال التصوير الصحفي الفلسطيني .

فالمستحيلات مع الحلم والطموح تغدو ممكنة، لينقله حلمه من العمل على المستوى المحلي الى منظومة الوكالات العالمية ، ليصل الى العمل مع وكالة الصحافة الفرنسية لمدة أربع سنوات، كرس من خلالها رسالة شعبه، وكشف النقاب عن الوجه الخفي اليانع لبلاده، من ثم توقف قطار مسيرة عمله عند محطة العمل في وكالة رويترز العالمية  ليمكث فيها مدة تزيد عن خمس سنوات، لكن شاءت الأقدار أن يتوقف عن العمل معها وأعزى ذلك الى ” أريد العمل لوحدي بمعزل عن بيئة العمل الاخباري، حيث غادر العمل فيها عام 2003 بعد سنوات من العمل المنقطع النظير، وعلى النهج ذاته عمل مصوراً صحفياً في الأراضي الفلسطينية لصالح وكالة جاما الفرنسية .

يقع على عاتقنا كوننا فلسطينين أن نُخرج من رحم أرضها ما يساهم بنقش اسمها أمام المحافل الدولية، فما كان على أسامة إلا أن يُتابع وتيرة الحلم الأولى دون تقاعص أو تخاذل، حيث بدأ في العام 2004بتأسيس وكالة “أبولو” لتكن أول وكالة تصوير فلسطينية متخصصة بالتصوير الفوتوغرافي بهدف كسر الاحتكار الأجنبي للصورة الفلسطينية، وتسويقها للعالم وفق ما يرتئيه القائمون على هذه الوكالات، وهو ما لا يصب غالباً في مصلحة الفلسطينيين، وكانت الأولى على المستوى العربي تعمل على توزيع صورنا إلى العالم بأيدينا، وتحتضن  صوراً للمشاهير، واستكمالاً لنهجه أتبعها بولادة مجلة ” وميض” في العام 2009، فهي أيضاً كسابقتها تُعني بالتصوير وتحمل في ثنايا صفحاتها رسالة صورة باللغة العربية والإنجليزية .

الصورة والوطن ..

ومن بياض الصورة وهدوءها الى صخب الشوارع وضجيجها، بعد الانطلاقة الفعلية للتصوير ومع حلول سنة 1993م فترة توقيع اتفاقية أوسلو، عجت فلسطين بحاراتها وشوارعها بالغضب العارم الممزوج بالروح الوطنية بعد صحوها من سباتها، ليكون لأسامة  بعمره العشرين دوراً بارزاً في تلك الفترة، يُلخصها ” بدأت بتصوير الأنشطة السياسية والفعاليات، وبالسنة نفسها عملت في استديو تصوير، لتُطغي السمة الرسمية على عملي”

ولعودة القوات الفلسطينية سيناريو يليق بها في حياة أســامة، فالصعاب خُلقت بالكون لتكون انت من يطوعها ويغلبها، ففي تلك الحقبة الزمنية القصيرة بمدتها، الأبدية بتأثيرها وببقاءها حية داخل حجرة ذاكرة من عايشوها، وبرمشة من عينيه أخذ يطيل الحديث عنها” بعد دخول القوات الفلسطينية الى أريحا وغزة أولاُ، بقيت المدن الأخرى تتجرع الصبر لتنتظر بشغف رؤية من عادوا الى الديار، وكانت وجهتي يومها مدينة جنين حيث رافقني أربعة مصورين، وأذكر أننا نمنا يومها في الشارع بسبب تأجيل موعد دخول القوات الفلسطينية”.

يصف ” نساء يعترين أسطح البيوت، والرجال موزعين كحبات منثورة على جوانب الطرقات، يرحبون بالقوات الفلسطينية العائدة الى الضفة، فالكل في سباق عارم ليلمس من يرتدي بدلة عسكرية لالتقاط صورة تذكارية معه، ربما لتمجيد نفسه فيما بعد أمام أبناءه أو حتى لتوبيخ أحفاده الفشلة الذين عجزوا عن معايشة اللباس العسكري في عصرهم هذا”، كانت دوافع الناس أوائل التسعينيات نحو التصوير تصب غالباً في الطابع الوطني، أســامة السلوادي شهد تلك الفترة وعايش حذافيرها ومنح كل ذي حقِ حقـه بالصورة وعلى وجه الخصوص أهالي حيفا الذي كان لهم النصيب الأوفر، لكن بقي عليهم شراء البرواز والاحتفاظ بالصورة .

يتذكر جيداً الصورة التي التقطها لأبو عمار” عندما حان دخول الرئيس ياسر عرفات الى المدن الفلسطينية، لأول مرة أصوره وهو في طيارة الهيلوكبتر عندما كان في جنين، وبعدها توجهنا  الى نابلس مباشرة،، حتى وصلنا بصعوبة، وشاهدت أناس يتسلقون الأشجار ، يتزاحمو ليشاهدو الرئيس، ويبادلونه بالتحية وبحركة أصبعيه الشهيرة ” .

عُرف بكوفيته وببدلته الزيتية، أبو عمار، كان الوجه الأكثر أُلفةٌ للصورة والأقرب معنى لمن يراه، رجل عسكري رائع،  قادر على انتشال شعبه بكلماته المغموسة بجرعات الأمل والثبات من غمرة الخوف والإحباط، كان أسامة مصوراً له لفترة لا يُستهان بها، حيث عايشه عن كثب،  فمن مشاعر مصورنا الدفينة صوب عمله كانت قربه من قائد شعب يرمي بكروبه وماَسيها على كاهل حامل الرسالة والصوت العالي صوب شعوب الأرض .

وللفلسطيني عنفوان يرتسم على لوحة وجهه، فشرارة نظراته وتحديه لبندقية الجندي، لوحة فهمها من يريد أن يسمع نحيب القضية، اصطادت عدسة أسامة ذاك الشاب المحمر الوجه، عاقد الحاجبين، وجندي لعين لم يعرف معنى الوطن، لم يخسر يوماً أرضاً ولا أماً، كأسد ينقض على فريسته يخشى إفلاتها، يحاول جاهداً  خنق ذاك الشباب بكنزته، فالارادة سيدة المشهد فأصابعه لا زالت تُعانق الحجر وبقلبه من القوة كثيراً ليتفجر في وجه عدوه، وفي هذه اللحظة لمع فلاش الكاميرا لتُجمد رسالة شعب تُهتك كرامته على مرأى العالم، لتُوثقها وكالة الصحافة الفرنسية وتقوم بنشرها .

ومضات فلسطينية ..

نأخـذ قسطاً من الراحة الوطنية، لتتجلى صفوة عيوننا كي نقدر على ملامسة قنديل وجه الأصالة والرقي لبلادنا، فعندما تهيمن الطبيعة علينا نصبح في حالة شرود عاطفي مع معشوقتنا فلسطين لنرسمها بأبهى حلتها، قصد أسامة المدن والقرى، فتش فيها، ليجد ما يدلل على الحضارة وروح الحياة والعمل في ربوع بلادنا، تلك المحاجر التي تكسو طرقات جنين أخذت حقها من صوره، فيذكر”اليد نفسها التي صورت المواجهات والرصاص، وأطفال الحجارة، وزمجرة العدو، هي نفسها راحت تجوب المحاجر، فللحجر بطولة رافقتنا نحن الفلسطينيين” .

صاحبة الحطة البيضاء والثوب الفلاحي الممزوج برائحة خبز الطابون والحطب، تجلس تلك العجوز أمام عتبة بيتها،  تتكأ على عصاها الخشبي الغليظ، تنتظر موعد الأذان، أو ربما عودة من غابوا عنها، والأرجح أنها لم تكن تنتظر شيء، فشواطئ يافا وحيفا قاحلة تشكو غربة الكوفية الفلسطينية، وضاع ما ضاع من الوطن وما بقي الا القليل، وفي غمرة الشرود هذه، حظيت بصورة تذكارية من مصورنا، وعلق عليها ” أعتقد أن هذه العجوز أكبر معمرة بالعالم كله ” .

تلك العروس المزركشة بالحلي والحناء، وأصوات الأهازيج والطبول من حولها، لحظات الفرح صاخبة في فلسطين لاتُشبه ترجمة الفرح في أي مكان اَخر، أجاد السلوادي بعدسته أن يأسرك الى عوالم السعادة الممزوجة بنكهة التراث، وكأن لوهلة تشعر أنك تسمع زغاريد النساء، ودبيب أقدام الرجال في صف الدبكة.

بلاد العطاء أوطاني، من نعم الله على فلسطين، لوحتها الطبيعية الملونة بأشجارها وأزهارها، فلصفار الليمون غصة تُـذكرني بمن حملوا السلاح واعتروا أغصانه ليحتموا به من عيون عدوهم، ولزهرة الاقحوان والجوري نصيبٌ من روايـة ظريف الطول، وتُلفتك حباتُ التين التي تحمل بثنياها الحمراء عسل يغدق عليك عطاء الأرض وشهامة أهلها، لم يترك أسامة هذه اللوحة التي تشبه الكمال بتنوعاتها بحالها، بل بقي حتى اليوم يُسخر شيئاً من كاميرته لها، فالوطن لم يكن في يوم من الأيام فقط الحرب بل هو الحب والطبيعة .

وللتراث نصيب ..

كثوب ترتديه العروس تعجز عن النظر إلى جزئية واحدة منه، فلا بد أن تخونك عيناك لتراه كله، وفلسطين هي ثوب العروس الذي يعج بالتفاصيل، ولعبق تراثها أسطورة تُحاكي العالم، أعاد السلوادي للتراث صيته ورونقه، فتوجه نحو توثيقه بالصور، وفي حنايا صفحات الكتب البيضا لم يُسطر بالكلمات وإنما زُين بألوان الثوب ونقش الحناء وضحكات بنات فلسطين والكوفيه وهي اللغز الذي أشغل العالم طويلاً .

 في كتب تذهل عين القارىء لروعتها، تصبو بك إلى شيء يُشبه الأحلام والأساطير، تتذوق البساطة والفخر، مدعومة برسالة مهمة تحاكي ضمائر العالم حول الادعاءات التي تُنسب الى هوية التراث، فمحاولة السرقة والتهويد أخذت الشغل الشاغل للعدو الإسرائيلي ليرتقي بها نحو براءة الذمة لما يقوم به إزاء الشعب الفلسطيني ، فالصورة هي سلاح أيضاً نقاوم به أقصى طاقات الإنتماء لمن عاشوا على تراب الوطن وخلدوا فيها ما يدلل على وجودهم .

فيذكر أسامـة ” باشرت بإصدار كتب مصورة تُوثق التراث الفلسطيني ، فأولها كان عام 1999 بعنوان ( المرأة الفلسطينية عطاء وإبداع)، فوجه فلسطين المشرق يكمُن بنساءها، وتلا هذا الكتاب في عام 2005 ( ها نحن)، وفي 2008 أصدرت كتاب بعنوان ( فلسطين.. كيف الحال) شهد حضوراً ناجحاً لإبـراز يوميـات الفلسطينين على مخـتلف الأصعدة، وفي عام 2010 ظهر للنـور كتابــي( القدس) كتاب الحصار الذي يوثق حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات و ( ملكات الحرير) الذي يوثق الازياء الفلسطينية الشعبية وكتاب بوح الحجارة الدي يوثق التراث المعماري الفلسطيني واخرا وليس اخرا كتاب الختيار وهو صور بورتريه للرئيس عرفات .. وينتظر اصدار كتاب ارض الورد قريبا وهو توثيق للزهور البرية في فلسطين .

وحرص أسامة دائماً في عمله على ضرورة إيصاله لأكبر شريحة ممكنة بالمجتمع، حيثُ أقيمت له العديد من المعارض على المستويين المحلي والعالمي، فشهدت أرض النيل على هذا ووقفت وحظي بتقدير لصوره من بعض الدول الأوربية التي احتضنت عدد لا يُستهان به من معارضه،

مُعلقات بالذاكرة ..

في أزقة الذاكرة أماكن مظلمة دائماً نخشى الرجوع لها، لكنها تبقى متجذرة تأبى النزوح منها، يستذكر أسامة أكثر أيام حياتها شقاءاً فترة حصار المقاطعة في رام الله عام 2002، ويُسهب بالحديث عنها” العمل الصحفي يطلب منك تضحية كبيرة، أن تُضحي بوقتك وصحتك وحياتك الأسرية”، أحداثاً خيالية وقعت تلك الفترة، أصوات القصف كرعد الشتاء، وزخات الرصاص تنهال على من يجوب الشوارع، حالة الذعر أستشرت بالمكان، وباتت المدن الفلسطينية وقتها كسجن كبير، ويُضيف” العمل كان مع الوكالات العالمية متعب للغاية، وإذا ما جال في خاطر العدو أن يقصف الساعة الثانية ليلاً فعلى مصورنا أن يخرج في ظلمة الليل الحالك ورهبة القصف الذي لا يعرف مصور ولا طفل، كي يقوم بعمله على النهج الذي يُرضي به ضميره.

بأجسادهم الثقالي يستلقون على أسطح البنايات، يتابعون بصمت طور الأحداث حتى يغلبهم النعاس، ومع بزوغ شمس صباح اليوم التالي، وكعادتها الشمس اعتادت أن تلامس التراب والشجر، لكنها في ذالك اليوم ارتطمت بمخلفات الدمار والأسلاك الحديدية التي كسرت شيئاً من ضوئها، وثق أسامة تلك الصورة، فعلى الرغم من ألمها وتناقضها للمألوف بالطبيعة إلا أنها رسخت فداحة ما قام به الإحتلال فترتها .

ولتكتمل مرارة اللوحة على الواقع، اقتحم الاحتلال العمارة التى اعتلى سطوحها مجموعة من الصحفيين والمصوريين، وبدأو بتفتيشها والتنقيب داخل مكاتبها، حتى وصل الأذى الى مكتب السلوادي، حيث قاموا بتكسير كل شيء قابل للكسر وعملوا على تمزيق الصور الأرشيفية المكدسة داخل خزانة خاصة له في المكتب، ويُعبر بمشاعر الحرقة والألم كأمٍ تحترق لوداع ابنها، “عز علي أرشيفي عندما وجدته ممزقة بالشفرات والسكاكين ،

رصاصة وحُلم ..

في اليوم السابع من شهر تشرين الأول لعام 2006، ألبس رمضان وشاح الروحانية على تلك الأيام، وعلى عجلة من أمره يُلملم كاميرته ولوازمه، يقصد في وجهته المسجد الأقصى ليُغطي صلاة الجمعة فيه، وأصوات الاَلاف من الناس يقبعون أسفل نافذته إحياءاً لتأبين أحد الشهداء في رام الله، وما أن أقترب قليلاً من النافذة حتى يُغلقها إلا وكانت وعلى غفلة رصاصة طائشة اصطادته لتبدأ رحلة السير داخل جسده .

صمت يُخيم على المشهد، بدأ يشرح لوحده ما حدث بعدها” استقرت تلك الرصاصة التي أخطئت الوُجهة في جسدي ، شعرت حينها بفقدان شعوري بالحركة، صرخت بأعلى صوتي، لمحت العديد من الأشخاص المتجمهرين حولي، والمحزن في الأمر أني أدركت بعد حين أن هناك من أراد أن يقدم لي إسعافاً أولياً، وهناك من سرق كاميرات ،   قديمة والتي يعود تاريخها لأكثر من 100 عام”.

لم تحن النهاية بعد، فلو تمعنا قليلاً لما يعتري طريقنا من محن لأيقنا بأن حكمة الله ببعث الأمل فينا سراً لن يشعر به إلا من قدم شيئاً قرباناً للأمل، أصبح يرافقه مع كاميرته كرسي متحرك، لكنه يشبه طريق النجاة للحلم، بهدوء وسلاسة اجتاز تلك الفاجعة، فلم يتخذ الزوايا ملاذاً له، ولم يُغلق على نفسه الأبواب، بل بُعث للحياة من جديد، فبعد صحوته من غيبوبته التي أخذت من عمره أربعين يوماً في عام 2006، أدرك حينها بأن للقضاء والقدر دوراً كبيراً في حياته .

 أيقن أسامة بأنه لا مناص له بالفرار من فكرة مرافقة ذاك الكرسي، فيشرح  وهو يلامس حواف كرسيــه” حينما علمت بأني أصبحت مقعداً وأني بحاجة إلي تأهيل خاص، لم يخطر على مخيلتي سوى كاميرتي، كظمت غيظي وحزمت أمري بأن هذا أمر مفروغ منه، فقررت أن لا أقبع خلف ترسانة حديد الكرسي، طلبت الكاميرا وكأن شيئاً لم يحصل. وقررت في أيامي العجاف تلك أن أقدم تصوير توثيقي يختص بحياة المشافي، فمن الجيد أن تغتنم الفرص لتُقدم رسالة، وعندما خرج من المشفى بالشكل النهائي  عدت لأزاول مهنتي كما كنت فالإصابة لم تعطني سوى جرعة صبر وأمل، ويتذكر أسامة ” أول ما قمت به بعد خروجي من المشفى، هو أنني فتحت مكتب أبولو من جديد”.

عظمة يا ست ..

في المساكن الدفينة التي تعشعش فينا، تُربت بعض الأصوات عليها لتنتشلنا من زلات الحياة وتلوثها، أم كلثوم صوتٌ عذبٌ يتسلسل في حنايا أذن أسامة يخلق النشوة بالطرب الأصيل، يستشعر عظمة أيام تبعثرت مع بقايا السجائر، تستنشق عبق المقاهي، يتردد في أذنيك أصوات طاولة الزهر، وأحيانا وقع كعب بنت الحارة التي تسترق السمع للشباب في الأزقة الضيقة، هي لوحة تكاملية ترسمها أم كلثوم عند الترنم بعذوبة كلامها .

يرتبط السلوادي بعلاقة أحيكت بحبكة الفن والذوق الرفيع مع سيدة الطرب، يحفظ لها الكثير ويختزل لها في ذاكرته حجرة مميزة مفعمة بكلمات أغانيها وروح العبارات التي كتبها لها عبد الوهاب وغيره، بابتسامته البسيطة” أم كلثوم أفضل سيدة غناء مرت على هذه الأرض، فلو عاد الزمن قليلاً للوارء، لخلدت لها الكثير من اللحظات، ولوقفتُ إجلالاً لوقار هذا الصوت الذهبي المرصع بالرزانة”.

وللحلم بقية ..

 اطلق اسامة مؤخرا وكالة الصورة العربية من فلسطين ليكمل مشوار الريادة في التصوير في الوطن العربي .

ويكيبيديا

أسامة سلوادي :

 

مصور صحفي فلسطيني ولد في رام الله – فلسطين في 14/شباط 1973 . بدأ حياته المهنية قبل اثنين و عشرين عاماً، أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى حيث واجه الكثير من الصعوبات والمخاطر التي تواجه كل من يعمل في التصوير الصحفي في مناطق الصراعات . في التاسعة عشرة من عمره بدا العمل مع العديد من المؤسسات الصحفية المحلية ثم انتقل الى العمل مع وكالة الصحافة الفرنسية لمدة اربع سنوات من ثم انتقل الى العمل مع وكالة رويترز العالمية لمدة اكثر من خمس سنوات ومن ثم كمصور رئيسي في الاراضي الفلسطينية لصالح وكالة جاما الفرنسية وفي العام 2004 اسس وكالة ابولو وهي اول وكالة تصوير فلسطينية ، في العام 2009 اسس مجلة وميض ورأس تحريرها و بالاضافة الى التصوير الاخباري عمل اسامة سلوادي على توثيق الحياة اليومية للشعب الفلسطيني

من خلال العديد من القصص والمشاريع التوثيقية المصورة حيث اتجه اسامة نحو مشروع لتوثيق التراث الفلسطيني بالصورة والاهتمام بالتاريخ المصور للشعب الفلسطيني ، صدر للسلوادي ثمانية كتب وهي “المرأة الفلسطينية عطاء وابداع “سنة 1999 ،”ها نحن” 2005 ، كتاب ” فلسطين … كيف الحال ” 2008. كتاب “الحصار” 2008 . كتاب ” القدس ” 2010 , كتاب ” ملكات الحرير” 2012. كتاب “بوح الحجارة ” 2014 ، وكتاب ” الختيار ” 2014 صور بورتريه للرئيس الراحل ياسر عرفات .

نشرت صورالسلوادي في كبريات الصحف والمجلات العالمية خلال فترة عمله مثل مجلة ناشيونال جيوغرافيك التايم ونيوززيك .اقام سلوادي العديد من المعارض محليا وعالميا حيث عرض في فلسطين والأردن ومصر والامارات العربية المتحدة و ايطاليا والولايات المتحدة الامريكية وفرنسا. و في 7 تشرين الأول عام 2006، تعرض اسامة لاصابة خطيرة حيث اصيب برصاصة طائشة خلال مسيرة وسط مدينة رام الله، ادت لاصابتة بشلل نصفي في الاطراف السفلى .

تغطيات مهمة :

إنشاء السلطة الفلسطينية ودخول القوات الفلسطينية إلى مدن في الضفة الغربية في عام 1995

دخول الرئيس الراحل ياسر عرفات لمدن الضفة الغربية بعد اتفاقية أوسلو في عام 1995

أول انتخابات فلسطينية في عام 1996

مشروع توثيق الحياة البدوية الفلسطينية من عام 1997 حتى عام 2000

مشروع توثيق التراث الفلسطيني من عام 1997 حتى الوقت الحاضر. اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لمدينة رام الله عام 2002.

حصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في عام 2004- 2002 مرض ووفاة الرئيس الفلسطيني ياسر الفلسطيني في عام 2004.

الانتخابات الرئاسية الفلسطينية وتولي الرئيس محمود عباس مقاليد الحكم 2005 الانتخابات التشريعية في عام 2006 وفوز حركة حماس

التكريمات والجوائز

حصل اسامة على الكثير من شهادات التقدير والميداليات والتكريمات منها :

1996شهادة تقدير من وزراة الثقافة الفلسطينية لتغطية احداث انتفاضة النفق

1999 المركز الثاني في مهرجان التصوير الدولي في العراق.

2000 تكريم من قبل نقابة الصحفيين الفلسطينيين.

2010 تكريم من قبل مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام الوثائقية

2012 الميدالية الذهبية للاستحقاق والتميز من الرئيس محمود عباس

2014 تكريم من قبل إتحاد كتاب وأدباء فلسطين واللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم ومنح لقب “عين فلسطين”

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.